هل يمكن أن تعجل معاهدة لحظر الأسلحة النووية بإلغائها؟

وسط اعتراضات من معظم الدول النووية، أقرت لجنة تابعة للأمم المتحدة معنية بنزع السلاح والأمن بأغلبية كبيرة في أكتوبر الماضي قرارًا يأمر بإطلاق المفاوضات بشأن معاهدة لحظر الأسلحة النووية. ذلك أن الحظر الفوري والكلي كان سيتعارض بشكل صارخ مع معاهدة عدم الانتشار النووي، التي تجيز لخمس دول الاحتفاظ بالأسلحة النووية لوقت غير محدد – على أن "تواصل هذه الدول في الوقت ذاته التفاوض بأمانة ونزاهة... بشأن معاهدة لنزع السلاح النووي بشكل عام وكامل تحت مراقبة دولية شديدة وفعالة".  ويُتوقع أن تصدق الجمعية العامة للأمم المتحدة على القرار هذا الشهر، الأمر الذي سيتمخض عنه عقد مؤتمرات في عام 2017 للتفاوض بشأن معاهدة للحظر. وعلى فرضية عقد المؤتمرات بالفعل، فما الذي ينبغي أن تستتبعه هذه المعاهدة التي قد تنتج عن تلك المؤتمرات؟ وهل يمكن أن تنجح في الإسراع بوتيرة عملية نزع السلاح النووي؟

Round 1

إلغاء الأسلحة النووية يتطلب نزع قناعها الجميل

لقد وصل العصر الذهبي للردع إلى نهايته، ولم يعد الأسلحة النووية مكان تحت الأضواء، بعد أن كانت يومًا نجم المسرح الدولي.

ولا شك أن بعض صانعي السياسات لايزالون ينسبون للأسلحة النووية نفس المكانة والسمعة الكبيرة التي اكتسبتها إبان الحرب النووية بفضل قوتها التدميرية التي لا مثيل لها آنذاك، وبسبب النفوذ التي منحته للدول النووية على الساحة الدولية. لكن بيئة الحرب الباردة، التي لعبت فيها الأسلحة النووية للقوتين العظميين دورًا حيويًا في الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي، لم تعد موجودة. كما أنه لم يعد محتملًا أن تتكرر تلك الظروف مستقبلا – رغم أن بعض نقاط التشابه والتوازي التي كانت تميز العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي أثناء الحرب الباردة لاتزال موجودة في علاقات الولايات المتحدة وروسيا اليوم. في الوقت ذاته، نجد واضحًا للأسف أن الردع النووي غير مجدٍ في مواجهة التنظيمات الإرهابية التخريبية التي يحركها التعصب الديني. ولو حصلت مجموعة من تلك المجموعات على سلاح نووي واستخدمته، فربما لن يكون هناك “عنوان للرد” يمكن توجيه الانتقام نحوه. وربما لا يخشى الإرهابيون المخربون الدمار من الأساس.

وبما أن العصر الذهبي للردع قد انتهى، أصبح حظر الأسلحة النووية أمرًا قابل للتحقيق – طالما أمكن تقويض القيمة التي ينسبها صانعو السياسات لهذه الأسلحة. لقد حان الوقت لنزع القناع الجميل الذي كان يُخفي الوجه القبيح للأسلحة النووية طوال فترة الحرب العالمية. حان الوقت لأن يعامل العالم الأسلحة النووية كما يعامل الأسلحة الكيميائية والبيولوجية – وهي من أسلحة الدمار الشامل أيضًا – على أنها أسلحة للقتل فقط، ولا تستحق مكانة أو احتراما. حان الوقت لحظر الأسلحة النووية – تمامًا كما حُظرت الأسلحة البيولوجية والكيميائية بموجب اتفاقية الأسلحة البيولوجية والسامة، واتفاقية الأسلحة الكيميائية.  

لماذا الآن. اختُرعت الأسلحة على مر التاريخ لأسباب متنوعة، لكن الغرض الرئيس كان قتل العدو. وطالما أن هناك سلاح، فسوف يُستخدم إن آجلًا او عاجلًا – لا سيما إذا ضعفت أو اختفت العوامل التي يمكن أن تقلل من إمكانية استخدامه، كمعاهدات السلام والبيئات السياسية المستقرة، والقيادة الرشيدة، وقدرات الردع. 

لكن هل يمكننا الاعتماد، في عالمنا الحالي وكذلك في المستقبل القريب،على قيادة سياسية رشيدة للحفاظ على بيئة دولية مستقرة لن تُستخدم فيها الأسلحة النووية؟ من الصعب الإجابة بـ”نعم”، فالطريقة المضمونة الوحيدة لمنع الكارثة النووية هي حظر إنتاج هذه الأسلحة والتخلص منها للأبد. ولا شك أن العالم سيصبح أقل أمانًا بدرجة كبيرة إذا لم يتم التخلص من الأسلحة النووية عاجلًا، خاصة لو أخذنا في الاعتبار تزايد قدرة كثير من الدول والفاعلين من غير الدول على إتقان المعرفة العلمية والمهارات التكنولوجية اللازمة لبناء أجهزة تفجيرية نووية، سواء بسيطة أو معقدة. لقد أخفق الهيكل الموجود لنزع السلاح وعدم الانتشار في تحقيق هدف نزع الأسلحة حتى الآن، ويبدو أنه لن ينجح على الأرجح في تحقيق ذلك في المستقبل القريب. وبالتالي لابد من معاهدة الحظر.

البنود الواجب تضمينها. يصبح السؤال إذًا عن ما ينبغي أن تستتبعه أي معاهدة لحظر الأسلحة النووية. بداية وقبل كل شيئ، ينبغى أن تكفل المعاهدة لكل الدول الملتزمين بها التمتع بنفس الحقوق في الاستخدامات السلمية للطاقة النووية التي تتمتع بها حاليًا الدول غير النووية بموجب معاهدة عدم الانتشار النووي. بمعنى أن الصفقة الأساسية التي جذبت دولًا كثيرة للانضمام لمعاهدة عدم الانتشار –  مع حذف خيار بناء أسلحة نووية مقابل المساعدة في التطبيقات السلمية للطاقة النووية – ينبغي الإبقاء عليها في المعاهدة الجديدة. كما ينبغي أن تواصل الوكالة الدولية للطاقة الذرية تحمل مسؤوليتها في مساعدة الدول في مشاريع الطاقة النووية. 
    
ثانيًا: ينبغي أن تؤسس معاهدة الحظر آليةً فعالةً للتحقق – لكن قد لا يكون ذلك من خلال الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتشكيلها الحالي. فعلى فرضية أن الدول النووية سيتحتم عليها يومًا الانضمام لمعاهدة الحظر حال نجاحها، فلا يمكن أن تهيمن الدول النووية على آليات التحقق الخاصة بالمعاهدة، كما هي مهيمنةٌ على الوكالة حاليًا. وقد تمثل منظمة حظر الأسلحة الكيميائية قالبًا أكثر فعالية وفائدة في هذا الصدد. فقد نفذت هذه المنظمة حتى الآن العمل المنوط بها فيما يتعلق بالتخلص من الأسحة الكيميائية بطريقة عادلة وفعالة وفي الوقت المناسب.

ثالثًا: إن أي معاهدة للحظر ستحول العالم بأسره إلى منطقة خالية من الأسلحة النووية بمجرد أن تصبح هذه  المعاهدة عالمية. لذا ينبغي أن تكون شروط المناطق الموجودة حاليًا مصدر إلهام لمن سيضعون مسودة المعاهدة الجديدة، خاصة فيما يتعلق بالحقوق والمسؤوليات.

أسباب تدعو للتفاؤل. قد تكون فرص نجاح معاهدة الحظر في تحقيق هدف نزع التسلح ليست بأسوأ من فرص معاهدة منع الانتشار- بل ربما تكون أفضل. وأحد العوامل التي تصب في صالح معاهدة الحظر أن أي دولة لن ترى فيها تهديدًا حقيقيًا لها. فالدول غير النووية لا ترى اليوم أي تهديد في معاهدة عدم الانتشار – وفي حال عولمة اتفاقية الحظر، ستصير كل الدول غير نووية. ولن يستطيع بلد التجبر على جيرانه بتهديدات استخدام الأسلحة النووية.

هناك عامل آخر مساعد، وهو أن التحركات الخاصة بمعاهدة الحظر يمكن أن تبني على نظام نزع التسلح الموجود، الذي تشارك فيه كل الدول عدا أربع – هي إسرائيل، والهند، وباكستان، وكوريا الشمالية. ومن بين هذه الدول الأربع، امتنعت الهند وباكستان عن التصويت على معاهدة الحظر الذي جرى في أكتوبر الماضي.  ويجب اعتبار امتناعهما علامات إيجابية على إمكانية نجاح معاهدة الحظر في تحقيق نزع كلي للأسلحة. كذلك امتنعت الصين أيضًا عن التصويت، وهو ما يمكن قراءته كإعلان من بكين بأنها غير خائفة من عالم خال من الأسلحة النووية، حتى لو كان لها امتياز احتفاظها بوضع نووي رسمي.     

ثمة امتناع آخر مثير للاهتمام كان من جانب هولندا،وهي عضو بحلف الناتو الذي صوتت بقية أعضائه ضد القرار. كما أن هولندا هي إحدى خمس دول أوروبية تستضيف أسلحة نووية تكتيكية خاصة بالولايات المتحدة، وذلك كجزء من اتفاقية دول الناتو لتقاسم العبء النووي. وربما يمثل امتناع هولندا صدعًا في الدرع الذي أسسته الولايات المتحدة ودول أخرى مسلحة نوويًا لحماية أسلحتها النووية من مبادرة معاهدة الحظر.    

هل يمكن أن تكون معاهدة الحظر كافية للتخلص من الأسلحة النووية؟ قد يقول البعض بأنها ستكون مسعى فاشلًا، لا سيما مع امتناع الدول التي تمتلك غالبية المخزون النووي العالمي عن تبني معاهدة المبادرة. لكن ربما كانت هذه النظرة قصيرة المدى. فقد لا تستطيع المعاهدة إنهاء سطوة الأسلحة النووية من تلقاء نفسها، حتى في المستقبل القريب، لكن يمكن أن نتوقع أن تخلق وصمة عار عالمية تحيط بالأسلحة النووية – مما قد يؤشر لبداية النهاية. وقد لا تكون مفاجأة إذا اعتبرت المعاهدة، بعد عقود من الآن، الأساس لعالم خال من الأسلحة النووية.   

تقييم معاهدة الحظر من وجهة نظر أوكرانية

عندما صوتت اللجنة الأولى التابعة للأمم المتحدة في أكتوبر الماضي على إطلاق مؤتمرات للتفاوض بشأن معاهدة لحظر الأسلحة النووية، رجحت التوقعات أن تصوت دول مثل أوكرانيا لصالح القرار.  فأوكرانيا هي من ورثت بنهاية الحرب الباردة ثالث أكبر مفاعل نووي في العالم من الاتحاد السوفيتي – لكن كييف تنازلت عنه. كما انضمت أوكرانيا أيضًا لمعاهدة عدم الانتشار النووي كدولة غير نووية، ولا تزال عضوًا ملتزما بالمعاهدة. علاوة على ذلك، فإن أوكرانيا تهددها من الشرق إحدى أكبر قوتين نوويتين في العالم – بينما لا تستفيد من قوة الردع النووي التي تمتلكها القوة الأخرى. ولذا فمن الطبيعي أن تكون أوكرانيا قد صوتت لصالح حظر القنبلة – صحيح؟

بل خطأ. فقد صوتت 100 دولة لصالح وضع معاهدة حظر، واعترضت عليها 38 – أغلبها دول نووية، إضافة إلى دول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو المتحالفة مع الولايات المتحدة. كما امتنعت 16 دولة عن التصويت. أما أوكرانيا، فلم تُدل بصوتها – وهو ما يعتبر صورة أخف من صور الامتناع.   

فهل تخلت أوكرانيا عن مبدأ نزع السلاح النووي؟ وهل تخفي كييف أي خطط لامتلاك رادع نووي خاص بها. هل فقدت أوكرانيا إيمانها بالاتفاقيات الدولية؟

في عام 1994، عندما تخلت أوكرانيا عن أسلحتها النووية، وقعت روسيا والولايات المتحدة وقوى أخرى مذكرة بودابست، وهي اتفاقية كانت من المفترض أن تحمي أوكرانيا من اي هجوم نووي (وتلك نقطة شددت عليها روسيا كثيرا)، وأن تحافظ على سلامة أراضيها (وهو ما لم تؤكد عليه روسيا). ومنذ أحداث عام 2014، عندما ضمت روسيا القرم واشتعلت الحرب في إقليم دونباس شرقي أوكرانيا، تبين حينها أنه ليست لمذكرة بودابست قيمة تذكر. وقد كانت تلك الأحداث بمثابة نقطة تحول في المواقف الأوكرانية تجاه قوة وفعالية الاتفاقيات الدولية.

فحتى عام 2014، كانت أوكرانيا تعتقد أن مذكرة بودابست تشكل أساسًا أمنيًا متينا. وكانت العقيدة العسكرية الأوكرانية في عام 2012 تؤكد أن الردع أمر يعود إلى “مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة… إضافة إلى الدول الضامنة لأمن أوكرانيا وفقًا لما نصت عليه مذكرة بودابست”. لكن في عام 2015، بدا خطاب الرئيس الأوكراني إلى البرلمان مختلفًا كليةً – حيث جاء في الخطاب أن تجربة أوكرانيا “أوضحت جليًا أن التخلي عن الوضع النووي في اتفاقية دولية… لا يعطي في الواقع أية ضمانات أمنية حقيقية”. حقًا، لقد كانت الدولة التي هاجمت أوكرانيا عام 2014 من بين الدول الضامنة لأمن كييف بموجب مذكرة بودابست. ليس هذا فحسب، بل لقد أصدرت روسيا تهديدات نووية لمنع الدول الأخرى من تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا.

إذًا فالسؤال هنا هو: هل فقدت أوكرانيا إيمانها بالخيار غير النووي وأبدلته بإيمانٍ في الردع النووي؟ حقيقيةً هناك أدلة تشير إلى هذا الاتجاه. ففي عام 2014، قُدم للبرلمان الأوكراني مشروع قانون للانسحاب من معاهدة عدم الانتشار النووي، إضافة إلى مشروع قانون آخر كان من شأنه أن يقود أوكرانيا إلى تطوير أسلحة نووية. في عام  2014 أيضًا، أظهر استطلاع للرأي العام أن 49 بالمئة من المشاركين فيه يؤمنون بضرورة أن تسترد أوكرانيا وضعها كدولة نووية.

لكن ليس هناك قلق كبير بين الخبراء الأوكرانيين من أن تسلك الدولة المسار النووي. وهذا يرجع جزئيًا إلى حقيقة أن نسبة صغيرة جدًا فقط هي التي تعتقد بأن أوكرانيا ستفعل ذلك، حتى بين أولئك العامة الذين يرون أن كييف بحاجة لتطوير أسلحة نووية. ورغم ذلك، أضحى هناك تشكك ما تجاه مبدأ نزع السلاح النووي يمكن رؤيته في أوكرانيا اليوم، وذلك مثلًا في تنامي طموحات الانضمام إلى الناتو– زادت نسبة الأوكرانيين المؤيدين للانضمام لعضوية الناتو إلى 78 بالمئة في عام 2016 من 15 بالمئة فقط قبل ثلاثة أعوام، إذ يميل الأوكرانيون إلى الاعتقاد بأن قوة الردع النووية الممتدة للناتو يمكن الاعتماد عليها إلى حد كبير. أوكرانيا ليست بالطبع عضوا بالناتو، ولا تستطيع الاستفادة من بنود المادة الخامسة للمنظمة الخاصة بالدفاع الجماعي (رغم إعلان الحكومة رسمياً أن عضوية الناتو هدف سياسي).     

إن امتناع كييف عن التصويت على اتفاقية حظر السلاح النووي يمكن وصفه بأنه تعبير عن التضامن مع المظلة النووية الأميركية، وهو تضامن أظهره معظم أعضاء الناتو أيضًا. فالردع النووي الأميركي الممتد يمثل لأوكرانيا سرابًا لم يتبدد بعد، على العكس من مذكرة بودابست التي تبددت بالفعل. وربما قصدت أوكرانيا بامتناعها أن تُذكر العالم أن الردع الممتد يعمل كمحفز لعدم الانتشار. ولا شك أن هذا النوع من التفكير ينبع من أحد نماذج الواقعية الجديدة، التي قد تكون غير مرغوبة، لكن أحداث 2014 تثبت صعوبة تحاشي مثل هذه النظرة الذاتية غير الموضوعية للعالم عندما يتبناها ويطبقها جارك بقوة.          

ربما امتنعت أوكرانيا عن التصويت على اتفاقية الحظر، لكن من بين أهدافها السياسية وضع مسودة لمعاهدة دولية تقدم ضمانات بأن لا تستخدم الدول النووية أسلحتها ضد الدول غير النووية. وينبغي تقديم مثل هذه الضمانات داخل إطار عمل معاهدة عدم الانتشار النووي –  وهي آلية أثبتت فعاليتها نسبيًا منذ عام 1968. ورغم أن هذه المعاهدة لا تؤدي دورها بشكل تام، فإنها تدعم قيم ومصالح الدول الاعضاء فيما يتعلق بقضايا الطاقة النووية، والأمن الدولي، والردع الممتد. فهل يمكن تحسينها؟ نعم، لكن ربما هذا السبب تحديدًا هو ما يجعل أوكرانيا راغبة في وضع مسودة لمعاهدة تتعلق بالضمانات الأمنية  داخل هيكل معاهدة عدم الانتشار النووي.   

على الجانب الآخر، فإن اتفاقية الحظر المقترحة قد تنشأ خارج هيكل معاهدة عدم الانتشار النووي. فمع تصويت 38 دولة ضدها، يبدو جليًا أن العالم لا يزال غير جاهز لحظر كامل على الأسلحة النووية. وحتى لو دعمت كل الدول فكرة تحاشي الحروب المدمرة، هناك معسكران منفصلان ينظران إلى الكفاح من أجل السلام العالمي من زاويتين مختلفتين.

تتميز معاهدة عدم الانتشار، رغم ما بها من عيوب، بأنها تأخذ في اعتبارها كلتي وجهتي النظر، وهو ما قد تفشل المعاهدة المقترحة في تحقيقه. فقد تقوم بعض الدول بحظر الأسلحة النووية، وقد تمتنع عن ذلك دول أخرى. وقد يؤول مصير المعاهدة لمصير ميثاق كيلوج بريان – وهو اتفاق وقع عام 1928 لحظر الحرب – حيث وافق عليه الجميع لكن لم يأخذه أحد بجدية. ومن وجهة نظر أخرى، قد تثبت المعاهدة الجديدة أنها ذات قوة حقيقية، وتجرد معاهدة عدم الانتشار من كل صلاحيتها. لكن إذا تبين أن المعاهدة الجديدة أفضل أخلاقيًا وأكثر مساواة من معاهدة عدم الانتشار، فهل ستصمد تلك الأخيرة أمام هذا التحدي؟ أم أنها ستتآكل تدريجيًا؟ وإذا تآكلت، كيف ستكون استجابة تلك الدول التي تعتبر الأسلحة النووية مسألة كبرياء قومي وعظمة وسيادة؟ كيف سيكون رد فعل الدول الخائفة من هجوم جيرانها الأقوياء؟ ألا يمكن أن تخلق المعاهدة الجديدة كابوسًا حقيقيًا من التنافس الفوضوي غير المحدود الذي يقاتل فيه الجميع بعضه، مستخدمين كل الأسلحة الممكنة؟ ماذا يحدث عندما تُهجر القواعد القديمة بينما ترفض دول عديدة القواعد الجديدة؟

إذا أخفقت المعاهدة الجديدة في إلغاء الأسلحة النووية وأضعفت معاهدة عدم الانتشار النووي بشدة بعد أن تحل محلها، فإن الأخطار التي ستحيط بالنظام النووي العالمي قد تكون وخيمة. 

معاهدة الحظر: خطوة مرحلية لكنها عميقة سياسيا

حان الوقت لوضع حجر البناء الكبير التالي في العملية الهادفة لإخلاء العالم من السلاح النووي– ألا وهي: معاهدة لحظر الأسلحة النووية.  

كانت معاهدة عدم الانتشار النووي، التي دخلت حيز التنفيذ عام 1970، أول لبنةِ بناءٍ كبرى في مساعي تأسيس عالم خالٍ من الأسلحة النووية والحفاظ عليه. وقد يكون حجر البناء الثالث ميثاقًا نوويًا يلخص الجداول الزمنية، والنقاط الفنية، وآليات التحقق المرتبطة بعملية التخلص من الأسلحة النووية.     

وهذا يعطينا فكرة عن ما يمكن أن تضمه بنود معاهدة الحظر – حجر البناء الثاني بين الأحجار الثلاثة الكبرى – ولماذا هي ضرورية. لكن لماذا أقول بأن الآن هو الوقت المناسب؟

تتلخص إحدى الإجابات عن هذا السؤال في حقيقة أن الكثير من الدول غير النووية قد نفد صبرها من بطْ وتيرة عملية نزع السلاح. لكن النزعة القومية التى تبدو حاليًا في السياسة الدولية – كما ظهر جليًا في تصويت المملكة المتحدة بالخروج من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة – قد أضاف ضرورة ملحة جديدة لمبادرة معاهدة الحظر. فالتحريم النووي الذي ظهر وتطور منذ استخدام القنابل الذرية ضد اليابان في عام 1945 يبدو اليوم مهددا.

يمنع التحريم النووي استخدام الأسلحة النووية، كما يعزز عدم استخدم الأسلحة هذا التحريم في المقابل. ولا شك أن قاعدة كالتحريم تتطور بمرور الوقت إلى فعل ما، تأثرًا بما ماهو ملائم وصحيح وأخلاقي ومعقول، وقد تُطبق أو لا تُطبق. وفي كل مرة، قد يكون هناك تصور باستخدام الأسلحة النووية في النزاع، لكن لأن استخدامها يُعد استجابة غير ملائمة للموقف ومناقض لقيم أي مجتمع (سواء مجتمع محلي أو دولي)، فإن التحريم يقوى ويتعزز. أما في الأجواء القومية المحيطة بنا في هذه الأيام، لا أستبعد أن تشعل التصريحات المتهورة مجددًا في الخيالات فكرة إمكانية استخدام الأسلحة النووية.

ينبغي أن ترفع معاهدة الحظر التحريم النووي إلى مستوى تحريم مطلق – بأن يصبح استخدام أي سلاح نووي أمرًا غير وارد وغير متصور. كما يجب أن يغلق الحظر الثغرة التي تركتها محكمة العدل الدولية في عام 1996 عندما أصدرت حكمها بشأن شرعية استخدام الأسلحة النووية، حيث قررت المحكمة أنها لا تستطيع أن “تتوصل بشكل قاطع إلى تحديد شرعية أو عدم شرعية التهديد بالأسلحة النووية أو استخدامها في حالة وجود ضرورة شديدة للدفاع عن النفس تهدد بقاء أي دولة”. فيجب أن يوضح الحظر صراحةً أنه لا يمكن تصور وجود مبرر لاستخدام الأسلحة النووية، أو حتى التهديد باستخدامها في أي موقف كان. وبهذا سيكون الحظر أداة للوصول لنهاية اللعبة التي يصبح عندها عدم استخدام الأسلحة النووية قواعد آمرة بلغة القانون – وتعني قواعد باتة أو قانون ملزم يقبله الجميع دون تردد، ولا يُسمح لأي أحد في أي وقت، أو تحت أي ظرف الاستهانة به.

لكن النظر في الحالات الخاصة للسلوك البشري (مثل استخدام السلاح النووي) من منظور القواعد الآمرة يتطلب عملًا سياسيًا. فلكي يكون التحريم النووي باتًا، يجب أن يقبله ويعترف به المجتمع الدولي بأسره كأمر بات وملزم. عندئذ تكون معاهدة الحظر أداة لخلخلة وزعزعة تلك الطمأنينة التي يشعر بها هؤلاء الذين لا يزالون يؤمنون بأن منطق الردع (أو الدمار المؤكد المتبادل) يوفر أساسًا منطقيًا أمنيًا للأسلحة النووية. وبدلا من منطق الردع، سيؤسس الحظر لفكرة أن الأمن موجود في منطق الامتناع المؤكد المتبادل عن الخيار النووي.     

مخلوقات بغيضة. باتت مسألة عقد مؤتمر للتفاوض بشأن معاهدة لحظر الأسلحة النووية أمرًا وشيكًا نظرًا للعمل السياسي المشترك الذي قامت به بالفعل الدول والفاعلون من غير الدول. ويعرف هذا العمل السياسي بالمبادرة الإنسانية. ولقد حولت هذه المبادرة الإنسانية بؤرة تركيز الحظر النووي من الفاعلين إلى التكنولوجيا. فمعاهدة عدم الانتشار، رغم نجاحها المدوي في احتواء الأسلحة النووية، تركز على الفاعلين – سواء هؤلاء الذين يملكون أسلحة نووية أو هؤلاء الذين لا يملكونها. ورغم أن هذه المعاهدة تلزم كل الدول بالتفاوض لنزع السلاح بشكل عام وكامل وأمين، إلا أنها لا تشترط موعدًا نهائيًا لمثل تلك المفاوضات.  ولقد استُغلت هذه الثغرة بدهاء كوسيلة لإبقاء الأسلحة النووية في الأيدي “الصحيحة” وإبعادها عن الأيدي “الخطأ”. من ناحية أخرى، فإن من شأن أي معاهدة للحظر أن تعتبر كل الأسلحة النووية غير إنسانية، حتى وإن كانت  في تلك الأيدي التي يُنظر إليها على أنها “طيبة”، فإنها ستكون أيضًا غير شرعية.
 
ويمكن أن تؤدي معاهدة الحظر دورها على مستوى معياري بجعل الأسلحة النووية وصمة عار للجميع، وبالتالي توصم الدول التي تحتفظ بهذه الأسلحة بالعار – حتى لو لم توقع على معاهدة الحظر. وفي نظر العامة، يجب أن تُرى الدول التي تمتلك أسلحة نووية (وكذلك المدافعون عنهم) على أنهم الوحش جولوم، تلك الشخصية البغيضة في كتاب جيه. آر. آر. تولكين سيد الخواتم، الذي يقول:” نحن نريدها، نحن نحتاجها. يجب أن نمتلك النفيس والعزيز”. لا شك أن الحظر سيكون أداة قانونية مهمة، لكنه أيضًا سيكون أداة سياسية يستطيع حولها النشطاء – سواء الدول، أو الأفراد، أو المجتمع الدولي – القيام بالمزيد من العمل السياسي لإيجاد وإرساء المنطق السليم الذي يقول بأن امتلاك الأسلحة النووية أمر غير أخلاقي وغير مقبول.        

خلق واقع. إذًا، ما الذي ينبغي أن تشتمل عليه معاهدة الحظر؟ أحد الدلائل التي يمكن أن نتبعها في هذا الصدد يأتي من تجربة بلادي، جنوب أفريقيا، التي كانت تمتلك من قبل أسلحة نووية لكنها تخلصت منها. فقد ضربت جنوب أفريقيا مثلًا أخلاقيًا عاليًا عندما تخلت عن سلاحها النووي في عام 1990، وأي دولة نووية أخرى تخلصت من سلاحها النووي ربما حذت حذوها. فالتخلي عن الأسلحة النووية إنجاز يستحق الاحتفاء من جانب المجتمع الدولي، وأي معاهدة للحظر ينبغي أن تشتمل على لغة إيجابية للإغراء بالتخلي عن السلاح النووي.

إضافة إلى ذلك، يمكن أن تؤكد معاهدة الحظر في مقدمتها على أن الدول الأعضاء “شغوفة لرؤية الدول المالكة للأسلحة النووية تقود الجهود للوصول إلى عالم خالٍ من الأسلحة النووية والحفاظ عليه بإطلاق المفاوضات بشأن ميثاق للأسلحة النووية”. ويمكن إضافة إعلان آخر للاعتراف بـ”دور خاص للدول دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهو المجلس المسؤول بالدرجة الأولى عن السلام والأمن الدوليين، في قيادة جهود نزع التسلح بتقديم القدوة والمثل”.

ولا ينبغي حشو المعاهدة بالتفاصيل الكثيرة، كما لا ينبغي إنشاء مؤسسات أو هياكل جديدة في هذه المرحلة –  قد يكون هذا ضروريًا حال توقيع ميثاق. ويمكن إدراج الكثير من أنشطة التحقق المرتبطة بالحظر تحت إشراف الكيانات القائمة بالفعل مثل الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

وكإجراء مرحلي نحو الوصول إلى ميثاق للأسلحة النووية، ينبغي أن يكون الحظر ذاته خطوة سهلة لكن كبيرة. فهذا سمكن أن يساعد على تسريع وتيرة نزع الأسلحة النووية. لكنه ليس أداة مباشرة لإجبار الدول المسلحة نوويًا على نزع سلاحها. بل سيكون هذا الحظر بمثابة عنصر في مشروع طويل الأمد لتشييد واقع لا يكون فيه للأسلحة النووية مكان، وترى فيه الدول النووية ذاتها الواقع في هذا الضوء.

Round 2

الواقع: لن يمكن للبشرية تفادي استخدام الأسلحة النووية على الدوام

في معرض تعليقه على موضوع هذه المائدة المستديرة، كتب أحد متابعي النشرةthe Bulletin   ، واسمه ريان ألت، أنه “من الصعب جدًا تخيل أن تكون [معاهدة] حظر [الأسلحة النووية] إلا ضربًا من التفكير المفعم بالتمني”. وعلق قارئ آخر، واسمه كيث ب. روزنبيرج، بأن ينبغي “ألا تُبرم معاهدة لن يلتزم بها أحد” – خاصة وأن معاهدة الحظر مثالية جدا وليست عملية بأي شكل.     

لكني أرى العكس – وهو أن تقييم الأسلحة النووية وأخطارها بصورة واقعية يتطلب التفاوض على معاهدة للحظر. أما الأمر المغالى  والبعيد عن الواقعية فهو الاعتقاد بأن البشرية، حال امتلاكها أسلحة نووية بشكل مطلق، ستتمكن من تحاشي حرب نووية على الدوام.

يقودني هذا للحديث عن مفهوم الردع، الذي كان محل جدال بين زميلتيّ في المائدة المستديرة جوليان بريتورياس وبولينا سينوفيتس. فرأيي الخاص هنا أن الحرب الباردة ربما مثلت عصرًا ذهبيًا للردع – وهذا العصر قد انتهى الآن. فقد نظم عالم الحرب الباردة نفسه حول القوتين العظميين، إذ كانت كل قوة منهما تمتلك عشرات الآلاف من الأسلحة النووية الجاهزة للاستخدام في أي وقت. وكانت هاتان القوتان تمتلكان القدرة على نقل وتوجيه الأسلحة باستخدم منصات جوية وبرية ومائية. وكان كلا الجانبين يثق في قدرة الآخر على شن ضربة ثانية انتقامية، ومن ثم كانت هذه الثقة في حد ذاتها بمثابة رادع يمنع المبادرة بضربة أولى.

لكن العالم بات أكثر تعقيدًا، ولم يعد مقسمًا إلى تكتلات مستقرة حول قوتين عظميين – بل اتسعت وتناثرت مراكز القوة مع انتشار الأسلحة النووية. فنجد في إقليم جنوب آسيا النووي أن العلاقات بين الهند وباكستان متقلبة على نحو مقلق. وفي كوريا الشمالية، ربما كان كيم جونج أون نفسه مصدر الاضطراب والقلق. 

ويمكن القول بأن ما يوحي به مظهر قيادات اليوم في الولايات المتحدة وروسيا ليس بأفضل. فلقد أثار تحكم دونالد ترامب في الترسانة النووية الأميركية قلق وغضب المراقبين الخبراء منذ بروزه كمنافس حقيقي على الرئاسة. أما فلاديمير بوتين فيتصرف بعدوانية متزايدة، متحديًا الغرب بشكل فعلي على تبني موقف حاسم أو التصدي له.

ولقد دأب المفكرون الواقعيون على تصوير المتحكمين في الأسلحة النووية كفاعلين عقلانيين قادرين على القيام بتحليلات دقيقة للتكلفة والفائدة، والتعامل بعقلانية مع واقع امتلاك خصوم محتملين للأسلحة نووية أيضًا. ورأي بعض العلماء الواقعيين أن العالم قد يحقق استقرارًا استراتيجيًا أكبر إذا امتلكت المزيد من الدول أسلحة نووية. لكن ينبغي حتى على الواقعيين إدراك أن معظم قادة الدول المتحكمين في الأسلحة النووية اليوم قد لا يكونوا بالضرورة أهلا للثقة في التصرف بعقلانية.   

ومن الخصائص التي تميز الأسلحة النووية عن غيرها أن الدمار الذي تحدثه لا يمكن إصلاحه. فبعد وقوع حرب نووية، لا يستطيع أي برنامج للإعمار أن يخفف من حدة الشتاء النووي. كما لا يستطيع أي جهد بشري أن يزيل كميات الإشعاع السام الهائلة من البيئة. فهل الإنزعاج من القيادة الحالية في الدول النووية الكبرى أمر غير واقعي إذا؟ ينبغي حتى على الواقعيين الاعتراف بأن مثل هذا الإنزعاج أمر طبيعي وواقعي.

 لذا هل من الواقعي أن ننتظر بشكل سلبي حتى يتحقق نزع السلاح النووي بينما تكمن سلطة إطلاق صواريخ ذات رؤوس نووية في يد قادة مشكوك في عقلانيتهم ورشدهم؟ أم أنه من الواقعي أن نتحرك صوب نزع السلاح بإجراءات عملية تشمل معاهدة للحظر حتى لا يستطيع أي قائد متهور أن يبدأ حربًا نووية؟

ولا تنسوا – بمجرد أن يضغط قائدكم على الزر، فلن يكون هناك وقت لإبداء الندم أو الأسف.  

الحد من الأسلحة هدف واقعي، أما نزع السلاح العام قد لا يكون واقعيا

طوال حياته ظل الأستاذ بانجلوس، وهو شخصية شهيرة بإحدى روايات فولتير، مؤمنا بمقولة أن "الكل يتجه نحو الأفضل في أفضل عالم من العوالم الممكنة". وفي أطروحتها، ادعت زميلتي في المائدة المستديرة جوليان بريتورياس أن لغة نزع السلاح في معاهدة عدم الانتشار واضحة وخالية من الغموض –أشعروكأني أستمع إلى شيئ من كلامبانجلوس. 

إن لغة نزع السلاح في المعاهدة يمكن وصفها بأي شيئ إلا الوضوح وعدم الالتباس. فهي تطلب من الموقعين أن يواصلوا التفاوض "بحسن نية" – لكن إذا كانت النية الحسنة غائبة، فما الذي تعنيه اللغة؟ حقاً لو أظهرت كل الأطراف الموقعة على المعاهدة حسن النية عبر السنوات الماضية، لما كانت هناك حاجة لأن نسعى اليوم لمعاهدة لحظر الأسلحة النووية، ولكان التفاوض حول نزع السلاح النووي العام قد تم بالفعل.

ولا شك أن جنوب افريقيا – بلد بريتورياس – تستحق الإعجاب لتخلصها من الأسلحة النووية. لكن بعض الدول الأخرى تعتقد أن الأسلحة النووية "هبة من الله لإنقاذ البشرية"، بحسب وصف العالم السياسي الروسي سيرجي كاراجانوف. فقد باركت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أسلحة الدولة النووية. واعتُبرت الدعوات لنزع السلاح النووي العام محض نفاق طالما أنها متعلقة بدولة روسيا. إذًا فإن نزع السلاح العام قد يصب فقط في مصلحة الدول التي تتميز قواتها التقليدية بالتفوق.

تدعي بريتورياس أن الردع النووي لا يجدي – لكن وجهة النظر الروسية تراه مجديا. وإذا كان الردع غير مجدٍ، فلماذا جاء رد الناتو على سياسة حافة الهاوية النووية التي انتهجتها روسيا خلال العامين الأخيرين حذرًا للغاية؟ أيضًا، لماذا تحرص موسكو بشدة على ألا تتجاوز الخطوط الحمراءللناتو؟ بالتأكيد سنجد من يقول بأن وجود توازن في الأسلحة التقليدية يوفر عامل الردع بين الجانبين. لكن التاريخ يوضح أن الاعتماد على الأسلحة التقليدية في الردع أمر مشكوك فيه – لكن ليس هناك دليل مباشر يشير إلى أن الردع النووي لا يجدي.  

اكتسبت الأسلحة النووية سمعة مخيفة – لكن الأسلحة التقليدية سببت أعظم الخسائر والإصابات في تاريخ الحروب. فبعد أن تمكن البشر من صنع أسلحة نووية، أدركوا بعد فترة وجيزة أنهم يقفون على حافة التدمير الذاتي، ومنذ هذا الحين، استطاعوا أن يتفادوا استخدام هذه الأسلحة. وهنا قد يقول قائل إن الاسلحة النووية ليست أسلحة حرب على الإطلاق، بل أسلحة حوار في الأغلب. وفي الحقيقة، ربما يكون هذا هو السبب الذي يجعل روسيا تضفي على الأسلحة معاني كثيرة وأهمية كبيرة.

أقول هذا كله لكي أبين فقط أن التقدم نحو نزع الأسلحة النووية أمر ممكن إذا اعترفت الأطراف المختلفة بالمنهجيات الفكرية للأطراف الأخرى ووجهات نظرها.فلا شك أن جنوب أفريقيا تستحق الثناء لنزعها سلاحها النووي، لكن الدول الأخرى تعيش تحت ظروف مختلفة وتتبنى رؤى مختلفة للعالم. وبالتأكيد يمكن تشجيع روسيا على نزع سلاحها – لكن السعي لحظر كامل على الأسلحة النووية يعد، من المنظور الروسي، لعبة خادعة تهدف إلى تقويض السيادة الروسية. أما إشراك روسيا في أنشطة زيادة خفض الأسلحة النووية والحد منها فهو هدف أكثر واقعية.

إذا ثبتت فعالية وفائدة مفهومٍ ما في الماضي – كما حدث مع الردع النووي –  فلابد أن يكون التحرك حذرًا قبل التخلي عنه. أما الاحتجاج بعدم فعالية الردع فقد يطعن في حجج صاحبه، بدلا من أن يطعن في أهمية وفائدة الردع.
  

معاهدة الحظر، نجحت أو فشلت، لن تفتت معاهدة عدم الانتشار النووي

على عكس ما أشارت إليه زميلتي في المائدة المستديرة بولينا سينوفيتس، أرى أن وضع معاهدة لحظر الأسلحة النووية لن يؤدي إلى تفتيت معاهدة عدم الانتشار النووي. بل إن معاهدة كهذه قد تساعد على بقاء معاهدة عدم الانتشار النووي، هذا على المدى القصير. أما على المدى الطويل، فستساعد معاهدة الحظر معاهدة عدم الانتشار في الوفاء بوعدها الخاص بنزع السلاح النووي. كما أن معاهدة الحظر ستبني على المعاهدة السابقة، ولن تقوض معاهدة حظر الانتشار بأي شكل. هذا بالإضافة إلى أن معاهدة عدم الانتشار ذاتها واضحة بشأن ضرورة النزع العام للسلاح النووي – وواضحة أيضًا بشأن ضرورة التفاوض حول معاهدة جديدة لتحقيق هذا الهدف.

ولا شك أن الدول المصدقة على معاهدة عدم الانتشار النووي توقعت الإبقاء على الأسلحة النووية لفترة ما غير مشروطة. لكن بعد مرور 50 عامًا تقريبا على توقيع المعاهدة، مضى وقت الوفاء بتعهدات نزع السلاح المنصوص عليها في المادة السادسة من معاهدة عدم الانتشار. في عام 1995، عندما تقرر مد معاهدة عدم الانتشار لأجل غير مسمى، أُعيد التأكيد على إلزام كل أعضاء المعاهدة بالتفاوض حول معاهدة جديدة للنزع العام والكامل للسلاح. وبالتأكيد لم يكن بلدي، جنوب أفريقيا، ليضغط من أجل تمديد المعاهدة لو لم تقدم الدول النووية تعهدًا بأنها ستتفاوض “بعزم وتصميم” باتجاه نزع السلاح النووي العالمي. وقد ينطبق مثل هذا القول على كل الدول الـ122 التي صوتت، مع جنوب أفريقيا، في الأمم المتحدة في أكتوبر الماضي لصالح التفاوض حول معاهدة للحظر.

لو لم تُمدد معاهدة منع الانتشار النووي في عام 1995، لما بدأت، على الأرجح، المفاوضات حول معاهدة بديلة تحدد تاريخًا لتنفيذ النزع العام والكامل للأسلحة النووية. ولربما كان هذا ضروريا لتحاشي “كابوس حقيقي من التنافس الفوضوي غير المحدود الذي يقاتل فيه الجميع بعضه”، مستعيرًا هنا كلمات سينوفيتس. وبالتالي فقد كانت السنوات التي مضت منذ عام 1995 بمثابة فترة سماح للدول النووية – وأيضًا لهؤلاء الذين يرون أن الردع الممتد سياسة فعالة. أنا لا أرى أنها سياسية فعالة، لأنها فقط تؤجل حل الصراعات. إضافة إلى ذلك، ماذا يحدث لو أن الدولة التي تسعى أنت للاحتماء بمظلتها النووية أصبحت فجأة صديقة مقربة لعدوك؟ يبدو هذا السؤال ذا صلة بالنسبة لبلد سينوفيتس، أوكرانيا، التي تقوى لديها طموحات الانضمام للناتو.    

إن الخطر الحقيقي على معاهدة عدم الانتشار النووي لا يكمن في معاهدة الحظر المقترحة، بل يكمن في إخفاق الدول المسلحة نوويًا، والدول المرتبطة بها من خلال ترتيبات أمنية جماعية، في مواصلة نزع السلاح بصدق وبحسن نية. فقد يتسبب ذلك بمرور الوقت في انسحاب دول من المعاهدة. وقد يتسارع مثل هذا التآكل والتفتت خلال تلك الفترات الملتبسة في السياسة العالمية – إلا إذا استطاعت كل الأطراف التحرك قدمًا لتنفيذ البنود الخاصة بنزع السلاح في معاهدة عدم الانتشار.

ويمثل السعي وراء معاهدة للحظر سبيلاً للانطلاق قدما. ورغم احتمالية أن يجري التفاوض بشأن معاهدة الحظر خارج مؤتمرات مراجعة معاهدة عدم الانتشار، يمكن للمفاوضين -­ وإن كنت أشك أنهم سيفعلون – الإشارة بشكل صريح إلى معاهدة عدم الانتشار النووي في نص معاهدة الحظر. فهذا سيضمن وجود رابط قانوني قوي بين المعاهدتين، إضافة إلى الرابط المعياري الذي يوجد بالفعل. ولذا فإن أي مخاوف من توقف سريان أحكام معاهدة عدم الانتشار حال نجاح معاهدة الحظر، هي مخاوف غير مبررة. 

وماذا لو فشلت معاهدة الحظر؟ بدايةً لابد من تعريف الفشل هنا. كما أوضحت في مقالي الأول بالمائدة المستديرة، فإني أرى معاهدة الحظر جزءًا من عمل سياسي مؤقت سيساعد على تحقيق هدف عالم خالٍ من الأسلحة النووية على المدى البعيد. في هذا السياق، إذا انسحب الائتلاف الكبير من الدول ومنظمات المجتمع المدني الذي يدعم معاهدة الحظر من العملية، ستفشل المعاهدة. لكن هذا غير وارد. وحتى لو حدث هذا – وحتى لو قررت الدول الانسحاب من معاهدة عدم الانتشار في أعقاب فشل معاهدة الحظر – فسيفعلون ذلك لأن الدول النووية لا تزال ترفض نزع سلاحها. لذا فإن معاهدة الحظر، سواء نجحت أو فشلت، لن تتسبب في تفتيت وتآكل معاهدة عدم الانتشار. فالدول النووية تقوم بذلك على أكمل وجه!

Round 3

نزع السلاح بينما لاتزال الفرصة سانحة

هناك سؤال يلح علىّ وأنا أقرأ مناقشات هذه المائدة المستديرة وتعليقات بعض القراء عليها –  ألا وهو: ما الخطأ في مناقشة معاهدة لحظر الأسلحة النووية؟

هذا السؤال البسيط ظاهريًا يمكن تفسيره بطريقتين على الأقل. الأولى: أنه رد فعل تجاه مجموعة معينة من المنتقدين لمبادرة المعاهدة الذين يرون أن فرصة المعاهدة في فرض نزع السلاح ضئيلة، ومن ثمّ فإن مناقشتها إهدار للوقت لا طائل من ورائه.

حسنًا. لو فكرنا في الأمر بجدية، هل سنجد أن كل واحد منا يستغل وقته بأكثر الطرق الفعالة الممكنة، في كل الأوقات، طوال حياته؟ على الأرجح لا! إذًا فكيف يكون الانخراط في نقاش فكري حول معاهدة  لحظر الأسلحة النووية على الأخص تضييعًا صارخًا للوقت؟

تخيل للحظة، حتى لو وجدت ذلك صعبًا، عالمًا اختفت منه نهائيًا الأسلحة النووية. تخيل عالمًا لا توجد فيه دولة ترهب جيرانها بالتهديدات النووية، ولا دولة تتصرف بحصانة ودون خوف من رادع لمجرد أنها تمتلك ترسانة نووية، ولا منظمة إرهابية تحوز أسلحة نووية معقدة أو المواد اللازمة لبناء جهاز نووي أوليّ. هل عالم كهذا سيكون مكانًا أفضل للعيش؟ غالبًا  نعم.

فما الخطأ إذًا في أن نحلم بعالم خالٍ من الأسلحة النووية والأخطار النووية المرتبطة بها؟ لا خطأ في ذلك على الإطلاق! فذاك أمر لا يكلف أحدًا شيئًا.

وحتى لو وصف الآخرون الأمر بإنه إضاعة لوقت ثمين، فأني على استعداد لاستثمار وقتي في هذا الجهد "العقيم" بمواصلة السعي وراء هدف نزع السلاح. فكم من جهود "عقيمة" أثمرت عن أهداف في النهاية على مدار التاريخ. ولقد قدمت زميلتي في المائدة المستديرة جوليان بريتورياس مثالُا متميزًا بحملة إلغاء العبودية التي شهدها القرن التاسع عشر. ففي هذا العصر كان القضاء على الرق يبدو هدفًا ميؤوسًا منه، تمامًا كما هو الحال مع نزع السلاح النووي في القرن الحادي والعشرين.   

والآن نأتي للسبب الثاني وراء سؤالي عن الخطأ في مناقشة معاهدة لحظر الأسلحة النووية –  وهي طريقة قصدت بها توضيح أن الانتقادات التي وجهت لمبادرة معاهدة الحظر تنطوي غالبًا على قضايا ضعيفة الصلة بالمعاهدة ذاتها. من هذه الانتقادات ما يتضمن الأثار السلبية المزعومة لمعاهدة الحظر على قضيتي الحد من الأسلحة الموجودة وترتيبات نزع السلاح.    

عندما صوتت اللجنة الأولى التابعة للأمم المتحدة في أكتوبر الماضي على عقد المفاوضات هذا العام حول "أداة ملزمة قانونيًا لحظر الأسلحة النووية تفضي إلى التخلص منها نهائيا"، لم تتدخل هذه اللجنة بأي شكل من الأشكال في تنفيذ الهياكل القائمة للحد من الأسلحة أو هياكل نزع السلاح النووي. وإذا نجحت المفاوضات بشأن معاهدة للحظر وتم إقرارها بالفعل، فإن هذا سيعني فقط أن الوقت قد صار مناسبًا للتفاوض بشأن معاهدة للحظر –  لا أن المعاهدة قد تُفرض على أطراف بمعاهدات قائمة بالفعل من قِبل كائنات غريبة من الفضاء الخارجي! إن انتقاد معاهدة الحظر بسبب الضرر المزعوم الذي قد تسببه للهيكل القائم للحد من الأسلحة أو هيكل نزع السلاح النووي لا يُظهر إلا صعوبة شديدة في إيجاد حجج مقنعة ضد مبادرة المعاهدة.

أسلحة أسوأ؟ في مقالها الثالث بتلك المائدة، ذكرت زميلتي بولينا سينوفيتس أنه "إذا تخلصت البشرية من القنبلة (الأسلحة النووية)، فقد لا يكون هذا أمرًا جيدا"، إذ أنها ترى أن "العالم قد يعود إلى أسلوبه القديم المعروف وهو البحث عن سلاح أقوى ". ووفقاً لتقدير سينوفيتس، فإن نزع السلاح النووي قد يؤدي لظهور أسلحة أسوأ، لذا من الأفضل أن نرضى بالأسلحة الموجودة بالفعل.

لا أتفق مع هذا الطرح. إن أي مخطط بياني يتتبع مظاهر التقدم التي حدثت في مجال التكنولوجيا العسكرية خلال التاريخ الإنساني قد يُظهر منحنيًا صاعدًا ببطء – حتى وقت ظهور الأسلحة النووية، حيث يبدأ المنحنى في إظهار هبوط حاد. ومن ثم ينبغي للمرء أن يتوقع ظهور أسلحة أسوأ – إلا إذا استطاعت اتفاقية الحظر وقف إنتاج وتخزين واستخدام الأسلحة النووية، وإلا إذا أظهر المجتمع الدولي تصميمًا على وقف التطور السريع في جوانب التكنولوجيا العسكرية.

حان الوقت لإظهار هذا التصميم من جانب المجتمع الدولي. لقد توقف الاستخدام المحرم للأسلحة النووية منذ عام 1945، لكنه إذا انتُهك في أي وقت، فستضعف بشدة قدرة البشرية على مجرد النظر في قضايا مثل نزع السلاح.

من الأفضل أن نتحمل الأدواء التي نعرفها

يدًا بيد، يسير الحد من الأسلحة النووية ونزع الأسلحة معًا إلى نقطة معينة. لكنهما عندما يصطدمان بقضية الردع وفائدتها، سرعان ما يفترقان. هذه هي النقطة المحورية التي دار حولها المقال الثالث لزميلتي في المائدة المستديرة جوليان بريتورياس، وهو رأي أتفق معه. لكن ما هي الأسباب الحقيقية والدقيقة لهذا الافتراق؟ أعتقد أن هذا يرجع إلى اعتماد منهجيّ التعامل مع الأسلحة النووية على نظرتين مختلفتين في الأساس.

ينصب هدف نزع الأسلحة النووية على تدمير أكثر أدوات الحرب وحشيةً، وبالتالي إنقاذ البشرية من الإبادة. وما أن يُنجز هدف نزع الأسلحة، ستنظر إليه الأجناس البشرية كفائدة ومكسب، وستحرص على حفظ السلام العالمي.

أما الحد من الأسلحة فينبع من فكرة أن الأجناس البشرية مولعة بالقتال بطبيعتها، وبالتالي فإن التخلص من أدوات الدمار العالمي لن يخلق سلامًا. بل على العكس – قد يفضي نزع الأسلحة مباشرة إلى حرب عالمية ثالثة. كما يمكن أن تواجه البشرية مخاطرة حدوث دمار رهيب بدون أسلحة نووية.  

وبشكل كبير، تعتمد الوصفة التي وضعتها بريتورياس لتحقيق هدف نزع الأسلحة على فكرة وصم الأسلحة النووية بالعار. لكن حتى لو أدى هذا إلى التخلص من الأسلحة، فإن المعرفة التي يقوم عليها إنتاج الأسلحة النووية لن يمكن نسيانها أو محوها. كما أنه سيكون هناك دومًا مَن سيهتم بامتلاك القوة أكثر من الاهتمام بأخلاقيات الحرب – وهو ما قد يمثل الأساس التي تقوم عليه دولة أو عدد من الدول التي لا تكترث بكون الأسلحة النووية غير إنسانية في ظل سعيها لتأسيس ديكتاتورية نووية. ولا يحتاج المرء للبحث بعيدًا كي يجد أمثلة لقادة قادرين على ممارسة الابتزاز النووي – أو حتى استخدام الأسلحة النووية، دون أي اعتبار لمسألة الوصم بالعار. فقد استخدم صدام حسين الأسلحة النووية ضد كلٍ من إيران وأبناء شعبه، ولطالما سعى لتطوير أسلحة بيولوجية –  رغم أن كلا النشاطين كان موصومًا بعدم الإنسانية. ومؤخرا، استخدمت سوريا، حسبما هو معتقد على نطاق واسع، أسلحة كيميائية ضد شعبها.  

ثمة خطر آخر: ربما يدفع نزع الأسلحة بمبدأ عدم الانتشار النووي إلى محيط السياسة. فالمجتمع الدولي يمارس اليوم رقابة لصيقة على الأسلحة النووية. ولو قلل المجتمع الدولي اهتمامه أو رقابته، فقد يسهم هذا في تسهيل حصول الدول المارقة والإرهابيين الذين لا يكترثون كثيرا بالأخلاقيات أوالفضائل على التكنولوجيا النووية.

وحتى لو كان معظم الناس يميلون إلى حل نزاعاتهم من خلال الحوار السلمي، فقد جرت العادة أن يقرر مسار التاريخ عدد قليل من الأفراد الحريصين على اكتساب النفوذ من خلال العدوان. لذا فإن الإيحاء بأن وصم الأسلحة النووية بالعار سيقضي على شهوة القوة يعد ضربًا من السذاجة. وبالتأكيد يمكن اعتبار الأسلحة النووية حاجزًا ضد السلوك العدواني، فقد يكون الخوف أكثر فعالية من المنطق السليم حينما يتعلق الأمر بمنع العنف.

وإذا تخلصت البشرية من القنبلة، فقد تحرر نفسها من الخوف من احتمالية أن تؤدي الحرب إلى إبادة العالم. لكن هذا قد لا يكون شيئًا جيدًا، إذ قد يرتد العالم إلى زمن كانت الحرب فيه روتينًا بل وأسلوبًا مقبولًا لإدارة السياسات. وقد يعود العالم للبحث القديم المألوف عن "السلاح المطلق" – وبهذه الطريقة ظهر البارود، وظهرت القوة الجوية، وأخيرًا الأسلحة النووية. ففي حال نزع الأسلحة النووية، ما نوع السلاح التي سيظهر تاليًا؟ وهل سيمتلك هذا السلاح ذات القوة الرادعة التي تمتلكها الأسلحة النووية اليوم؟

ربما كان من الأفضل بعد كل ذلك أن "نتحمل تلك الأدواء التي نعرفها من أن ننطلق إلى أخرى لا نعرفها"، على حد قول وليام شكسبير على لسان هاملت.
 

كيف تعلمت كراهية القنبلة

قد تبدو النقاط المشتركة بين معاهدة حظر الأسلحة النووية المقترحة والحد من التسلح النووي كثيرة. فكلا النهجين يقر في الأساس بخطورة الأسلحة النووية، وكلاهما يهدف لتقليل عدد الأسلحة النووية في العالم. لكن الحقيقة أن الحد من التسلح ومعاهدة الحظر تضفيان معاني مختلفة تمامًا على الأسلحة النووية. والنتيجة أن أحد النهجين – وأعني به معاهدة الحظر – لا يؤمل منه بأي حال أن يفضي إلى نزع السلاح النووي العام.

كما ذكرت سلفًا في مناقشات هذه المائدة المستديرة، فإنني لا أرى معاهدة الحظر أداة قادرة على إجبار الدول النووية على التخلي عن أسلحتها النووية. بل ستكون على الأحرى أداة لوصم الأسلحة النووية بالعار وترسيخ حرمة استخدامها – أي وضع الشروط فقط لنزع السلاح.
  
ومعنى "الوصم" وصف شيئ ما (او شخص ما) بالعار والقبح واستوجاب الاستنكار. فما أهمية وصم الأسلحة النووية النووية بالعار؟
  
يعرف الجميع أن الأسلحة النووية هي أسلحة دمار شامل. ولقد سببت القنبلتان الذريتان اللتان أُسقطتا على اليابان عام 1945، رغم صغرهما مقارنة بالأجهزة التي طُورت وخُزنت منذ ذلك الحين، معاناة إنسانية لا توصف. واليوم، قد يؤدي أي تراشق نووي إلى دمار بيئي بدرجة قد تهدد بانقراض البشرية. وربما لن يمكن حينها احتواء تاثيرات التفجيرات النووية في المكان والزمان – لأنها قد تتجاوز الحدود والأجيال.  ووفق أي معيار منطقي، فإن الأسلحة النووية تمثل انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني الذي يحكم إدارة الحروب.

لهذه الأسباب، لا يمكن أن نتوقع من الدول غير النووية أن تتصرف وكأن الأسلحة النووية تقع ضمن الحقوق السيادية للدول المسلحة نوويًا. بل إن التفجيرات النووية وتوابعها تعد من بين المخاوف الملحة للبشرية جمعاء – بما في ذلك الدول، والمجتمع المدني، والأفراد. وهذا هو الاتجاه الذي يشكل أساس المبادرة الإنسانية، وهي عملية سياسية أفضت الآن إلى التفاوض الوشيك حول معاهدة لحظر الأسلحة النووية.
  
أما الحد من التسلح النووي فيتخذ منحى مختلفًا تمامًا. فرغم فائدة وأهمية مثل هذا النشاط، إلا أنه لا يهتم كثيرا بضرورة نزع السلاح النووي. ومع أن مفهوم الحد من التسلح يقر بنفس أخطار الأسلحة النووية التي تقرها معاهدة الحظر، يفترض الحد من التسلح النووي أن الأخطار يمكن ضبطها لمستوى مقبول – بتقليص الترسانات، وخفض مستويات التأهب، وإنشاء خطوط ساخنة، إلى غير ذلك من مثل هذه التدابير.
   
ويعول الحد من التسلح على فرضية التصرف العقلاني من الفاعلين المسؤولين عن الأسلحة النووية لتجنب الكوارث. فهو يفترض وجود بيئة منظمة والتزام بالقواعد. لكن توجد هنا مشكلة، وهي: أن الحد من التسلح لا يستنكر فكرة أن الأسلحة النووية تفيد البشرية، كونها رادعة للحرب، لا سيما الحرب النووية. إن هذا القبول بالردع النووي يعد في حد ذاته سقوطًا للحد من التسلح، لأن هذا يعني مطالبته بعدم الحد من الأسلحة بدرجة كبيرة – خشية أن ينظر الفاعلون إلى أعدائهم المسلحين نوويًا على أنهم غير راغبين في استخدام أسلحتهم النووية، مما قد يؤدي بالتالي إلى فشل الردع.
 
إن مبدأ الحد من التسلح يواجه مأزقًا. فهو يحاول ترويض الأسلحة النووية – لكنه في الوقت ذاته يحافظ على ذريعة إمكانية استخدام الأسلحة النووية. وهذا يشجع ظهور استراتيجيات غريبة مثل "نظرية الرجل المجنون" التي اتبعها ريتشارد نيكسون، والتي تقوم على إبراز مظهر الاضطراب النفسي والترويج له لإقناع العدو بأنك قد تلجأ لاستخدام أسلحة نووية. ومنهج كهذا يناقض الاستقرار والعقلانية اللذين ينسبهما الحد من التسلح للردع النووي. وهناك من يستحضر اليوم نظرية الرجل المجنون لتفسير آراء الرئيس ترامب الشاذة بشأن الأسلحة النووية.
 
وحتى لو تناولنا الحد من التسلح من أفضل الزوايا، نجد أنه يتخذ منهجًا مضادًا للأسلحة النووية، بمنطق "أن هذه الأسلحة سيئة، لكن لو وضعنا لها حدًا ستكون جيدة، طالما أننا لا نحدها بشكل كبير للغاية". أما لو تناولنا الحد من التسلح من أسوأ الوجوه، سنجد أنه يحث البشرية على "التوقف عن القلق وتعلم حب القنبلة"، استعارة لعنوان فيلم المخرج ستانلي
كوبريك "دكتور سترينجلاف"    

لا أقول بأن الحد من التسلح عديم الجدوى، لكنه غير كاف. فهو لن يخلص العالم من الأسلحة النووية – بينما التخلص من هذه الأسلحة هو السبيل الوحيد حقًا لحماية البشرية من استخدامها.

على الجانب الآخر، تعلن معاهدة الحظر النووي أنه ينبغي على البشرية أن تقلق – وأن تتعلم كراهية القنبلة. ويعد وصم الأسلحة النووية بالعار بهذه الطريقة عملًا سياسيًا، أما التخلص من الأسلحة ذاتها فهو عمل فني. وأي من العمليتين لن تكون سهلة أو سريعة. لكن باستلهام ما حدث مع حملة إنهاء العبودية في القرن التاسع العشر، فإن الهدف ليس مستحيلا.       



Topics: Nuclear Energy

 

Share: [addthis tool="addthis_inline_share_toolbox_w1sw"]