إعادة المعالجة: هل تتجه نحو النماء أم على وشك الانتهاء؟

يعتقد بعض المراقبين أن إعادة معالجة البلوتونيوم هي على وشك التوسع— بينما يرى آخرون أن نهاية هذه الممارسة تلوح في الأفق. لقد كان خطر الانتشار النووي يشكل دائما الاعتراض الرئيسي على إعادة المعالجة، لكن المؤيدين لإعادة المعالجة يجادلون بأنه بعد أن أصبحت اليوم تقنية تخصيب اليورانيوم متوفرة بسهولة أكثر من ذي قبل، لم تعد إعادة المعالجة تمثل وسيلة فعالة للحصول على الأسلحة النووية. ويروج مؤيدو إعادة المعالجة أيضا لتأمين الطاقة التي يمكن أن توفرها إعادة المعالجة للدول دون اللجوء إلى مصادر اليورانيوم المحلية وكذلك التخفيضات التي يمكن أن تحققها إعادة المعالجة في كميات النفايات ذات الفعالية الإشعاعية عالية المستوى. لكن المعارضين يقولون إن إعادة المعالجة تقدم فوائد هامشية فقط في الحد من النفايات وهى عموما ذات مغزي اقتصادي قليل. إذاً كيف ينبغي على الأمم التعامل مع إعادة معالجة البلوتونيوم، آخذة في الاعتبار قضايا تشمل الانتشار النووي والنفايات النووية والتكلفة؟

Round 1

إعادة المعالجة في الصين: رحلة طويلة وخطيرة

كانت دورة الوقود المغلقة عنصرا رسميا لسياسة الصين للطاقة النووية منذ عام 1983. ووفقا للمؤيدين، فإن إعادة معالجة البلوتونيوم والمفاعلات المولدة السريعة سوف تتيح الاستفادة الكاملة من موارد اليورانيوم الصينية، وسوف تحد بشكل كبير من حجم النفايات المشعة التي يجب أن يتم تخزينها في مستودع تحت الأرض، وسوف توفر وسيلة للاستغناء عن الوقود المستنفد المتراكم في أحواض المفاعلات الصينية. لكن محاولات بكين لتطوير منشآت لإعادة المعالجة ومفاعلات مولدة سريعة مجدية تجاريا مُنيت بصعوبات تقنية وتأخيرات جسيمة وتجاوز في التكاليف. في هذه المرحلة— خاصة مع مراعاة أن الصين تزخر بموارد وافرة من اليورانيوم وسهولة حصولها على موارد إضافية من الخارج— يبدو من المشكوك فيه للغاية أن إعادة المعالجة والمفاعلات المولدة السريعة هو المسار الصحيح لقطاع الطاقة النووية في الصين للمضي قدما.

ليس وفقا للخطة. في عام 1986، وافق مجلس الدولة الصيني على بناء مفاعل مدني تجريبي لإعادة المعالجة في مجمع جيوتشيوان النووي في مقاطعة قانسو. بدأ بناء المفاعل، والمصمم لإنتاج 50 طن متري من المعدن الثقيل سنويا، في عام 1998 واكتمل في عام 2005. لكن عملية البناء واجهت صعوبات وتأخيرات وتكاليف أعلى من المتوقع. وفي النهاية تم إجراء اختبار ساخن في عام 2010— أي بعد 24 عاما من الموافقة على المشروع. إلا أنه بعد مرور 10 أيام فقط من بدء التشغيل وفصل أقل من 14 كجم من البلوتونيوم، ظهرت مشاكل جديدة. وبنهاية شهر فبراير عام 2015، لم تُستأنف إعادة المعالجة. إذ تشير الدلائل إلى أن قدرة إعادة المعالجة السنوية للمصنع بعد استئناف التشغيل قد تكون أقل بكثير من كمية الـ 50 طن متري من المعدن الثقيل التي كانت مستهدفه في الأساس.

وبشكل منفصل، تتفاوض المؤسسة النووية الوطنية الصينية (سي إن إن سي) منذ عام 2007 مع شركة أريفا الفرنسية من أجل شراء مفاعل تجاري لإعادة المعالجة قادر على إنتاج 800 طن من المعدن الثقيل سنويا. وقد تم التوقيع على سلسلة من الاتفاقيات، لكن يبقى السعر نقطة الخلاف. كما أنه ليس هناك إجماع من الخبراء الصينيين على ما إذا كان يتعين على الصين استيراد مفاعل تجاري لإعادة المعالجة من الأساس. فالبعض يود تسريع الصفقة، بينما يعتقد البعض الآخر أنه يجب على الصين إعطاء الأولوية للتقنية المحلية من أجل الحفاظ على الاستقلال. في الواقع، بدأت المؤسسة النووية الوطنية الصينية، حتى في خضم مفاوضاتها مع أريفا، في التخطيط لمفاعل إيضاحي متوسط الحجم لإعادة المعالجة، وذلك باستخدام المفاعل التجريبي كأساس له. لم تتم الموافقة على الاقتراح من قبل الحكومة، لكن على أية حال أصبح مستقبل صفقة أريفا واضحا.

وبالتزامن مع تطوير المفاعل التجريبي لإعادة المعالجة، ظلت الصين تعمل على إنشاء مفاعلات مولدة سريعة لانتاج البلوتونيوم تكون مجدية تجاريا. ووفقا لخطة كانت موضوعة حتى عام 2013، كان يفترض أن يتم تطوير المفاعلات المولدة السريعة وفقا لعملية مكونة من ثلاث مراحل. كانت المرحلة الأولى معنية بإكمال مشروع معروف باسم المفاعل المولد السريع التجريبي الصيني. والمرحلة الثانية تشمل بناء عدد قليل من المفاعلات المولدة السريعة الإيضاحية بحلول عام 2020. وأخيرا، يتم نشر المفاعلات المولدة السريعة التجارية بحلول عام 2030. لكن تقدم العمل كان دائما متخلفا عن جداول المواعيد.

المفاعل المولد السريع التجريبي الصيني هو مفاعل مولد سريع تجريبي يستعمل الصوديوم كمبرد ويستخدم التقنية التي طورت لمفاعل (بي إن-600) الروسي. في عام 1995، تمت الموافقة على المشروع، الذي تبلغ قدرته المخطط لها 20 ميجاواط. بدأ البناء في عام 2000. وكما كان الحال مع المفاعل التجريبي لاعادة المعالجة، واجه المفاعل المولد السريع التجريبي العديد من الصعوبات أثناء عملية البناء. إذ تم تعديل تقديرات تكلفة رأس المال مرتين، وفي كل مرة بلغت التقديرات ضعف سابقتها. وصل المفاعل إلى الحالة الحرجة في يوليو 2010، وفي يوليو 2011، تم دمج 40 في المئة من كامل طاقته في شبكة الكهرباء. وبرغم ذلك، اشتغل المفاعل لمدة 26 ساعة فقط خلال الفترة المتبقية من عام 2011، وأنتج ما يعادل ساعة واحد فقط من كامل طاقته. ولم يتمكن المفاعل من العمل بكامل طاقته لمدة 72 ساعة إلا بحلول ديسمبر 2014. إذن فقد مرّ 19 عاما ما بين الموافقة على المشروع وتشغيله بكامل طاقته.

أما بالنسبة للمرحلة الثانية من الخطة الموضوعة قبل عام 2013، فقد وقعت المؤسسة النووية الوطنية الصينية في عام 2009 اتفاقا مع شركة روساتوم الروسية للمشاركة في بناء نسختين من مفاعل النيوترونات السريعة بي إن-800 الروسي في الصين. لكن بكين لم توافق رسميا على المشروع. وكما كان الحال مع مفاعل إعادة المعالجة الفرنسي، اشتكى الخبراء الصينيون من أن روسيا تطالب بثمن باهظ. وليس من الواضح ما إذا كان المشروع سوف يمضي قدما. بدلا من ذلك، بدأت المؤسسة النووية الوطنية الصينية في عام 2013 في التركيز على تطوير المفاعل المولد السريع المحلي الصيني (سي إف آر-600) بقدرة 600 ميجاواط. ومن المتصور أن يبدأ بناؤه عام 2017، على أن يبدأ تشغيله في عام 2023— لكن لم توافق الحكومة على المشروع حتى الان.

لقد حث خبراء في المؤسسة النووية الوطنية الصينية، منذ عام 2013، على تطوير أول مفاعل مولد سريع تجاري للصين— بقدرة 1000 ميجاواط وذلك اعتمادا على الخبرة المكتسبة من مفاعل (سي إف آر-600). لكن جو تشونج ماو— أحد الخبراء في المؤسسة النووية الوطنية الصينية وأحد المؤيدين لدورة الوقود المغلقة— قال مؤخرا خلال ورشة عمل في مجال الطاقة النووية في شرق آسيا إن "الصين تحتاج على الأقل ما بين 20 إلى 30 عاما من الجهد قبل القيام بتسويق أنظمة مفاعلات الطاقة السريعة، فهناك الكثير من الشكوك أمامنا. إذ ليس في مقدورنا أن نرسم صورة واضحة للـ 20 عاما المقبلة".

لمَ العجلة؟ هل يجب على الصين أن تستمر في متابعة خططها بشأن المفاعلات المولدة السريعة وإعادة المعالجة التجارية؟ توجد أسباب وجيهة لتجنب هذا الإجراء. أولا، لأن معظم مفاعلات الطاقة في الصين قد بنيت حديثا، ستواجه بكين ضغوطا قليلة على مدى العقدين المقبلين للحد من عبء وقودها المستنفد. كما يمكن تخزين الوقود المستنفد بأمان، وبتكلفة منخفضة، في براميل جافة— أو التخلص منها بأمان في مستودع جيولوجي عميق.

ثانيا، لا تواجه الصين أي نقص في موارد اليورانيوم في المستقبل المنظور. فقد ازدات الموارد المحددة في البلاد لأكثر من ثلاثة أضعاف في الفترة ما بين 2003 و 2012، من 77,000 طن متري إلى 265,000 طن متري. وتصل احتياطيات اليورانيوم المحتملة في الصين إلى أكثر من 2 مليون طن. كما أمّنت بكين في الآونة الأخيرة موارد ضخمة من اليورانيوم من الخارج— تفوق احتياطها المعلوم من اليورانيوم بثلاثة أضعاف. كما يمكن إضافة المزيد من هذه الاحتياطيات بسهولة.

وعلى أية حال، لا تشكل تكلفة اليورانيوم سوى نسبة صغيرة من تكلفة الطاقة التي تولدها المفاعلات. وببساطة، فإن تكلفة اليورانيوم لن تزيد في المستقبل المنظور إلى المستويات التي من شأنها أن تبرر تكلفة المفاعلات المولدة السريعة وإعادة المعالجة. وبالنسبة لقلق الصين إزاء احتمال حدوث انقطاع في إمدادات اليورانيوم، فإنه يمكنها بسهولة وبتكلفة زهيدة إنشاء مخزون "استراتيجي" من اليورانيوم.

يتعين على الصين أن تدرس بعناية تجارب الدول التي أطلقت برامج ضخمة لإعادة المعالجة وبنيت مفاعلات مولدة سريعة إيضاحية، توقعا منها أن يتبع ذلك استفادة تجارية من هذه المفاعلات. لكن لم تكن هناك استفادة تجارية في تلك الدول— بل تم تكبد نفقات ضخمة لتنظيف مواقع إعادة المعالجة والتخلص من البلوتونيوم المفصول. بالنسبة للصين، لا توجد حاجة ملحة تضطرها لسلوك هذا المسار المحفوف بالمخاطر.

إن إعادة تدوير البلوتونيوم هو أكثر تكلفة، وأقل سلامة وآمانا، من تشغيل مفاعلات الماء الخفيف بواسطة دورة وقود المرة الواحدة. وبالنسبة لمسألة النفايات النووية، فإن براميل التخزين الجاف تعد خيارا آمنا ومرنا ومنخفض التكلفة والذي يمكنه أن يؤجل لعدة عقود الحاجة لإعادة معالجة الوقود المستهلك أو التخلص منه مباشرة— مما يتيح الوقت لتطوير التقنية. ليس لدى الصين مبررات مقنعة تدعوها للتسرع في بناء منشآت لإعادة المعالجة على نطاق تجاري أو مفاعلات مولدة سريعة للبلوتونيوم.

دورة الوقود المغلقة من أجل الحصول على طاقة نووية مستدامة

لقد كانت إعادة معالجة وإعادة تدوير اليورانيوم والبلوتونيوم موضوع نقاش حاد في العديد من الدول على مدى العقود القليلة الماضية. وهناك عدد من الدول— بما في ذلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا والهند واليابان وروسيا وغيرها، قامت بتطوير تقنيات لإعادة المعالجة وإعادة التدوير. وقد انتهجت مجموعة مختارة من الدول، بما في ذلك الهند، سياسة ثابتة لصالح إعادة المعالجة وإعادة التدوير. حيث اتبعت هذه الدول تلك السياسات ليس فقط من منطلق قلقها من موارد اليورانيوم المحدودة، لكن أيضا لأنها ترى أن إعادة المعالجة وإعادة التدوير أفضل وسيلة لجعل الطاقة النووية مستدامة على المدى الطويل.

في الواقع، بالنسبة لدول مثل الهند والصين، لن يصبح التوسع الكبير في الطاقة النووية مستداما بدون إعادة المعالجة وإعادة التدوير. إن موارد اليورانيوم في هذه الدول محدودة. ويبدو أنه من غير المحتمل أن يصبح الثوريوم موردا ذا قيمة لإنتاج الطاقة في المدى القريب. كما أنه من غير العملي إدارة كميات كبيرة من النفايات عالية المستوى الإشعاعى في المستودعات لفترات طويلة. في أماكن أخرى، كانت فرنسا أيضا لديها برنامج مستدام لإعادة المعالجة وإعادة التدوير، كما أن روسيا تسعى للحصول على المعالجة الحرارية لإنتاج وقود الأكسيد المختلط من البلوتونيوم واليورانيوم من أجل مفاعلها (بي أُو آر-60).

يعتقد عديد من المعارضين لإعادة المعالجة أن موارد اليورانيوم الموجودة في العالم كافية— و بالتالي فإن إغلاق دورة الوقود ليست ضرورة ملحة. هذه حجة ذات نظرة محدودة. إذ إن كمية اليورانيوم الموجودة في كوكب الأرض محدودة— سواء الموجودة في القشرة الأرضية أو في مياه المحيطات—وبالتالي الطاقة الانشطارية ليست متجددة. النقاش الوحيد حول هذه المسألة يمكن أن يتعلق بكمية اليورانيوم المتبقية وكم ستبقى من الوقت. يشير "الكتاب الأحمر" عن موارد اليورانيوم، الذي أعدته الوكالة الدولية للطاقة الذرية ووكالة الطاقة النووية، إلى أن اليورانيوم الموجود في العالم اعتبارا من عام 2013 يبلغ حوالي 7,6 مليون طن متري— وهو ما يكفي للبقاء لمدة 150 عاما بمعدلات الاستهلاك الحالية. لكن الاستهلاك آخذ في الارتفاع وذلك مع زيادة أعداد الدول التي تتجه إلى استخدام الطاقة النووية لتلبية احتياجاتها من الطاقة.

إذا استثنينا موارد اليورانيوم الإضافية التي يمكن تحديدها في المستقبل، واستثنينا أيضا معدل النمو المستقبلي للطاقة النووية، فلا بد أن يستنتج المرء أن الطاقة الانشطارية المعتمدة على اليورانيوم لا يمكن بأي حال أن تستمر لأكثر من بضعة قرون. وهذا ليس وقتا طويلا— عندما يقاس بطول الوقت الذي من المرجح أن تبقى فيه البشرية. ونعتقد، نحن المؤلفان، أن الجيل الحالي يتحمل المسؤولية تجاه الأجيال القادمة تتعلق بعدم استنزاف موارد اليورانيوم في العالم. وهذا يعني أنه لا يمكن التخلص من اليورانيوم كنفايات بعد استخدام 1٪ فقط من طاقته— كما هو حاصل اليوم. بدلا من ذلك، يجب السعي لإعادة المعالجة وإعادة التدوير بحيث يُستخدم 75 في المئة من اليورانيوم (إن لم يكن أكثر) لإنتاج طاقة انشطارية. إن إعادة المعالجة وإعادة التدوير لديها القدرة على زيادة مقدار الوقت بعامل لا يقل عن 50 يمكن للبشرية أن تجني خلاله طاقة انشطارية من موارد اليورانيوم، وذلك مقارنة باستخدام اليورانيوم في دورة وقود المرة الواحدة.

خلصت العديد من الدول— الهند وفرنسا وروسيا والصين على وجه الخصوص— إلى أن المفاعلات المولدة السريعة (والتي يمكنها استغلال البلوتونيوم واليورانيوم المنضب الناتج في المفاعلات الحرارية من أجل توليد الكهرباء) ستكون عنصرا هاما في برامجها المستقبلية للطاقة النووية. ومن بين المفاهيم الستة للأنظمة المبتكرة للطاقة النووية التي يجري تطويرها من قبل المنتدى الدولي للجيل الرابع (وهو عبارة عن مشروع جماعي مؤلف من 13 حكومة)، تستند أربعة من هذه المفاهيم على المفاعلات المولدة السريعة. لكن ما زالت تثار الحجج ضد إعادة المعالجة وإعادة التدوير.

تشمل هذه الحجج— بالإضافة إلى الحجة القائلة بأن موارد اليورانيوم ستبقى كافية للمستقبل المنظور— عدم النضج المفترض لهذه التقنية وارتفاع تكلفتها المتصورة ومخاوف الانتشار النووي. لكن التقنية المتعلقة بتصنيع وإعادة تدوير وقود المفاعلات هي في الواقع تقنية ناضجة، وبالفعل تم تطويرها على نطاق واسع إلى حد معقول (على الرغم من حدوث ذلك في عدد قليل من الدول فقط). لقد برهنت فرنسا والهند— من خلال بحث وتطوير واسع وسياسة حكومية مستقرة والتنفيذ المتتابع للمفاعلات المطورة— على السلامة والنضج والتكلفة المقبولة لإعادة المعالجة وإعادة تدوير البلوتونيوم. وفي الوقت نفسه، إن مقاومة الانتشار يمكن أن تبنى بسهولة في تصميم دورة الوقود. إذ من الممكن أن نتصور برامج للفصل يتم فيها استعادة كل من اليورانيوم والبلوتونيوم من الوقود المشع—  بحيث لا يتم انتاج بلوتونيوم نقي، والذي قد يسبب مخاوف تتعلق بالانتشار النووي. المعالجة الحرارية، على سبيل المثال، والتي شهدت قدرا كبيرا من البحث في الولايات المتحدة وروسيا، تحقق إزالة للتلوث من نواتج الانشطار أقل من العمليات المائية المعتمدة على طريقة بوريكس (لاستخراج اليورانيوم والبلوتونيوم)، التي كانت الدعامة الأساسية للصناعة النووية في هذا الصدد. وهذا يوفر مقاومة الانتشار الكامنة. لم تعد المخاوف المتعلقة بالانتشار النووي تشكل أساسا منطقيا مقنعا لاعتماد دورة وقود المرة الواحدة.

بُعد النفايات. إدارة النفايات النووية هى أحد أبعاد الطاقة النووية التي يركز الجمهور عليها كثيرا. وتشكل دورة وقود المرة الواحدة مشكلتين خطيرتين في هذا الصدد. أولا، لأن دورة وقود المرة الواحدة تتضمن التخلص من اليورانيوم والبلوتونيوم كنفايات بعد استخدام واحد فقط، ينتج عن ذلك حجم أكبر من النفايات. وهذا يخلق حاجة أكبر للمستودعات وفترة زمنية طويلة غير عملية لمراقبتها— والتي من المرجح ألا يرحب بها الجمهور أبدا. ثانيا، تقوم أعداد كبيرة من الدول بإقامة قطاعات للطاقة النووية اليوم، لكن معظم الدول لا تتمتع بالمواقع المناسبة من الناحية الجيولوجية للتخلص من الوقود المشع. إذن فمن سيتحمل عبء الوقود المستهلك الذي تنتجه تلك المفاعلات الجديدة للطاقة النووية؟

يجب أن تؤخذ هذه القضايا في الاعتبار عند حساب تكاليف الطرق المختلفة لدورة الوقود. عادة، تتم مقارنة تكاليف إعادة التدوير بتكلفة دورة وقود المرة الواحدة وذلك بافتراض أن اليورانيوم سيبقى على تكلفته الحالية. لكن حتى مع افتراض أن سعر اليورانيوم سيبقى مستقرا لعدة قرون— وهو من غير المحتمل— يجب على المرء أن يحسب التكاليف المرتفعة لإدارة نفايات دورة وقود المرة الواحدة. يجب على المرء أيضا أن يحسب الضرر البيئي الاضافي المرتبط بمتطلبات التعدين الكبيرة لدورة وقود المرة الواحدة— إذا تم إعادة تدوير اليورانيوم والبلوتونيوم، فسوف تقل الحاجة لاستخراج اليورانيوم لكل وحدة من الطاقة المنتجة. هذا النوع من النهج الشامل للتكلفة يظهر أن إعادة المعالجة ليست باهظة التكاليف، على النحو الذي يتم تصويره غالبا، ولكنها في الحقيقة تنافسية من حيث التكلفة.

كيف غيرت رأيي في إعادة المعالجة

تبدأ هذه القصة الشخصية في أواخر فترة الستينات، عندما كنت أعمل مهندسا في مرحلة ما بعد الدكتوراه في مشروع بحثي قصير عن المفاعل المولد السريع "فينيكس" في منشأة كاداراش للأبحاث التي كانت مركز فرنسا للأبحاث المتعلقة بسلامة المفاعلات المولدة السريعة. آنذاك كنت مقتنعا، مثل معظم المهندسين النووين الآخرين، بأن جلين سيبورج، الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء، كان محقا عندما قال إن المفاعلات المولدة السريعة وإعادة تدوير البلوتونيوم سوف تمد العالم بكهرباء رخيصة وغير محدودة. كما أن آثار ذلك على البيئة ستكون إيجابية فقط. لذلك عندما انتهت مدة عملى في كاداراش، قررت أن أعمل في الدولة التي كان واضحا أنها الرائدة في مجال المفاعلات المولدة السريعة وإعادة المعالجة، ومن ثمّ انتقلت إلى مشروع تطوير المفاعل المولد السريع لجنرال إلكتريك في سانيفيل بولاية كاليفورنيا.

في تلك الآونة، بدأ اليورانيوم يصبح أكثر تكلفة— وأكثر ندرة وفقا لرأي الكثيرين. لذلك كانت قيمة البلوتونيوم عالية— على الأقل للاستخدامات العسكرية، وللاستخدامات المدنية من الناحية النظرية كذلك. وعندما قررت فرنسا وألمانيا في عام 1970 تنفيذ مشروع كبير يدل على الإمكانيات التجارية للمفاعلات المولدة السريعة، من خلال إنشاء مفاعل "سوبرفينيكس" بقدرة 1200 ميجاوات، شعرت بالحاجة للمشاركة في هذا المشروع الأوروبي. لذلك انتقلت مرة أخرى، لكن هذه المرة اشتغلت مع الشركة المشغلة للمشروع، وهى شركة " آر دبليو إي" الألمانية. وخلال مرحلة ما قبل المشروع، منحتني شركة " آر دبليو إي" الفرصة لأتعلم إدارة المشاريع في مفاعل (إس.إن.آر-300) في كالكار في ألمانيا، والذي كان آنذاك قيد الإنشاء.

أرسلتني شركة " آر دبليو إي" أيضا إلى المفاعل المولد السريع "فينيكس" في فرنسا لمتابعة اتصاله بشبكة الكهرباء؛ حيث كان هذا جزءا من التحضير لمشروع سوبرفينيكس. وأتذكر بإعجاب بالغ المنظر الذي شاهدته من غرفة التحكم في مفاعل فينيكس (حيث كانت به نافذة كبيرة). فقد شاهدت نهر الرون والعديد من الطائرات المقاتلة التي كانت تقلع من المطار الواقع على الجانب الآخر من النهر. لقد كانت فترة رائعة مفعمة بالتفاؤل. وكان هذا التفاؤل مبررا على ما يبدو ولاسيما في عام 1974 عندما أعلن أندريه جيرو، رئيس هيئة الطاقة الذرية الفرنسية والذي أصبح وزيرا للصناعة فيما بعد، أن البناء الدولي لمفاعل سوبرفينيكس سيبدأ قريبا. وكان من المقرر أن يتم الانتهاء من بناء مفاعلين إضافيين من المفاعلات المولدة السريعة بقدرة 1500 ميجاوات بحلول عام 1990.

لكن سرعان ما بدأ تفاؤلي بالتلاشي نوعا ما. فقد كنت أحاول الحصول على صورة أوضح عن الأمور الاقتصادية المتعلقة بالمفاعلات المولدة وإعادة معالجة البلوتونيوم وذلك عن طريق القيام بمقارنات بسيطة بين نفقات كل من المفاعلات المولدة السريعة من نوع "ذو الدائرة" والمفاعلات المولدة السريعة من نوع "الحوض" ومفاعلات الماء الخفيف. وأخذت في الاعتبار المواد التي تدخل في بنائها وقدرتها على التنويع في انتاج الكهرباء حسب الضرورة، إلى آخر هذه الأمور. وقد خلصت إلى أنه في النهاية تكون دائما تكاليف المفاعلات المولدة السريعة أعلى بكثير من تكاليف مفاعلات الماء الخفيف— أعلى على الأقل بـ 30 الى 50 في المئة. وخلصت على مضض إلى أن المفاعلات المولدة السريعة التجارية لن تنجح خلال فترة جيلي.

لكن التغييرات التي حدثت في تكاليف دورة الوقود غيرت الأمر. فقد بدأت هيئة الطاقة الذرية البريطانية، في أواخر فترة الستينات، بتقديم إعادة المعالجة بأسعار لا تقبل المنافسة— مقابل 15 دولارا فقط للكيلوجرام من المعادن الثقيلة. كما قدمت يوروكيميك، وهى منشأة أوروبية مشتركة لإعادة المعالجة، أسعارا مخفضة أيضا. وكذلك فعلت "دابليو أيه كيه"، وهى منشأة ألمانية صغيرة لإعادة المعالجة، والتي واجهت صعوبات في ملء سجل طلبياتها بداية من عام 1971 رغم أن أسعارها كانت معقولة. من ناحية أخرى، كانت أسعار اليورانيوم آخذة في الارتفاع لعدة سنوات وذلك بداية من عام 1975 تقريبا، مما عقد الأمور بالنسبة لشركات مثل وستنجهاوس، التي باعت إعادة تحميل الوقود بأسعار ثابتة.

بعد ذلك في عام 1976، أصدرت الحكومة الألمانية أمرا رسميا يقضي بأن إعادة المعالجة هى الطريقة الشرعية الوحيدة المتعلقة بالدورة الخلفية للوقود النووي. أجبر ذلك المنشأت في البلاد على اتباع طريقة إعادة المعالجة. لكن منشأة "دابليو أيه كيه" كانت هى المنشأة الوحيدة لإعادة المعالجة في الدولة كلها. لذلك كان الوفاء بأمر الحكومة يعني الاعتماد على العقود الخارجية، لكن شركة (بي.إن.إف.إل)— التي تعد خلفا لهيئة الطاقة الذرية البريطانية— كانت تعوزها القدرة للقيام بذلك عقب اندلاع حريق في منشأة الاستلام خاصتها. لذا عدتُ إلى ألمانيا للتفاوض بشأن عقود إعادة المعالجة مع شركة (كوجيما)، التي تعد سلفا لشركة الطاقة النووية الفرنسية أريفا، ولتحديد السعة التخزينية للوقود المستنفد حتى تتمكن (كوجيما) من البدء في تلقي الوقود. وبالتزامن مع ذلك، قمنا بإنتاج براميل للتخزين الجاف كبديل.

لكن في هذا الوقت – 1978— وافقت (كوجيما) على تقديم إعادة المعالجة بشرط سعر التكلفة زائد نسبة ربح، وكانت تتوقع هامش ربح ضخم بلغ 25 في المئة. وفي الوقت نفسه، أحواض التخزين الكبيرة الواقعة بعيدا عن المفاعلات والمزودة بمقاومة ضد الطائرات وأعمال التخريب لم تكن متوفرة لبعض الوقت. وكانت أيضا أكثر تكلفة من البديل المتاح— براميل التخزين الجاف. وبحلول عام 1979 ألغت شركة " آر دبليو إي" مشاريعها لإنشاء أحواض تخزين بعيدة عن المفاعلات من أجل براميل التخزين الجاف.

وفي عامى 1982 و1983 قدمت (كوجيما) أحواض تخزين كبيرة كانت بمثابة النجدة للمنشآت الألمانية. وبرغم ذلك أصبح مستقبل إعادة المعالجة قاتما. إذ عندما أعطت (كوجيما) أصحاب مفاعل سوبرفينيكس أسعارا مرتفعة بشكل غير متوقع لإعادة المعالجة، قرر أصحاب المفاعل بناء حوض تخزين كبير في الموقع من أجل الوقود المستنفد من مفاعلهم. وكانت تلك النهاية الحقيقية للمفاعلات المولدة السريعة في فرنسا— وليس قرار إغلاقها السياسي في عام 1998. إذ تم استيعاب حقائق التكلفة. كما أنه لا يوجد مخزى للمفاعلات المولدة السريعة بدون دورة وقود تجارية.

أدركت المنشآت الألمانية في عام 1989 أن إعادة المعالجة سوف تستلزم تكاليف غير مقبولة، حتى بدون الأخذ بعين الاعتبار تكاليف تصنيع وقود الأكسيد المختلط من البلوتونيوم واليورانيوم. كما أن ارتفاع معدلات احتراق وقود اليورانيوم خفض من القيمة الاقتصادية لإعادة المعالجة. وفي الوقت نفسه، أصبح من الواضح أنه لم تكن هناك ندرة في اليورانيوم على الإطلاق. في الواقع، أصبح اليورانيوم متاحا مرة أخرى بأسعار مقبولة. أيضا، مشاريع إعادة المعالجة في المملكة المتحدة واليابان لم تشهد أبدا نفس النجاح الانتاجي كما كان الحال في فرنسا، وأصبحت الآفاق الاقتصادية لإعادة المعالجة مظلمة للغاية.

اليوم، لم يعد البلوتونيوم شيئا نافعا ذات قيمة عالية في ميزانية المنشآت النووية. وهو في أحسن الأحوال يعتبر مادة ذات قيمة صفرية. لكن في البلدان التي قد تنجح في تطوير مفاعلات مولدة سريعة رخيصة ودورة الوقود بأسعار معقولة (لا تزال الصين والهند وروسيا متعلقة بهذه الآمال)، فإنه من المرجح أن يكون مادة ذات قيمة سالبة. ويخشى المرء أن تصبح المنشآت المملوكة للقطاع الخاص أسيرة للبلوتونيوم الذي تنتجه. وبالنسبة للمنشآت الوطنية، في الوقت نفسه، فإن الحكومة هى التي ستصبح أسيرة للبلوتونيوم— أو بدقة أكثر، دافعي الضرائب هم الذين سيصبحون أسرى له.

هل من الممكن أن يثبت في يوم من الأيام أن رأي سيبورج كان صحيحا؟ لقد استنتجت منذ أكثر من 30 عاما مضت أن المفاعلات المولدة السريعة التجارية لن تصبح حقيقة واقعة في جيلي. ولا يزال الأمر نفسه يبدو صحيحا بالنسبة للجيل الحالي من الشباب. مع أن هذا الاستنتاج لا يضع حتى في الاعتبار تهديد الانتشار الذي يشكله البلوتونيوم.

Round 2

هدف طويل الأمد مقابل واقع قصير الأمد

جادل كل من بالديف راج وبي. آر. فاسوديفا راو بأن إعادة المعالجة والمفاعلات المولدة السريعة أمور ضرورية من أجل استدامة طويلة الأمد للطاقة النووية. في الواقع، إن إمكانات المفاعلات المولدة السريعة لإنتاج كميات وقود أكثر مما تستهلكه قد جذبت إليها الأنظار منذ ظهور الطاقة النووية، وخاصة أنظار الذين يتصورون أنه سيأتي وقت لن يكون فيه اليورانيوم متاحا بسعر رخيص. لكن للأسف، أظهرت التجارب على مدى عدة عقود أن أنظمة إعادة تدوير البلوتونيوم هى أكثر تكلفة وأقل موثوقية بكثير من المفاعلات التى يجرى تبريدها بالماء. وإذا كان المقصود من إيجاد طاقة نووية مستدامة هو إدارة القضايا الهامة مثل السلامة النووية ومقاومة انتشار الأسلحة النووية بنجاح وكذلك تحقيق قدرة تنافسية اقتصادية والتقليل من إنتاج النفايات المشعة واستخدام الموارد الطبيعية بحكمة، فإن المفاعلات السريعة وإعادة تدوير البلوتونيوم لا يزال أمامها الكثير قبل أن تتمكن من المساهمة في تلك الأمور بشكل فعال.

كتب راج وراو في مقالهما الأول أنه بالنسبة للدول التي لديها موارد محدودة من اليورانيوم مثل الهند والصين، "لن يصبح التوسع الكبير في الطاقة النووية مستداما بدون إعادة المعالجة وإعادة التدوير". لكن موارد اليورانيوم المحدودة في دولة ما لا يعيق بالضرورة تطوير تلك الدولة لطاقتها النووية. في الواقع، يمكن بشكل عام تصوير التوزيع العالمي لموارد اليورانيوم على النحو التالي: دول لديها مزيد من الطاقة النووية وموارد قليلة من اليورانيوم، ودول لديها مزيد من اليورانيوم وقليل من الطاقة النووية. إن مقايضة اليورانيوم تشكل بالطبع سوقا عالمية.

كتب أيضا راج وراو في مقالهما الثاني أنه "لا يمكن أن تُبنى المناقشات حول مصادر مستدامة للطاقة على المدى الطويل على الاقتصادات الحالية فقط. إذ سوف ترتفع أسعار اليورانيوم عندما تبدأ الامدادات في النفاد". لكن التوقعات في الماضي بأن أسعار اليورانيوم سترتفع باطراد قد ثبت خطؤها. حتى عندما زاد الطلب، ظلت أسعار اليورانيوم منخفضة نسبيا. وهذا لم يكن مفاجئا— إذ أن أسعار معظم المعادن انخفضت مقابل سعر الدولار الثابت على مدى القرن الماضي بينما زادت عمليات الاستخراج. وبالنسبة لليورانيوم، أدت زيادة الاستكشافات والتقدم التقني إلى زيادة الموارد المعروفة بشكل أسرع من نفاذ اليورانيوم. إن موارد اليورانيوم المعروفة هي مفهوم اقتصادي ديناميكي، وسوف يثبت بالتأكيد أن الموارد العالمية ستكون أكبر على المدى الطويل من الموارد الحالية المذكورة في الكتاب الأحمر.

جادل راج وراو أيضا لصالح إعادة تدوير البلوتونيوم على أساس أنها تنتج كميات من النفايات النووية أقل من الناتجة عن دورة وقود المرة الواحدة. لكن إعادة معالجة البلوتونيوم وإعادة تدوير ما زالت تنتج نفايات عالية المستوى الإشعاعي، ونفايات متوسطة المستوى الإشعاعي طويلة العمر، ونفايات منخفضة المستوى الاشعاعي. كل هذه الكميات الهائلة من النفايات يجب أن تدفن في النهاية، وبالتالي فإن إعادة المعالجة لا تلغي الحاجة إلى وجود مستودعات. علاوة على ذلك، يتم تحديد استيعاب المستودع الجيولوجي من خلال حرارة اضمحلال النفايات، وليس الحجم المادي للنفايات. وبالتالي، فإن المستودع الجيولوجي للنفايات عالية المستوى الإشعاعي الذي تدرس الصين إقامته في مقاطعة قانسو، سوف يتضاعف استيعابه ببساطة إذا تم فصل جميع عناصر ما بعد اليورانيوم عن النفايات النووية— وهى نفس الزيادة التي يمكن تحقيقها عن طريق الانتظار 100 سنة قبل دفن النفايات. لذلك، بدلا من قيام الصين ببناء مفاعل لإعادة المعالجة ذا تكلفة عالية، يمكنها أن تختار براميل التخزين الجاف منخفضة التكلفة نسبيا. في النهاية، سيزداد استيعاب المستودعات الجيولوجية بنسبة صغيرة للغاية عن طريق إعادة معالجة البلوتونيوم وإعادة تدويره لمرة واحدة عن طريق وقود الأكسيد المختلط.

وفيما يتعلق بمخاطر الانتشار التي قد تشكلها المفاعلات السريعة وإعادة المعالجة، كتب راج وراو بأن "مقاومة الانتشار يمكن أن تبنى بسهولة في تصميم دورة الوقود" وأن المعالجة الحرارية "توفر مقاومة كامنة للانتشار". صحيح أن المعالجة الحرارية لا تنتج البلوتونيوم النقي، بعكس طريقة بوريكس التقليدية لإعادة المعالجة. لكن المنتج النهائي للمعالجة الحرارية يكون أقل إشعاعا بكثير من الوقود المستهلك نفسه. ستكون عملية مباشرة نسبيا لفصل البلوتونيوم بعد اكتمال المعالجة الحرارية— وهذا أسهل من فصل البلوتونيوم من الوقود المستنفد مباشرة. صوّر أيضا راج وراو إعادة تدوير البلوتونيوم— مقارنة بالفصل— على أنها "إجراء لحظر الانتشار النووي". لكن إعادة تدوير البلوتونيوم والمفاعلات السريعة تتطلب أن يتم فصل البلوتونيوم في المقام الأول، مما يتيح استخدامه عسكريا. لقد استخدمت الهند بالطبع في تفجيرها النووي "السلمي" عام 1974 البلوتونيوم الذي قيل إنه تم فصله لاستخدامه في برنامجها للمفاعلات السريعة. وحتى إذا كانت الحكومات ليس لديها الرغبة في انتشار الأسلحة النووية، فإن البلوتونيوم المفصول أكثر عرضة للسرقة أو إساءة الاستخدام من الوقود المستهلك.

ختاما، جادل راج وراو بأن "الجيل الحالي يتحمل المسؤولية تجاه الأجيال القادمة فيما يتعلق بعدم استنزاف موارد اليورانيوم في العالم". لكن إذا كان الجيل الحالي غير قادر على ضمان التشغيل الآمن والسالم لمفاعلات الطاقة النووية اليوم، فما الفائدة من تعظيم موارد اليورانيوم للأجيال القادمة؟ وعلى وجه الخصوص، ما هي الفائدة من القيام بذلك من خلال المفاعلات المولدة السريعة وإعادة معالجة البلوتونيوم— وهى تقنيات جدلية تشكل مخاطر أمنية إضافية؟

ليست المسألة هل نفعل أم لا، بل متى

كتب هوي تشانج في مقاله الأول أنه لا ينبغي أن تتسرع الصين في تطوير منشآت لإعادة المعالجة ومفاعلات مولدة سريعة على نطاق تجاري. وقد عمّم جانبيرج في مقاله الثاني وجهة نظر تشانج من خلال طرحه للسؤال التالي على كاتبىّ هذا المقال: "لماذا التسرع في اعتماد المفاعلات المولدة السريعة وإعادة المعالجة؟". لكننا، نحن الكاتبان، لم نجادل بأن هناك حاجة ملحة تحيط بإعادة معالجة البلوتونيوم أو المفاعلات المولدة السريعة. بل نحن نجادل بأن الاستخدام واسع الانتشار لهذه التقنيات هو أمر حتمي على مدى زمني طويل (بافتراض أنه سيتم استخدام موارد اليورانيوم في العالم بفعالية). ولم يتناول تشانج وجانبيرج مسألة الاستدامة طويلة الأجل للطاقة النووية في هذه المائدة المستديرة حتى الآن. إذ يبدو أن كلا المؤلفين يعتقدان أنه من المُرضي أن يتم إنتاج طاقة انشطارية على مدى عقود قليلة قادمة فحسب.

لقد بنى كل من جانبيرج وتشانج حججهما المعارضة للمفاعلات المولدة السريعة وإعادة المعالجة بشكل جزئي على أساس اقتصادي— ولا سيما على أساس أسعار اليورانيوم. لكن لا يمكن أن تُبنى المناقشات حول مصادر مستدامة للطاقة على المدى الطويل على الاقتصادات الحالية فقط. إذ سوف ترتفع أسعار اليورانيوم عندما تبدأ الامدادات في النفاد؛ إنها مسألة وقت فحسب. لكن حينها، ربما تتمكن فقط شعوب الدول المتعطشة للموارد الطبيعية أن تقدر ما كان يعنيه "هومي بابا جهانجير"، أبو البرنامج النووي الهندي، عندما قال "لا توجد طاقة أكثر تكلفة من انعدام الطاقة" وهذا يعني أنه لا توجد وسيلة لتوليد الطاقة تشكل أعباء أكبر من التي تشكلها نقص الطاقة.

كما اعتمد جانبيرج أيضا على الاقتصادات قصيرة المدى بدلا من الاقتصادات طويلة المدى عندما قال في استنتاجه إنه "في النهاية تكون دائما تكاليف المفاعلات المولدة السريعة أعلى بكثير من تكاليف مفاعلات الماء الخفيف— أعلى على الأقل بـ 30 الى 50 في المئة". لكن جانبيرج تسرع في استنتاجه. حيث استمد استنتاجه من المقارنة بين تقنيات ناضجة (مفاعلات الماء الخفيف) وتقنيات أخرى لم يتم إثباتها على نطاق مماثل (المفاعلات المولدة السريعة وإعادة المعالجة). لذلك عندما قدم جانبيرج رأيه القائل بأن "المفاعلات المولدة السريعة التجارية لن تنجح خلال فترة جيلي"، يمكننا الرد بأن قلقنا لا يتعلق بالجيل الحالي، بل بالأجيال القادمة.

في الوقت نفسه، كتب تشانج في مقاله الأول أن "إعادة تدوير البلوتونيوم هو أكثر تكلفة … من تشغيل مفاعلات الماء الخفيف بواسطة دورة وقود المرة الواحدة". لكن الخبرة العملية لمفاعلات إعادة المعالجة في جميع أنحاء العالم غير ملائمة لإطلاق مثل هذا التصريح. في الواقع، نفذت فرنسا برنامج إعادة المعالجة وإعادة التدوير على نطاق تجاري بنجاح جيد.

النفايات والأسلحة. أعطى أيضا جانبيرج وتشانج قدرا قليلا من الأهمية لإعادة معالجة البلوتونيوم والمفاعلات المولدة السريعة فيما يتعلق بالحد من حجم النفايات النووية. لكن ما الذي ينبغي عمله إزاء النفايات النووية الناجمة عن دورة وقود المرة الواحدة؟ لم يذكر المؤلفان جبل يوكا—وهو مستودع للنفايات النووية في الولايات المتحدة واجه معارضة سياسية شديدة خلال عقود من التخطيط لإنشائه ولا يبدو أنه سوف يتم تشغيله في القريب العاجل. إذا اعتمدت جميع الدول التي لديها قطاعات للطاقة النووية على دورة وقود المرة الواحدة، فسوف يستلزم ذلك وجود أعدادا كثيرة من جبال يوكا للتخلص من النفايات. وهذا لا يبدو ممكنا. فهل كل الدول لديها المساحة المتاحة لهذه المنشآت؟ ومن سيتحمل تكاليف مراقبة وضمان سلامة هذه المنشآت على مدى قرون؟

ثمة نقطة أخيرة: كتب جانبيرج في مقاله الثاني أنه ربما "لا تبدو مسألة الانتشار أمرا مقلقا جدا" في الهند، وأن قيام الهند بتفجيرها النووي في عام 1974 كان "نقطة إنطلاق" برامج الأسلحة النووية في العديد من الدول. لكن اختيار جانبيرج مناقشة مسألة الانتشار بهذه التعبيرات ليس ملائما إلى حد ما. فنحن، الكاتبان، نشارك في هذه المائدة المستديرة كخبراء في مجال المفاعلات المولدة السريعة ودورة الوقود—ولسنا نشارك من أجل تمثيل "موقف الهند". لكن أما وقد أثار جانبيرج هذه المسائل، فإننا نوضح أن الهند معترف بها كقوة نووية مسؤولة ولديها سجل نظيف فيما يتعلق بحظر الانتشار النووي. وعلى أية حال، لا بد أن يميز المرء في مناقشات الانتشار بين إعادة المعالجة وإعادة التدوير. إذ هل يمكن أن تؤدي إعادة المعالجة إلى انتشار الأسلحة النووية؟ هذه مسألة خاصة بكل دولة. لكن إعادة التدوير، في المقابل، هى مقياس حظر الانتشار النووي. فهل يمكننا أن نتصور مكانا أكثر أمانا للبلوتونيوم من قلب المفاعل؟

حقبة جديدة وحجج قديمة

تقدم لنا الحياة مفاجآت رائعة حتى عندما يصل المرء إلى سن الشيخوخة. فقد اكتشفت في هذه المائدة المستديرة أن زميلي هوي تشانج هو "توأم" روحي الصيني. في الواقع، أود أن أوجه إلى زميلىّ بلديف راج و بي.آر.فاسوديفا راو السؤال المحوري الوارد في المقال الأول لتشانج: لماذا التسرع في اعتماد المفاعلات المولدة السريعة وإعادة المعالجة؟  لماذا تقدمان نفس الحجج التي سبق أن قُدمت في حقبتىّ الستينات والسبعينات، برغم أنه قد ثبت أن تلك الحجج غير سليمة في عديد من الدول على مدى العقود الماضية؟

اعتمد راج وراو في جزء كبير من مقالهما الأول على فكرة أن موارد اليورانيوم العالمية غير كافية. لكن خام اليورانيوم، بأسعار الدولار الثابتة، هو أرخص اليوم مما كان عليه في الماضي. صحيح أن أسعار اليورانيوم قد ارتفعت قبل كارثة فوكوشيما، لكنها بعد ذلك انخفضت جدا لدرجة أن العديد من المناجم لم تتمكن من تغطية تكاليفها. كان لا بد من خفض الإنتاج ولم يكن هناك أي حافز للقيام باستكشافات أخرى تتعلق بعمليات التعدين. وإلى أن تتمكن المناجم من الاستثمار مرة أخرى، سيكون هناك نقص في الإمدادات وسترتفع الأسعار— لكن إذا وضعنا التقلبات قصيرة الأجل جانبا، فإن صناعة اليورانيوم اليوم تواجه تحديا من أجل البقاء.

إن الاحتياطيات المؤكدة من اليورانيوم التي يمكن الوصول إليها بسهولة ستكون كافية لتلبية الطلبات لعقود قادمة. لكن راج وراو اختارا القيام بتحليل الإمدادات على مدى فترة زمنية طويلة جدا— حيث قالا "لا بد أن يستنتج المرء أن الطاقة الانشطارية المعتمدة على اليورانيوم لا يمكن … أن تستمر لأكثر من بضعة قرون". وحتى لو كان هذا صحيحا، فإنه يعبر عن قدر هائل من عدم الثقة في قوى السوق وبراعة البشرية. لقد أثبت التاريخ مرارا أنه إذا واجه البشر حاجة ملحة، فسوف يقومون باكتشاف طريقة لتلبية هذه الحاجة. أو سيتم تحسين الطرق القائمة حتى يتم اكتساب وقت إضافي للبحث والتطوير.

في الواقع، إن العديد من تقنيات الطاقة قيد التطوير اليوم قد تقلل من الحاجة إلى الطاقة الانشطارية في المستقبل. وأنا لن أجادل بأن الخلايا الضوئية، على سبيل المثال، هي الحل— لكن كفاءتها تتحسن باستمرار وتكاليفها المالية آخذة في التناقص، في حين أن تكاليف المفاعلات النووية آخذة في الارتفاع (فقد زادت تكاليف المفاعلين الجديدين في أولكيليوتو بفنلندا وفلامانفيل بفرنسا إلى ثلاثة أضعاف). لذلك، هل يعتقد راج وراو أن البشرية لن تقدم أنظمة ملائمة لتخزين الكهرباء خلال الـ15 أو الـ20 عاما القادمة؟ يا له من تشاؤم صادر من قبل علماء؟   

على أية حال، إذا كان البلوتونيوم هو الحل لنقص اليورانيوم المحتمل في المستقبل، فإنه توجد بالفعل مخزونات كبيرة من البلوتونيوم. المملكة المتحدة متوفر لديها أكثر من 110 طن متري من البلوتونيوم المدني— مع عدم وجود مفاعلات تستخدم هذا النوع من الوقود. اليابان لديها مخزون يبلغ حوالي 47 طن متري (مخزن في اليابان وأماكن أخرى). فرنسا لديها أكثر من 20 طن متري من البلوتونيوم. تشكل هذه المخزونات منطقة واقية هامة ضد أي نقص مستقبلي من الوقود النووي.

يجادل راج وراو أيضا لصالح إعادة المعالجة على أساس فوائدها المزعومة في الحد من النفايات النووية، إذ يؤكدان على أن دورة وقود المرة الواحدة تنتج حجما أكبر من النفايات مقارنة بما تنتجه دورة الوقود المغلقة. وهما محقان في ذلك—إذا ركزنا فقط على الوقود المستنفد وأخذنا في الاعتبار الحرارة الصادرة داخل مناجم التخلص من النفايات. لكن إعادة المعالجة تنطوي أيضا على تصريف النفايات السائلة والغازية في البيئة. ثم هناك النفايات المزججة الناجمة عن إعادة المعالجة؛ وأجسام وهياكل مجمعات الوقود المستنفد والتي يجب التخلص منها؛ والرواسب المتصلبة الناتجة عن عملية إعادة المعالجة نفسها. وإتماما للفائدة، ينبغي على المرء أن يذكر أيضا النفايات التي تنتج في النهاية عن تفكيك منشآت إعادة المعالجة. هذ السيل من النفايات يجعل بدون شك دورة وقود المرة الواحدة أفضل كثيرا فيما يتعلق بحجم النفايات. وبالنسبة إلى المعالجة الحرارية فلن تغير هذا الواقع بشكل كبير.

أخيرا، تبقى مسألة انتشار الأسلحة النووية. راج وراو قالا إنه "لم تعد المخاوف المتعلقة بالانتشار النووي تشكل أساسا منطقيا مقنعا لاعتماد دورة وقود المرة الواحدة". ربما لا تبدو مسألة الانتشار أمرا مقلقا جدا بالنسبة للهند، التي لم توقع على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. لكن المسألة كانت مصدر قلق بالغ بالنسبة للعديد من الدول الأخرى منذ قيام الهند بإجراء أول تفجير نووي "سلمي" في عام 1974. كان هذا التفجير، الذي استخدم البلوتونيوم المعاد معالجته من الوقود المستهلك للمفاعل، هو نقطة إنطلاق البرامج النووية في باكستان وكوريا الشمالية وليبيا والعراق وربما في دول أخرى لم تُعرف حتى الآن. أنا أقر بأنه في الوقت الحاضر قد يكون من الأسهل بالنسبة لبعض الدول إنتاج مواد انشطارية من خلال تخصيب اليورانيوم. لكن إعادة المعالجة، حتى وإن لم تحقق الفصل الكامل بين اليورانيوم والبلوتونيوم من الوقود المستنفد، لا تزال تشكل أسهل طريقة، فضلا عن كونها طريقة سريعة أيضا، لتصنيع "قنبلة قذرة"— وهو الأمر الذي يعقد من جهود المراقبة. أعتقد أن مخاطر الانتشار المرتبطة بإعادة المعالجة لا تزال موجودة— وفي الحقيقة آخذة في الارتفاع.

Round 3

تكاليف ومخاطر كثيرة ومكاسب قليلة

قال بالديف راج وبي.آر.فاسوديفا راو في مقالهما الثالث إنهما حدّدا "عدة أخطاء فنية" في مقالي الثاني. وأنا أعتبر قولهما مضللا.

على سبيل المثال، قلتُ إن "النفايات عالية المستوى الإشعاعي، والنفايات متوسطة المستوى الإشعاعي طويلة العمر، والنفايات منخفضة المستوى الاشعاعي [الناجمة عن إعادة معالجة البلوتونيوم وإعادة تدويره] … يجب أن تدفن في النهاية، وبالتالي فإن إعادة المعالجة لا تلغي الحاجة إلى وجود مستودعات". وردّ راج وراو بأن "النفايات عالية المستوى الإشعاعي فقط هى التي تتطلب الدفن في مستودعات جيولوجية عميقة. إذ يمكن دفن النفايات متوسطة المستوى الإشعاعي في مستودعات سطحية". لكن النفايات متوسطة المستوى الإشعاعي طويلة العمر الناجمة عن إعادة معالجة البلوتونيوم وإعادة تدويره يجب في الواقع أن تُدفن في مستودع عميق (إذ إن المستودعات السطحية تلائم النفايات المشعة قصيرة الأجل). ومع ذلك، كانت نقطة تركيزي الأساسية هى أن إعادة المعالجة لا تلغي الحاجة إلى وجود مستودعات. لكن راج وراو تجاهلا هذه الفكرة من الأساس.

قدّم راج وراو أيضا وصفا خاطئا لحجتي القائلة بأن طاقة مستودع النفايات عالية المستوى الإشعاعي، الذي تدرس الصين إقامته في مقاطعة قانسو، سوف تتضاعف ببساطة إذا تم فصل جميع عناصر ما بعد اليورانيوم عن النفايات النووية— وأن نفس هذه الزيادة يمكن تحقيقها عن طريق الانتظار 100 سنة قبل دفن النفايات. لكن راج وراو اعترضا على قولي من خلال مقارنة سمّية النفايات التي أُعيدت معالجتها بسمّية النفايات التي لم يتم إعادة معالجتها. لكن تركيزي في مقالي الثاني كان منصبّا على تخفيض حجم النفايات التي تدرس الصين وضعها في مستودع قانسو. ولم أتطرق مطلقا إلى موضوع السمّية.

وعموما فيما يتعلق بكميات النفايات النووية، أنا أتفق مع زميلي في هذه المائدة المستديرة كلاوس جانبيرج، الذي كتب في مقاله الثاني أن الحساب الكامل لكمية النفايات المرتبطة بإعادة المعالجة والمفاعلات المولدة السريعة تجعل دورة وقود المرة الواحدة "أفضل كثيرا".

خيار سهل. في الآونة الأخيرة، جادل مؤيدو مفاعلات النيوترونات السريعة إنه بإمكان المفاعلات المولدة السريعة وإعادة المعالجة الحد من المخاطر طويلة الأجل المرتبطة بدفن النفايات عالية المستوى الاشعاعي. لكن هذه المكاسب على المدى الطويل تقابلها مخاطر وتكاليف على المدى القصير. على سبيل المثال، يجادل مؤيدو المفاعلات السريعة بأنه يمكن الحد من المخاطر المتعلقة بالتسرب في المستودعات الجيولوجية إذا تم تحويل (أو انشطار) جميع نظائر البلوتونيوم طويلة الأجل وعناصر ما بعد اليورانيوم الأخرى الموجودة في الوقود المستهلك، مما يقلل بشكل كبير من الجرعات الإشعاعية التي يمكن أن تنفذ نتيجة أي تسرب. لكن الدراسات تشير إلى أن نواتج الانشطار والتنشيط طويلة العمر في الوقود المستهلك— وليس النظائر التي يمكن انشطارها بواسطة المفاعلات السريعة وإعادة المعالجة— هى السائدة في الجرعات الإشعاعية التي يمكن أن تنفذ عن طريق التسرب. وفي الحقيقة، البلوتونيوم غير قابل للذوبان في المياة الجوفية العميقة. لذلك، فإن إعادة المعالجة لا تقدم أية فوائد واضحة على المدى الطويل بشأن خفض الجرعات المسربة من النشاط الإشعاعي— لكنها تشتمل على انبعاثات اعتيادية للغازات المشعة طويلة العمر من الوقود المستنفد. إن إعادة المعالجة تزيد أيضا من خطر إمكانية انفجار خزانات النفايات السائلة عالية المستوى الاشعاعي. (ومن نفس المنطلق، يجادل مؤيدو مفاعلات النيوترونات السريعة بأن إعادة المعالجة يمكن أن تقلل من تعرض البشر للإشعاع، وذلك عن طريق تقليل الحاجة لاستخراج اليورانيوم. لكن أي فائدة جرّاء ذلك ستكون عديمة المنفعة لأن عملية إعادة معالجة البلوتونيوم وإعادة تدويره نفسها تعرض العاملين والجمهور للإشعاع. باختصار، ستكون الآثار النهائية سلبية للغاية).

وفي الوقت نفسه، فإن جميع برامج إعادة المعالجة ومفاعلات النيوترونات السريعة، التي هى قيد الدراسة حاليا، تزيد بشكل كبير التكاليف الاقتصادية للطاقة النووية. وهذا يعني أن صناع القرار النووي يجب أن يختاروا بين تحقيق تخفيضات ضئيلة إلى حد ما في المخاطر طويلة الأجل المرتبطة بالنفايات النووية— وبين تحقيق مكاسب قصيرة الأجل تتعلق بمجالات السلامة والأمن والصحة البشرية والبيئة. إن الخيار يبدو واضحا نوعا ما. في عام 1996، خلصت الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم، استنادا إلى استعراض حول تكاليف وفوائد برامج إعادة المعالجة ومفاعلات النيوترونات السريعة، إلى أنه "لا تبدو أي من تخفيضات الجرعات كبيرة بما فيه الكفاية لتبرير النفقات ومخاطر التشغيل الإضافية لعملية التحويل". وهذه التقديرات لا تزال صالحة حتى اليوم.

أخيرا، أكد راج وراو على أنني وجانبيرج لم نفنّد حجتهما بأن "الجيل الحالي يحمل التزاما أمام الأجيال القادمة بعدم استنزاف موارد اليورانيوم في العالم". بدلا من ذلك، قال راج وراو بأنني وجانبيرج ركزّنا "على المسائل الاقتصادية وقضايا النفايات وكذلك على برنامج الأسلحة النووية للهند…". لكن لم لا ينبغي أن نناقش أنا وجانبيرج قضايا مثل الاقتصاد والنفايات والانتشار النووي—والتي يجب معالجتها على نحو مرضٍ إذا أردنا تحقيق نظم مستدامة للطاقة النووية؟ وحتى لو أعطينا نفس القدر من الاهتمام إلى توافر اليورانيوم في المستقبل كما يودّ راج وراو، هل ستكون إعادة المعالجة مقبولة إذا ظل اليورانيوم متوفرا بأسعار زهيدة، كما يبدو مرجحا، على مدى السنوات الطويلة القادمة؟

إغلاق دورة الوقود: وجهة نظر الأغلبية

لم يفند كلاوس جانبيرج وهوى تشانج الحجة الرئيسية التي قدمناها لصالح إعادة المعالجة والمفاعلات المولدة السريعة: بأن الجيل الحالي يحمل التزاما أمام الأجيال القادمة بعدم استنزاف موارد اليورانيوم في العالم. لكن بدلا من ذلك، ركز جانبيرج وتشانج على المسائل الاقتصادية وقضايا النفايات وكذلك على برنامج الأسلحة النووية للهند— والذي يأتي خارج السياق، إذ إن الغرض من هذه المائدة المستديرة هو مناقشة موضوع معين، وليس موقف أي دولة تجاه هذا الموضوع.

حددنا أيضا عدة أخطاء فنية في المقال الثاني لتشانج. على سبيل المثال، قال تشانج إن "النفايات عالية المستوى الإشعاعي، والنفايات متوسطة المستوى الإشعاعي طويلة العمر، والنفايات منخفضة المستوى الاشعاعي [الناجمة عن إعادة معالجة البلوتونيوم وإعادة تدويره] … يجب أن تدفن في النهاية، وبالتالي فإن إعادة المعالجة لا تلغي الحاجة إلى وجود مستودعات". وهذا بعيد تماما عن الدقة. والحقيقة هى أن النفايات عالية المستوى الإشعاعي فقط هى التي تتطلب الدفن في مستودعات جيولوجية عميقة. إذ يمكن دفن النفايات متوسطة المستوى الإشعاعي في مستودعات سطحية— والتي يكون إنشاؤها أسهل. أما النفايات منخفضة المستوى الاشعاعي فيمكن تخفيفها وتبديدها، دون الحاجة إلى مستودعات على الإطلاق. وهذا في الواقع يمثل النهج الدولي لإدارة النفايات (وليس نهج الهند فقط).

كما اقترح تشانج أيضا أن دورة وقود المرة الواحدة لا تتطلب مساحة إضافية في المستودعات الجيولوجية مثل التي تتطلبها دورة الوقود المغلقة— طالما يمكن تخزين النفايات لمدة 100 سنة في براميل التخزين الجاف. لكن هذا بعيد تماما عن الصواب أيضا. إذ إن أبحاثا عديدة تتعلق بمجموع ما كُتب في هذا الصدد تبين بوضوح أنه، عن طريق دورة وقود المرة الواحدة، يتم تخفيض سمّية النفايات عالية المستوى الإشعاعي إلى مستويات مماثلة لمستويات اليورانيوم الطبيعي بعد عشرات الآلاف من السنين. لكن عندما تتم إزالة عناصر ما بعد اليورانيوم من خلال إعادة المعالجة، فإنه يتم تخفيض مستويات السمّية المماثلة لمستويات اليورانيوم الطبيعي بعد 300 سنة فقط. هذه حقيقة أساسية تستند إلى طبيعة الاضمحلال الإشعاعي، ولا يمكن أن نتجاهلها. وعلى أية حال، إن تأكيد جانبيرج وتشانج على براميل التخزين الجاف هو تأكيد خاطئ. إذ هل هناك أي طريقة لضمان سلامة الوقود المستهلك المخزن في براميل لمئات أو آلاف السنين؟ وكما كتبنا في مقالنا الثاني، المكان الأكثر أمانا للبلوتونيوم هو داخل المفاعل. وبراميل التخزين الجاف لا يمكن مقارنتها به.

الآن أو لاحقا. ثمة ميزة أخرى مهمة لإعادة المعالجة، والتي لم يُعرها جانبيرج وتشانج أي اهتمام، ألا وهى قدرتها على الحد من الحاجة إلى استخراج اليورانيوم. إن مرحلة استخراج اليورانيوم، من بين جميع مراحل دورة الوقود النووي بما في ذلك إدارة النفايات في النهاية، هى المسؤولة عن تقديم أعلى جرعة من النشاط الإشعاعي إلى البشر. إن المؤتمر الدولى حول التطورات في مفاعلات الطاقة النووية لعام 2015، الذي انعقد مؤخرا في مدينة نيس الفرنسية، اشتمل على عروض ومناقشات حول نظم نووية تعمل باليورانيوم والبلوتونيوم المنضبين (المستخرجين من إعادة المعالجة) وقدرتها على تقليل الحاجة إلى استخراج اليورانيوم، إن لم يتم تجنبه تماما.

كتب تشانج أيضا في مقاله الثاني أن "المفاعلات السريعة وإعادة تدوير البلوتونيوم لا يزال أمامها الكثير قبل أن تتمكن من المساهمة بشكل فعال" في إنشاء طاقة نووية مستدامة. ونحن يسرنا أن نرى أن تشانج يعتقد أنه المفاعلات السريعة وإعادة المعالجة يمكنها أن تسهم بشكل فعال في مرحلة ما، حتى إن لم يكن ذلك في الوقت الحالي. لكن ذلك، في الحقيقة، هو محور حجتنا— بأن اعتماد المفاعلات المولدة السريعة ومعالجة البلوتونيوم على نطاق واسع هى مسألة توقيت، وليس اختيار. إن الحاجة العالمية لتحقيق استدامة الطاقة حددت مسألة "الاختيار". أما "التوقيت" فيعتمد على سياسات الدول المنفردة والنضج التقني ومتطلبات الطاقة.

وحسب معرفتنا، لا توجد دولة تبنت الرأي القائل بأنه لن تكون هناك أبدا حاجة لدورة الوقود المغلقة. في الواقع، يوجد عدد قليل جدا من الدول التي تفضل دورة وقود المرة الواحدة، وبعض هذه الدول تنوي التخلص التدريجي من الطاقة النووية بالكلية. إن أغلبية الدول ترى أن دورة الوقود المغلقة ليست اقتصادية بالنسبة لهم في الوقت الحالي، أو ليست مطلوبة الآن. لكنها تحتفظ بخيار اعتماد دورة الوقود المغلقة على المدى الطويل. لطالما تم الإقرار بأهمية المفاعلات السريعة وإعادة معالجة البلوتونيوم في البرامج الدولية مثل المؤتمر الدولى حول التطورات في مفاعلات الطاقة النووية والمنتدى الدولي للجيل الرابع. إن السبب وراء موقف الأغلبية هذا هو أنه إذا أردنا أن تكون الطاقة النووية مستدامة— حيث تشمل معايير الاستدامة كل من الاقتصاد والسلامة وإدارة النفايات— فإنه لا يمكن الاستغناء عن دورة الوقود المغلقة والمفاعلات السريعة.

إهدار للأموال بدون مبرر

واصل بالديف راج و بي.آر.فاسوديفا راو في مقالهما الثاني احتجاجهما بأن إعادة معالجة البلوتونيوم والمفاعلات المولدة السريعة تقدم فوائد كبيرة في الحد من النفايات. كما قلّلا أيضا من شأن التحديات الاقتصادية ومخاطر الانتشار المرتبطة بالمفاعلات السريعة وإعادة المعالجة. لكن وجهات نظرهما بشأن هذه القضايا لا تصمد أمام الفحص الدقيق.

بالنسبة لمسألة النفايات، ناقش راج وراو الإخفاق حتى الآن في فتح مستودع جبل يوكا للنفايات النووية في الولايات المتحدة. حيث قالا "إذا اعتمدت جميع الدول التي لديها قطاعات للطاقة النووية على دورة وقود المرة الواحدة، فسوف يستلزم ذلك وجود أعدادا كثيرة من جبال يوكا للتخلص من النفايات"، ووصفا ذلك بأنه "لا يبدو ممكنا". وتساءلا أليس من المنطقي أن يتم الحد من حجم النفايات من خلال إعادة المعالجة؟ لكن الحقيقة هى أنه لا يوجد مستودع جيولوجي للنفايات عالية المستوى الاشعاعي يعمل في أي مكان في العالم. فما الأهمية إذا تم تخفيض حجم النفايات من خلال إعادة المعالجة؟ ومن ناحية أخرى، كما جادلت في مقالي الثاني، فإن الحساب الكامل لكمية النفايات يدل على أن دورة وقود المرة الواحدة تنتج كميات نفايات أقل من المفاعلات المولدة السريعة وإعادة المعالجة.

وعلى أية حال، فإن الطريقة الأفضل لمشكلة النفايات هى براميل التخزين الجاف. إن مفاعلا نوويا نموذجيا، يعمل لمدة 50 عاما، ينتج نفايات يمكن أن تستوعبها قاعة توربينات فارغة في المفاعل، إن تم تخزينها في براميل جافة. وعلاوة على ذلك، طريقة التخزين هذه لا ينتج عنها نفايات كثيرة ترتبط بعمليات التشغيل والتفكيك مثل تلك التي تنتجها إعادة المعالجة.

وفيما يتعلق بالاقتصاد، كتب راج وراو أن "الخبرة العملية لمفاعلات إعادة المعالجة في جميع أنحاء العالم غير كافية" للحكم بأنها أكثر تكلفة من مفاعلات الماء الخفيف ودورة وقود المرة الواحدة. وقالا لقد "نفذت فرنسا برنامج إعادة المعالجة وإعادة التدوير على نطاق تجاري بنجاح جيد". أنا أقر بأن المفاعل الفرنسي (UP3) لإعادة المعالجة للعملاء الأجانب كان نجاحا تقنيا مدهشا. لكن من الناحية التجارية، فالمسألة مختلفة تماما. ويمكنني أن أشهد على ذلك، حيث إنني شاركت شخصيا في المفاعل إلى حد ما. في أحد الأوقات، تمكنت فرنسا من توقيع عقود لإعادة المعالجة مع العملاء بشرط سعر التكلفة زائد نسبة— بحيث يتحمل العملاء جميع المخاطر، بداية من الترخيص وانتهاء بالتفكيك— لأن حكومات العملاء أجبرتهم على التوقيع. هذه العقود، التي لم تكن لتُبرم لولا ضغط من الحكومات، قد انتهت مدتها أو أوشكت على الانتهاء. وليس هناك أعداد كافية من العملاء الجدد في المستقبل القريب، ولم تظهر هيئة الكهرباء الوطنية الفرنسية تحمسا كبيرا لملء الفراغ في جدول الطلبات. وفي الوقت نفسه، كانت مفاعلات إعادة المعالجة في دول أخرى— مفاعل "ويست فالي" في الولايات المتحدة ومفاعل "سيلافيلد" في المملكة— بمثابة فشل ذريع.

أما فيما يتعلق بانتشار الأسلحة، قال راج وراو إن إعادة تدوير البلوتونيوم هو "إجراء لحظر الانتشار النووي"— لكن، كما أوضح هوي تشانج، يجب فصل البلوتونيوم قبل أن يمكن إعادة تدويره، مما يجعله معرضا لإساءة الاستخدام أكثر مما لو كان محتفظا به ضمن الوقود المستهلك. مرة أخرى، براميل التخزين الجاف هى الخيار الأفضل. إن النشاط الإشعاعي العالي للوقود المستنفد يحميه من السرقة لأكثر من 150 عاما. أليس قرنا ونصف فترة كافية لتحديد ما إذا كانت إعادة تدوير البلوتونيوم ضرورية حقا؟

أنا مقتنع بأن تخصيص مبالغ كبيرة من المال للمفاعلات المولدة السريعة على مدى الـ30 عاما القادمة—وهى فترة زمنية لا يمكن للمفاعلات السريعة وإعادة المعالجة أن تصل خلالها إلى مرحلة النضج الاقتصادي— هو إهدار للأموال بدون مبرر. توجد بدائل أفضل للاستثمار. وأنا لا أدعي أن Energiewende (تحويل الطاقة) في ألمانيا هو بديل مثالي. ففي الواقع، أنا أعتبرها مضيعة للأموال. لكن يجب أن يكون الاستثمار موجها نحو بدائل الطاقة الواعدة التي توجد بالفعل— وليس نحو المفاعلات المولدة السريعة وإعادة معالجة البلوتونيوم.


Share: [addthis tool="addthis_inline_share_toolbox_w1sw"]

RELATED POSTS

Receive Email
Updates