إمكانات ومخاطر التحقق المجتمعي

ddroundtable.png

إن الفكرة السائدة أنه بإمكان الأشخاص العاديين المساهمة في التحقق من تنفيذ معاهدات الحد من التسلح ليست بجديدة؛ فهناك مناقشات نظرية حول هذا المفهوم يعود تاريخها الى عقود مضت. ولكن مع الانتشار الواسع في السنوات الأخيرة للأجهزة الإلكترونية المحمولة ذات الإمكانيات الضخمة، أصبحت مسألة التحقق المجتمعي حقيقة وشيكة. فعلى سبيل المثال، قد يقوم بعض الأشخاص "المحفزون" بجمع بيانات ذات صلة بالمعاهدة من خلال أجهزة استشعار مثبتة على الهواتف الذكية ومن ثم نقل تلك المعلومات إلى هيئات التحقق متعددة الأطراف أو، كما هو حاصل بالفعل، مشاركة تلك المعلومات على الانترنت مع المجتمعات العالمية التي بدورها تقوم بإخضاعها الى تحليل بيانات التعهيد الجماعي. ولكن هل تلقى فكرة التحقق المجتمعي حماساً في العالمين المتقدم والنامي على حد سواء؟ وما هي الحماية القانونية التي يجب توفيرها للمشاركين؟ وهل ستثبت المعلومات التي سيتم جمعها من خلال الية التحقق المجتمعي في نهاية المطاف جديتها وجدارتها؟ فيما يلي سيحاول كلا من جمال خير ابراهيم من ماليزيا، وراجيسواري بيلاي راجاجوبالان من الهند وابراهيم سعيد ابراهيم من مصر، الإجابة على السؤال التالي: مع الانتشار المتزايد للأجهزة المحمولة في العالم النامي، كيف يمكن تمكين الأشخاص في الدول النامية من المساهمة في جهود منع الإنتشار والتحقق من تنفيذ المعاهدات المتعلقة بالأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية؟

الآن نحن معكم من خلال تويتر. تابعونا على @Bulletin_Arabic

Round 1

الممارسون المثقفون هم الأساس

يمكن تعريف التحقق المجتمعي، في مستواه الأساسي على أنه وسيلة يستخدمها الأشخاص فيما بينهم لتجميع وتبادل المعلومات والتحقق من صحتها. هذا ويمكن تطبيق تقنيات التحقق المجتمعي على بعض المجالات بما في ذلك مجالات حقوق الإنسان والمساعدات الإنسانية وتحقيق السلام ومنع الصراع وحماية البيئة. وبالنسبة لأهداف هذه المائدة المستديرة، يعتبر التحكم في انتشار الأسلحة هو الهدف الأسمى لكن قدرة التحقق المجتمعي على تحقيق إمكاناته في مجال التحكم في انتشار الأسلحة سوف تعتمد في النهاية على الأفراد الذين يمارسون هذا الأمر. ويعني ذلك أن هناك حاجة إلى عدد كافٍ من الأفراد الذين يتمتعون بالفهم اللازم لكيفية مساهمة الأجهزة المحمولة والشبكات الاجتماعية في التحكم في انتشار الأسلحة مع المحافظة على وجهة النظر الدولية التي تتطلب شعوراً بالمسئولية العالمية.

هذا وقد عملت ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في السنوات الأخيرة على جعل التحقق المجتمعي فكرة عملية على نحو متزايد فقد عملت الشبكات الاجتماعية مثل تويتر والفيس بوك وكذلك الأجهزة المحمولة مثل الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب اللوحي على تحويل التحقق المجتمعي من معاهدات التحكم في انتشار الأسلحة إلى شيء يقترب من الواقع. وتمثل الأجهزة والبرمجيات التي يستخدمها الأفراد في حياتهم اليومية وسيلة تحقق فنية جديدة وقد يحدث قريباً أن يتمكن أي شخص من إجراء عمليات تفتيش غيررسمية بنفسه.

ورغم أن التحقق المجتمعي من اتفاقيات منع انتشار الأسلحة ما زال في مراحله الأولى إلا أن الشبكات الاجتماعية والتكنولوجيات المحمولة قد أثبتت بالفعل نفعها في الكوارث الإنسانية والتحولات السياسية. ففي اليابان ، وفي أعقاب الحادث الذي وقع في محطة فيكوشيما دايتشي للطاقة النووية، قام أشخاص عاديون بوضع خرائط عن طريق تقنية التعهيد الجماعي حيث عملت هذه الخرائط على تعيين مقاييس الإشعاع. وبعد زلزال هاييتي 2010، أسهمت تقنية الحشد الجماهيري إسهاماً هاماً في الاستجابة لحالات الطوارئ. وفي بلدي، مصر، لعبت الأجهزة المحمولة والشبكات الاجتماعية دوراً معروفاً في ثورة 25 يناير، ففي أعقاب الثورة، تخضع المعلومات التي ينشرها اللاعبين السياسيين، أحياناً بقصد التضليل، إلى نوع من التحقق العام وفي بعض الأحيان يتم نشر المعلومات التي يتم التعتيم عليها من قبل وسائل الإعلام الحكومية من خلال وسائل أخرى. فعلى سبيل المثال عندما تمت سرقة المادة المشعة في بداية 2012 من محطة الضبعة للطاقة النووية المخطط لها ، أعلن مستخدموا الفيس بوك عن حدوث السرقة قبل وسائل الإعلام الحكومية ببضع ساعات.

وفي سوريا، لعبت تقنيات التحقق المجتمعي دوراً رئيسياً في ترسيخ الاعتقاد في كثير من الأوساط أن نظام الأسد قد استخدم أسلحة كيميائية ضد شعبه. ورغم وجود قدر كبير من الشك حول الأسلحة التي تم استخدامها ومن قام باستخدامها فمن الجدير بالأهمية على الأقل أن نلاحظ الدور الذي يلعبه التحقق المجتمعي في موقف يصعب فيه الحصول على معلومات موثوق بها. في منطقة مفعمة بالصراعات مثل سوريا أصبح جمع المعلومات الاستخباراتية عبر الطرق التقليدية أمراً صعباً. إن منظمة حظر الأسلحة الكيماوية لا تقوم بتشغيل محطات رصد مثل المحطات التي تقوم بتشغيلها اللجنة التحضيرية لمنظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (سي تي بي تي أو). وقد يكون إثبات استخدام الأسلحة النووية عن طريق اختبار عينات من التربة أو الماء أمراً صعباً لأن العينات تتحلل بمرور الوقت. في الواقع قد تكون الفيديوهات والتقارير التي يتم تحميلها عبر الشبكات الاجتماعية أنفسها محاولات للتضليل- لكن سوريا على الأقل تمثل حالة اختبار لإمكانية التحقق المجتمعي.

قد تشير الأمثلة المذكورة من هاييتي واليابان ومصر وسوريا إلى مستقبل يمكن فيه ان يقوم أفراد عاديون بإجراء مهام التحقق التى تعقد من أجلها المعاهدات والتي يتم أداءها الآن من قبل منظمات مثل (سي تي بي تي أو). تقوم اللجنة بأداء مهام التحقق من خلال شبكة من المحطات تكتشف النويدات المشعة وغيرها من علامات الانفجارات النووية. بيد أن إنشاء مثل هذه المحطات والحفاظ عليها ليس بالأمرالرخيص الكلفة كما قد لا ترغب بعض الدول في استضافة تلك المرافق. ولذلك، وإلى حد ما، قد يكون من الممكن السماح للأفراد العاديين ذوي الأجهزة المحمولة بتولي مهام العمل المذكورة. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يعمل كل جهاز آى فون، عند اقترانه بجهاز مثل آي راد جيجر كجهاز متطور للكشف عن الإشعاع. وقد تمثل شبكة مستخدمي الهواتف الذكية من المثقفين المزودين بتلك الأجهزة أساساً لنظام الرصد العالمي المساعد الذي يمكنه أن الإبلاغ عن قراءات الإشعاع العالمية لأغراض منع انتشار الأسلحة وللأغراض البيئية أيضاً وقد يتم التيسير لمثل هذا النظام من قبل إحدى المنظمات غير الحكومية.

من وجهة نظري، فإن العقبة الرئيسية التي تحول دون تحول هذا الأمر إلى واقع هي وجود عدد محدود من الأفراد الذين يدركون قدرتهم على تحصيل المعلومات ذات الصلة بالتحقق من المعاهدة وقد تكون المشكلة هي قلة عدد الأشخاص في العالم النامي ممن لديهم وجهة نظر دولية تتماشى مع الإسهامات في منع الانتشار النووي والحماية المادية للمواد الانتشارية وجهود وقف الإتجار الممنوع وما شابه ذلك.

لكن هناك بعض النماذج التي تتعلق بتوعية الأفراد بشأن التحقق وأهميته وتقنياته، وكمثال على ذلك، نجد برنامج جامعة أوسلو ، التي كنت تابعاً لها سابقاً، وتعود جذور هذا البرنامج لمبادرة المملكة المتحدة- النرويج بشأن التحقق من تفكيك رؤوس القذائف النووية ويسعى هذا البرنامج جاهداً لتوعية طلاب الجامعة بشأن قضايا التحقق ذات الصلة بنزع السلاح النووي، وبالإضافة إلى تقديم التدريبات على التقنيات العملية للتحقق فإن البرنامج يعرف الطلاب على الأبعاد السياسية والإنسانية لمنع الانتشار النووي ونزع الأسلحة كما يؤكد على خطر إمكانية الحصول على معلومات عن تصميم الأسلحة النووية بدون قصد من خلال إجراءات التحقق و من ثم تحويلها إلى دولة غير مالكة للأسلحة النووية، الأمر الذى قد يتعارض مع المادة الثانية من معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية وقد يؤثر هذا الخطر بشكل واضح على ممارسة التحقق المجتمعي. وفي جميع الحالات، فقد يتم تهيئة مثل هذه البرامج لتشمل مجموعة كبيرة من القضايا ذات الصلة بالتحقق المجتمعي، و من ثم يتم عرضها على الأفراد المهتمين عندما تسمح الظروف السياسية بذلك.

لكن المجال السياسي قد يعمل على تقييد جهود التحقق المجتمعي بشكل جاد في بعض الدول كما يعمل هذا المجال غالباً على تقييد الصحفيين، ففي البيئات ذات الحكومة القمعية أو التي تعاني من عدم الاستقرار السياسي، قد يتعرض الصحفيين إلى اتهامات تتعلق بانتهاك الأمن القومي، من بين أشياء أخرى، ومن المنطقي الاعتقاد بأن المشاركين في جهود التحقق قد يواجهون نفس المخاطر. ففي سوريا على سبيل المثال- التي يأتي تصنيف مجموعة “مراسلون بلا حدود” بها أدنى التصنيف العالمي لحرية الصحافة- ، تمثل هذه البيئة مشكلة كبرى لممارسي التحقق المجتمعي. وهنا في مصر وفي بعض الدول العربية التي تمر بمراحل انتقالية، لا يعتبر الوضع بنفس القدر من الحدة حيث لا يخاف الصحفيين على حياتهم – لكن النشطاء السياسيين يجب أن يشعروا بالقلق لأن أنشطتهم عبر الانترنت يتم تعقبها وقد نجد نفس المخاوف عند المشاركين في التحقق المجتمعي، دون شك.

ويمكن التغلب على العقبات السياسية إلى حد كبير لكن ذلك سوف يحدث عند تحفيز مجموعة كبرى من الأفراد المثقفين للمشاركة في جهود التحقق. قد يكون من غير المحتمل أن يحل التحقق المجتمعي تماماً محل عمل المنظمات مثل سي تي بي تي أو ولكن من المرجح جداً أن يصبح عنصراً مكملاً ذا جدوى.

الانزعاج من التحقق وكيفية التغلب عليه

في الغرب، تجتذب الأجهزة المحمولة هذه الأيام قدرا كبيرا من الاهتمام بسبب إمكانياتها للمساعدة في التحقق من الترتيبات متعددة الأطراف لمراقبة الأسلحة. ومع الانتشار الواسع للأجهزة المحمولة تقريبا في جميع دول الغرب واستمرار تزايدها في العالم النامي – من المتوقع أن تمثل آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية الأغلبية في زيادة أعداد المشتركين في خدمات الهواتف المحمولة في السنوات المقبلة — فإن الفرص تبرز لتقنيات مثل الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر اللوحية لتلعب دورا في التحقق من الامتثال لاتفاقات معنية بالأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية .

تتمركز العديد من مشاكل التحقق الرئيسية المرتبطة بترتيبات مراقبة الأسلحة في الدول النامية. وأي شيء يمكن أن يسهم في منع انتشار الأسلحة النووية في هذه الدول ينبغي ان يكون موضع ترحيب. إلا أنه ليس من الواضح ما إذا كان الأفراد في العالم النامي سوف ينظرون إلى الأجهزة المحمولة واستخداماتها الممكنة في مجال التحقق كما ينظر اليها الكثيرون في الغرب. وفي هذا الصدد تبرز ثلاثة أسباب تدعو للشك .

أولا، في الهند والعديد من الدول النامية الأخرى، قد يعرض الأفراد الذين يشاركون في جهود التحقق المجتمعي أنفسهم لمخاطر شخصية كبيرة. فقد يجدوا انفسهم في بوتقة واحدة مع الناشطين في مجال حقوق الإنسان — الذين ينظر إليهم أحيانا باعتبارهم ليسوا وطنيين بالقدر الكافي، أو أنهم يشكلون مخاطر على الأمن القومي. وحتى لو أنهم لم ينتهكوا أي قوانين، قد يصبحوا أهدافا للغضب البيروقراطي والسياسي. في الهند، وقد واجهت تقنية مثل خرائط جوجل معارضة كبيرة لأنها تظهر مواقع حساسة كما واجه برنامج “جوجل إيرث” معارضة رسمية في العديد من الدول. بأخذ كل هذا في الاعتبار، فإن تشجيع مواطني بعض الدول على المشاركة في التحقق المجتمعي قد يعتبر ببساطة عملاً غير مسئول .

ثانيا، فكرة أنه يمكن للأشخاص العاديين المساهمة في التحقق من المعاهدات، سواء عن طريق تنفيذ مشاريع التعهيد الجماعي أو من خلال جمع المعلومات بالأجهزة المحمولة، تستند إلى افتراض أن الأشخاص العاديين ستتولد لديهم رغبة في أن يصبحوا شركاء نشطين في ترتيبات مراقبة الأسلحة. حتى إن نحينا جانبا التداعيات السلبية بأن المشاركين في التحقق المجتمعي قد يعانون، فهذا الافتراض يبدو مشكوكا فيه في العالم النامي. مواطنو الدول النامية ببساطة لا ينظرون إلى الحد من الأسلحة بنفس الطريقة التي ينظر بها مؤيدو الحد من الأسلحة في الغرب .

يميل كثير من الأشخاص في الدول النامية إلى أن يكونوا قوميين للغاية، وغالبا ما تكون قوميتهم مرتبطة بمقدار معين من العداء للغرب — وليس ذلك بمستغرب، باعتبار أن العديد من الدول النامية هي مستعمرات سابقة للدول الغربية أو هيمن عليها الغرب. في كثير من الأحيان يعتبرالحد من التسلح على وجه الخصوص أداة للهيمنة الغربية، لذلك يمكن أن تتواجد معارضة كبيرة لتدابير الحد من الأسلحة على المستوى الشعبي. ومما يزيد من انعدام الثقة الشعبية في جهود الحد من التسلح هو الشعور بعدم مصداقية الغرب — غالبا يُتهم الغرب بتناول مراقبة الأسلحة وفقا لهواه، أي أنه أمر يجب التخلص منه عندما يتعارض مع مصالح أخرى أكثر إلحاحا. قد تكون هذه الآراء مؤسفة، وربما غير صحيحة، لكنها راسخة. وبالتالي، فإنه قد لا يكون من الصواب افتراض أن يقوم الأفراد العاديين في الدول النامية باختيار المشاركة في جهود التحقق المجتمعي .

ثالثا، يمكن أن تثير جهود التحقق المختلفة الانزعاج في الدول النامية. مثال على ذلك، أنه على الرغم من أن العديد من الدول النامية قد تفاوضت بشأن البروتوكولات الإضافية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لا يزال التعاطف موجودا بالنسبة لبلد مثل إيران، التي وقعت ولكن لم تصدق على البروتوكول الإضافي. يرى الكثيرمن الأفراد في الدول النامية أن البروتوكول الإضافي يسمح للمفتشين الأجانب بالدخول إلى الأراضي الوطنية متى أرادوا وتفتيش أي مكان متى شاءوا. وهذا يذكرنا بالحقبة الاستعمارية، عندما فقدت الدول النامية السيطرة على أراضيها. وعلى الرغم من أن بعض تدابير التحقق، مثل تلك المدرجة في اتفاقية الأسلحة الكيميائية اكتسبت قبولا واسعا، فإنه نادرا ما يرافق هذا القبول أي شعور حقيقي بالارتياح .

مثال آخر على انزعاج الدول النامية من إجراءات التحقق يكمن في تدابير بناء الثقة التي وضعتها دول مثل الهند والصين وباكستان لتخفيف حدة التوترات الثنائية. هذه التدابير تعتمد على نموذج أنشئ خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. ولكن رغم أن قوى الحرب الباردة العظمى ارتأت ان التحقق من مراقبة الأسلحة كعنصر هام من تدابير بناء الثقة، فإن دولا مثل الهند والصين وباكستان لم تفكر حتى في القيام بذلك .

وبالنظر إلى هذه الحساسيات، فإن السعي لإشراك المواطنين العاديين في ترتيبات التحقق قد تزيد فقط من الانزعاج الذي تشعر به الدول النامية حيال تدابير الحد من الأسلحة متعددة الأطراف. في الواقع، من المرجح أن تنظر النخب البيروقراطية والسياسية في الدول النامية الى أي محاولة لإشراك المواطنين في رصد سلوك الدول بالنيابة عن وكالة تتجاوز الحدود الإقليمية على أنها غير شرعية. وبالمثل قد ينظر إلى أي مبادرة للحد من الأسلحة التي تتضمن ترتيبات للتحقق المجتمعي على أنها غير شرعية .

هل يعني كل هذا أن التحقق المجتمعي محكوم عليه بالفشل في العالم النامي؟ ليس بالضرورة. لكن نجاح التحقق المجتمعي ربما يعتمد على أن يصبح الحد من الأسلحة ذاته أكثر قبولا من الناحية السياسية. تنبع معارضة تدابير الحد من التسلح في العالم النامي جزئيا من عدم مشاركة الدول النامية بشكل كامل في تطوير المعاهدات والأنظمة. لذلك فإن جعل عمليات الحد من التسلح أكثر شفافية، وإشراك أكبر عدد ممكن من الدول النامية في تلك العمليات، خاصة في مراحل صياغة اتفاقات الحد من التسلح، سوف يقدم للعالم النامي شعورا مجديا بملكية تلك المبادرات. كما أن جعل العملية أكثر شمولاً من شأنه أيضا تشجيع الامتثال للمعاهدات وتؤدي، في نهاية المطاف، الى زيادة فعالية أنظمة الرقابة على الأسلحة. من وجهة نظري، يمكن للتحقق المجتمعي المساهمة في جهود منع الانتشار النووي والامتثال للمعاهدات، لكن فقط بعدما يصبح الحد من التسلح نفسه أكثر قبولا .

مطلوب: التحفيز والدعم

يتيح الانتشار المتزايد للأجهزة المحمولة فرصا جديدة للأشخاص العاديين للمشاركة في التحقق من تنفيذ المعاهدات. فقد قيل، على سبيل المثال، أنه يمكن استخدام مقاييس التسارع في الهواتف الذكية لكشف الأحداث الزلزالية غير العادية التي قد تدل على إجراء تجارب نووية أو أنه يمكن لأنواع مختلفة من بيانات التعهيد الجماعي أن تُعيِّن محاولات تقويض معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية أو معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية. ومع استمرار انتشار الأجهزة المحمولة وكونها متاحة بصورة ميسورة، لا سيما في العالم النامي، فمن المتوقع أن تزداد فرص التحقق المجتمعي.

لكن الأجهزة المحمولة هي مجرد أجهزة تقوم بتشغيل البرامج – وتلك النوعية من الأدوات يطلق عليها أحيانا “داعما ملموسا”. ولكي ينجح التحقق المجتمعي، فستكون هناك حاجة ضرورية أيضا للدواعم غير الملموسة. قد يشمل ذلك إدراكا عاما على نطاق أوسع لأهمية جهود عدم الانتشار ونزع السلاح؛ والوعي بإمكانية الأجهزة المحمولة في المساهمة في هذه الجهود (هذا يعني، تفهم لما قد يمكن للأفراد أن يكتشفوه ويبلغوا عنه بمساعدة الأجهزة المحمولة)؛ وأخيرا الرغبة في المشاركة في مبادرات التحقق المجتمعي. تستطيع الحكومات تأسيس هذه العوامل المساعدة داخل المجتمع من خلال الجهود التثقيفية، لكن بالنسبة للأفراد في العديد من الدول النامية، ولا سيما الدول التي لا تمتلك أسلحة الدمار الشامل، قد تبدو قضايا عدم الانتشار ونزع السلاح أموراً ذات أولوية منخفضة. مقارنة مع القضايا ذات الاهتمام العاجل والمحلي، قد تواجه جهود التحقق من المعاهدات صعوبات من أجل خلق حماس عام، على الرغم من الجهود التثقيفية القوية.

ومما يزيد الأمور تعقيدا هو حقيقة أنه برغم أن بعض شرائح المجتمع المدني في الدول النامية تتشبث بتوجه عالمي ولديها تفهم جيد لنظام نزع السلاح وعدم الانتشار، إلا أن وجهات نظرهم قد تتميز بشئ من التشكك. قد تشعر الدول النامية أن هذا النظام يقصد به في المقام الأول الابقاء على الوضع الراهن، الذي بموجبه تمتلك بعض الدول أسلحة الدمار الشامل بينما البعض الآخر لايمتلك شيئا. ويزداد هذا الشعور من خلال الارتباط المضطرب الذي يوجد بين العالم المتقدم والدول التي تمتلك أسلحة نووية، من جهة، وبين العالم النامي والدول التي تفتقر إلى مثل هذه الأسلحة من جهة أخرى. أيضا، الدول الحائزة للأسلحة النووية غالبا ما تكون هي المؤيدة الأعلى صوتا للتدابير القوية لعدم الانتشار، لكنها عموما لا تبرهن على وجود التزام يتوافق مع نزع السلاح الشامل. لذلك قد تكون حجج عدم الانتشار أساساً خاطئا لبناء الحماس تجاه التحقق المجتمعي في الدول النامية.

حوافز متحيزة. قد تكمن إمكانية أكبر للنجاح في سياقات أكثر مركزية. على سبيل المثال، بعض الدول النامية الأكثر تقدما هي موطن لشركات تعمل في مجال الهندسة الدقيقة – تلك الأعمال في بعض الحالات تنطوي على مخاطر انتشار كامنة بسبب قدرتها على إنتاج أدوات يمكن تسخيرها لاستخدامات ضارة. في عام 2004، على سبيل المثال، تم التحقيق مع شركة ماليزية للهندسة الدقيقة لدورها المزعوم في إنتاج مكونات لتخصيب اليورانيوم للبرنامج الليبي كانت إحدى نتائج ذلك أن أصدرت ماليزيا في عام 2010 قانونا صارما لمراقبة الصادرات، والذي تضمن عقوبات قاسية قد تثير مخاوف المهنيين العاملين في صناعات مثل الهندسة الدقيقة. هؤلاء المهنيين، حتى وإن كانوا غير مهتمين بالتحقق المجتمعي كوسيلة للمساهمة في عدم الانتشار في حد ذاته، قد يجدوا أن مصالحهم الشخصية والمهنية تتماشى مع مصالح النظام الدولي لعدم الانتشار.

لكن إذا كان المهنيون المتخصصون في مجالات مثل الهندسة الدقيقة متحفزون بالفعل للمشاركة في التحقق المجتمعي، فيسكون هناك حاجة الى إنشاء “نظام بيئي” ملائم من أجل أن تحظى جهودهم بأفضل فرص النجاح. في رأيي، أفضل طريقة لتأسيس مثل هذا النظام البيئي – الذي قد يتكون من الدعم من خلال الإنترنت والتوعية الرسمية وتيسير التواصل مع الخبراء في المجالات ذات الصلة – قد تكون بواسطة نهج يتجه من الاسفل إلى الأعلى بدلا من الأعلى إلى الأسفل. اقترح الفيزيائي جوزيف روتبلات أن “الحق والواجب المدني للمواطن للمشاركة في الإبلاغ عن قضايا التحقق “يجب أن يصبح جزءا من … مجموعة القوانين الوطنية “. لكنني أعتقد أن النظام البيئي للتحقق المجتمعي المستند فقط على القوانين واللوائح — لا سيما إذا كانت متماشية على نحو وثيق مع الأدوات الشرعية الدولية مثل البروتوكول الإضافي أو قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1540 — سيواجه صعوبة في التغلب على التشكك من مبادرات حظر الانتشار النووي والذي في الغالب ما يكون سائداً بين دول العالم النامي. مثل هذا الأساس القانوني، بحد ذاته، قد لا يكون فعالا.

لذلك، ما الذي يمكن أن تفعله السلطات الوطنية لتشجيع التحقق المجتمعي؟ يمكنها أن تدعم إنشاء أدوات لوسائل إعلام اجتماعية من شأنها أن تسمح للمهنيين بمناقشة قضايا التنفيذ العملي في التحقق المجتمعي. ويمكنها المساهمة في هذه المناقشات من خلال أنشطة تواصل متناسقة، والتي من شأنها أن تشمل سرعة الرد على الأسئلة والمخاوف التي يثيرها المشاركون. ويمكنها كذلك السعي لتسهيل الاتصال والتعاون بين المهنيين الذين قد يساهمون في التحقق المجتمعي وبين المنظمات غير الحكومية، بما في ذلك مراكز الدراسات الفكرية النشطة في مجال نزع السلاح وعدم الانتشار .

ومع ذلك، فإن أي نظام بيئي للتحقق المجتمعي سوف يعمل على الوجه الأفضل إذا كان مدعوما بخريطة طريق ذات مصداقية نحو نزع السلاح العام وبتحقيق مزيد من التقدم نحو هذا الهدف. إن التقدم نحو نزع السلاح العام سوف يغرس ثقة أكبر في العالم النامي في نظام نزع السلاح وعدم الانتشار، وهذا سيؤدي بدوره إلى تحفيز الأفراد ليصبحوا أكثر نشاطا في جهود التحقق المجتمعي.

Round 2

أحلام خيالية واستخدامات عملية

ناقشت راجيسواري بيلاي راجاجوبالان في مقالها الأول في اجتماع المائدة المستديرة عددا من القضايا التي قد تثبط التحقق المجتمعي لمعاهدات الحد من التسلح في الدول النامية: التشكك في أنظمة التحقق الحالية والقيود السياسية وعدم رغبة الأفراد العاديين في المشاركة. والقضية الأخيرة هذه على وجه الخصوص مرتبطة باعتقاد، شائع في العالم النامي، أن العدالة والمساواة لا وجود لهما في النظام العالمي لمنع الانتشار.

أوضحت في مقالي الأول أن نجاح التحقق المجتمعي يعتمد على إنشاء كادر كبير على نحو كاف من الممارسين المثقفين. أعترف أنه في منطقتي، الشرق الأوسط، قد يكون من الصعب جدا إقناع الأفراد من ذوي التحصيل التعليمي العادي بأنه يتعين عليهم المشاركة. في الشرق الأوسط، يضمر كثير من الأفراد مشاعر مخيبة للآمال تجاه نظام حظر الانتشار النووي، لا سيما تجاه الاحتكار النووي الاسرائيلي. فمن الصعب التحدث عن الشفافية والثقة إلى أناس يشعرون بأن نظام حظر الانتشار النووي بأكمله غير عادل.

لكن مثل هذه الظروف ليست منتشرة في كل مناطق العالم. في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، حيث توجد بالفعل إجراءات التحقق في سياق المناطق الخالية من الأسلحة النووية، يُتوقع أن يستقبل الأفراد التحقق المجتمعي بمزيد من الحماس. علاوة على ذلك، سيتم تطبيق تقنيات التحقق على استخدامات مختلفة في مجتمعات مختلفة. في الدول المتقدمة، على سبيل المثال، قد يكون التحقق المجتمعي أكثر فائدة عندما يتعلق الأمر بقضايا مثل الجريمة وحقوق الإنسان والاتفاقات البيئية. في بعض الدول الأفريقية والآسيوية، قد يكون التركيز على الأسلحة الصغيرة والألغام الأرضية؛ لأن أسلحة الدمار الشامل ستشكل اهتماما محدودا.

لكن بالعودة إلى الشرق الأوسط، سوف يستلزم الأمر جهدا خارقا لإقناع كثير من الأفراد بالمساهمة في أنظمة التحقق التي يشعرون أنها أساسا غير عادلة. لكن هل ينطبق ذلك على الذين تلقوا تعليما جيدا والذين تلقوا تعليما أقل جودة على حد سواء؟ وهل يمكن أن تأتي الجهود الرامية إلى تعزيز التحقق المجتمعي بنتائج عكسية، وتكون سببا في أن يقوم بعض الأفراد فعلا بإخفاء معلومات تتعلق بمعاهدات الحد من التسلح؟ من الصعب الإجابة على هذه الأسئلة؛ لكن الواضح هو أن التحقق المجتمعي لن ينجح فعلا في الشرق الأوسط حتى تتسم المنطقة بالتنمية المستدامة والحكم الرشيد والعدالة الاجتماعية والترتيبات السياسية التي تضمن الأمن على المدى الطويل.

ناقش جمال خير إبراهيم، في مقاله الثاني، الطرق الدبلوماسية للتحقق المجتمعي وجادل بأن المسار الدبلوماسي 3 — التفاعلات الشخصية بين الأفراد وجماعات المجتمع المدني العاملة على مستوى القاعدة الشعبية — هو أكثر الطرق الدبلوماسية ملاءمة لتعزيز التحقق من قبل المواطنين. أُقر بأن الطرق غير المباشرة ستكون هي الوسيلة الأفضل لتسهيل مناقشة هذه القضايا. في الواقع، المسار الدبلوماسي 3 والمسار 2 الذي يعد نوعا ما أكثر رسمية كانا هما الطريقتين الدبلوماسيتين الرئيسيتين على مدى السنوات القليلة الماضية في المناقشات الرامية لإنشاء منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط. ومع ذلك، تكمن المشكلة في تحويل التقدم الذي يتم في المسارات الدبلوماسية الأقل رسمية إلى إنجازات ملموسة على المستوى الوطني (المسار1). إنها لحقيقة مؤسفة أن المسارين 3 و2 يؤديان في النهاية الى المسار1. ومع ذلك، فإن ابراهيم محق بأن الدبلوماسية غير الرسمية يمكن أن تسهم في تأسيس مناخ صحي للحوار والنقاش حول التحقق المجتمعي.

إن إبراهيم، في رأيي، لديه أيضا حجة قوية بأن بعض المصالح التجارية قد تجد حوافز لتقبل التحقق المجتمعي. وأنا أقول إن الشركات في عدد من الصناعات التي يمكن أن يساء استخدام منتجاتها – الطاقة النووية والمواد الكيميائية والأسمدة والتقنيات الحيوية – ينبغي أن تفكر في إدراج التحقق المجتمعي في استراتيجياتها المتعلقة بالمسؤولية. صناعة المواد الكيميائية ساهمت بقوة في اتفاقية الأسلحة الكيميائية ، كما لعبت هذه الصناعة دورا هاما في صياغة إجراءات التحقق للاتفاقية . سوف يكون التعهد بدعم مبادرات التحقق المجتمعي هو الخطوة المنطقية التالية.

ربما يكون صحيحا أن التحقق المجتمعي يمكن أن يصل إلى أقصى إمكاناته فقط في ظل ظروف مثالية — في عالم ينفذ فيه المواطنون الدوليون التزاماتهم المشتركة بحماس تحت حماية هياكل السلطة الخيرة. مثل هذا العالم لن يظهر في المدى القريب. لكن ذلك لا يمنع التحقق المجتمعي من تقديم اسهامات قوية لجهود الحد من التسلح في الوقت الراهن.

حوافز وقيود

احتج جمال خير إبراهيم في مقاله الثاني في اجتماع المائدة المستديرة بأن المهنيين العاملين في صناعات مرتبطة بسلسلة الامداد النووي قد يتقبلون تقنيات التحقق المجتمعي رغبة منهم في "حماية سمعتهم المهنية ولتجنب عقوبات جنائية أو مدنية مرتبطة بمخالفات في هذا الصدد". لكن ذلك قد يكشف جانبا واحدا فقط من القصة. في بلدي، الهند، غالبا ما يكون الأمن متراخيا في الشركات التي تنطوي أعمالها على مواد حساسة. في بعض الحالات لا تمتثل هذه الشركات حتى للقانون، ناهيك عن إبدائها اهتماما إزاء سمعتها المهنية.

شاركت مؤخرا في تأليف دراسة عن المخاطر الأمنية المرتبطة بمواد كيميائية وبيولوجية وإشعاعية. أظهرت الدراسة، التي اشتملت على زيارات ميدانية للعديد من المجمعات الصناعية الرئيسية في الهند، اختلافات كبيرة في امتثال الشركات للقانون وتطبيقها للمعايير الأمنية. الشركات التي تعتبر نفسها جزءا من عالم تسوده العولمة والتي تمتد مصالحها التجارية على المستوى الدولي – على سبيل المثال، شركات الأدوية والبتروكيماويات العملاقة – تتجه إلى أن يكون أداؤها جيدا. لكن في الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي تكون معظم أعمالها مرتبطة بالنطاق المحلي، فإنه من المرجح أن يتفوق حافز الربح قصير الأجل على السلامة والمخاوف الأمنية. لذا، من الصعب أن نتصور أن مثل هذه الشركات، التي غالبا ما تفشل في الامتثال للقوانين القائمة وأفضل الممارسات، سوف تظهر اهتماما كبيرا للمشاركة في مبادرات التحقق المجتمعي. وإذا كان هذا هو الحال في الهند، فمن المرجح أن يكون كذلك في معظم أنحاء العالم النامي.

ذكر إبراهيم أيضا أن الدول قد تدعم جهود التحقق المجتمعي رغبة منها في"اكتساب الثقة كشركاء اقتصاديين". هذا يبدو لي أكثر فاعلية، إضافة إلى أنه يثير مسألة أكبر حول الطريقة المثلى لتحفيز الامتثال لترتيبات التحقق والتي تشمل، لكن لا تقتصر على، التحقق المجتمعي. قد تشتمل الحوافز على إمكانية كسب الثقة الاقتصادية، كما اقترح إبراهيم، واكتساب اندماج أكبر في البنيات السياسية والأمنية العالمية. في الواقع، قد يكون الحافز الأفضل هو خلق نظام سياسي عالمي أكثر ديناميكية يتيح لعدد أكبر من الدول فرصة حقيقية للعب دورا هاما في هذا الصدد.

النقطة الرئيسة في المقال الأول لإبراهيم سعيد إبراهيم في اجتماع المائدة المستديرة هي أن الممارسين المثقفين هم مفتاح نجاح التحقق المجتمعي، وأنا أتفق معه كثيرا في ذلك. لكن لا أعتقد أن العديد من الممارسين المثقفين سوف يظهرون قريبا في العالم النامي. وفقا لما اقترحه ابراهيم، لا يوجد سوى عدد محدود من الأشخاص في الدول النامية الذين يتفهمون ويقدرون بأنفسهم ترتيبات مراقبة الأسلحة. علاوة على ذلك، كما ذكرت في مقالي الأول وكما أقر إبراهيم بذلك، فإن المواطنين الذين يشاركون في جهود التحقق المجتمعي قد يعرضون أنفسهم لمخاطر شخصية لأن النخب البيروقراطية والسياسية قد تعتبر هذه الأنشطة غير شرعية. لن تتقبل الدول – لا سيما تلك التي تكون فيها السيادة والأمن ومراقبة الدولة للتقنيات الحساسة مترابطة ببعضها بشكل وثيق جدا، كالصين والهند على سبيل المثال – التحقق المجتمعي حتى ترى فائدة كبيرة من جراء القيام بذلك. وإلى أن يعتقد القادة أن التحقق المجتمعي يخدم المصلحة الوطنية، فلن يكون بإمكان الأشخاص العاديين أن يصبحوا ممارسين مثقفين.

اختيار المسار الصحيح

أوضحت في مقالي الأول في اجتماع المائدة المستديرة أن أي مسعى للتحقق المجتمعي ينظر إليه على أنه منحاز بشكل وثيق لجانب الحكومة سيحظى بفرص نجاح محدودة في العالم النامي. في رأيي، هذا أيضا ينطبق على الدبلوماسية. قد تحظى أي مبادرة دبلوماسية لتعزيز التحقق المجتمعي بأفضل فرص للنجاح إنْ لم تتضمن دبلوماسية رسمية على الإطلاق.

تتسم الدبلوماسية غالبا بسيرها في ثلاثة مسارات . المسار 1 يتألف من التفاعلات المتبادلة بين ممثلي الحكومات الوطنية رفيعي المستوى؛ ويتسم بالمفاوضات الرسمية ومواقف وطنية جامدة نوعا ما. المسار 2 يتشكل من محللين سياسين وأكاديميين (وأحيانا مسؤولين حكوميين مشاركين بصفتهم الشخصية) يقومون بإجراء حوارات غير رسمية ومناقشات نظرية وأنشطة لحل المشكلات. المسار 3 يتكون من التفاعلات الشخصية بين الأفراد وجماعات المجتمع المدني العاملة على مستوى القاعدة الشعبية.

إن السمة غير الرسمية للمسار الدبلوماسي 3 تحمل أوجه شبه واضحة بالتحقق المجتمعي نفسه – هذه السمة غير الرسمية قد تساعد في التغلب على العقبات السياسية أمام التحقق المجتمعي التي ناقشها زميلاي راجيسواري بيلاي راجاجوبالان وإبراهيم سعيد إبراهيم.

هذه الاحتمالية تستند إلى حافزين اثنين. أولهما، أنه بالرغم من أن المواقف الرسمية للدول بشأن الحد من الأسلحة قد تكون جامدة تماما (مما يساعد أيضا في وجود معوقات سياسية التي من المرجح أن يواجهها التحقق المجتمعي في كثير من الأماكن)، فإن معظم الدول لديها حوافز للامتثال للمعايير الدولية ولاكتساب الثقة كشركاء اقتصاديين – خاصة إذا كانت ترغب في تطوير قطاعات الطاقة النووية أو المشاركة في التجارة النووية.

وثانيهما، أن الأفراد العاملين في صناعات مرتبطة بسلسلة الامداد النووي لديهم من الحوافز ما يجعلهم يتجنبون نشاطات متعلقة بالانتشار. أوضحت في مقالى الأول أن المتخصصين في صناعة الهندسة الدقيقة قد يجدوا أن مصالحهم الشخصية تشجعهم على المشاركة في عملية التحقق المجتمعي – غير أن هذه الفكرة يمكن توسيعها لتشمل المهنيين في أي حلقة من سلسلة الامداد النووي. قد تتقبل الشركات والأفراد تقنيات التحقق المجتمعي لحماية سمعتهم المهنية ولتجنب عقوبات جنائية أو مدنية مرتبطة بمخالفات في هذا الصدد.

بمجرد أن يكتسب التحقق المجتمعي الدعم من مجتمع الأعمال التجارية، يمكن أن يصل الدعم الحكومي إلى مستويات عالية. قد يستشعر الموظفون العموميون، في إطار التجارة والتنمية الاقتصادية، مميزات السماح للتحقق المجتمعي أن يتطور بحرية. وقد تفوق الاعتبارات الاقتصادية النزعات القومية التي تظهر غالبا متى أُثيرت قضايا الأمن القومي. في حقيقة الأمر، العولمة هي التي ستفسح المجال للتحقق المجتمعي.

لكن كيف سيبدو الشكل الفعلي للمسار الدبلوماسي 3 في سياق التحقق المجتمعي؟ ها هو مثال على ذلك: المهنيون العاملون في صناعات متعلقة بالتجارة النووية قد يقوموا بإنشاء مبادرات لنشر أفكار وممارسات التحقق المجتمعي لزملائهم في دول أخرى. كما يمكن للمنظمات غير الحكومية التي تركز على الحد من التسلح أن تقدم الدعم. ويمكن للحكومات أن تتخذ دورا غير مباشر، لأن هذا من شأنه أن يجلب فقط معارضة رسمية التي كثيرا ما يواجهها المسار الدبلوماسي 1. قد تستلزم هذه الطريقة تقييدا للحكومات الغربية – لكنها ستحظى بفرص للنجاح أكبر بكثير من فرص الطرق المباشرة.

Round 3

ما الذى يجعل من السياسة أمراً أساسياً

طرح السيد جمال خيرابراهيم وجهة نظره والتى قام بشرحها على نحو وافٍ في هذه المائدة المستديرة و كان مفادها أن التحقق المجتمعي سيكون لديه فرصة كبري للازدهار في العالم النامي حالما كان التركيز الرئيسي لمبادرات التحقق علي التجارة بدلا من السياسة. وهو في ذلك قد يكون محقاً — طالما كان الحد من التسلح هو نقطة التركيز الوحيدة في المناقشة.

ولكن كما قلت في الحلقة الأولى من هذا النقاش، أنه ربما تثبت تقنيات التحقق المجتمعي فائدتها في بعض المجالات، بدء بحقوق الإنسان والمساعدات الإنسانية وانتهاء ببناء السلام ومنع الصراعات وحماية البيئة. ففي مجالات مثل هذه، تلعب أحياناً المشاريع الهادفة للربح أدواراً محدودة فقط في المقام الأول. فعندما يطلب الناس الحصول علي المساعدات الإنسانية، على سبيل المثال، غالبا ما يكون ذلك نتيجة لفشل القوى الاقتصادية في توفير ضروريات الحياة الأساسية لهم. فهل يعقل في مثل هذه الحالات توقع أن تقوم الأعمال بتخصيص موارد لتقنيات التحقق المجتمعي التي قد تضمن التوزيع العادل للمساعدات؟ وعندما يتعلق الأمر بمسألة سياسية كحقوق الإنسان، فإنه من الصعب أن نتخيل وجود مبادرة ناجحة للتحقق المجتمعي حاولت التأكيد على التجارة واستبعاد السياسة.

ولكن حتى فيما يتعلق بالتحقق المجتمعي لاتفاقيات الحد من الأسلحة، فلا ينبغي المبالغة في تقدير أهمية النهج الموضوعة وفق أسس تجارية، كما لا ينبغي أيضاً التقليل من قيمة النهج السياسية. فعندما تم الكشف عن مرافق نووية غير معلنة في ايران في اراك وناتانز في عام 2002 ، كان ذلك بسبب مجموعة معارضة تتخذ من باريس مقرا لها أطلقت علي نفسها اسم المجلس الوطني لمقاومة إيران. وهنا قد نتصورأن رجل أعمال يعمل في سلاسل الإمداد ذات الصلة بالشؤون النووية قد قدم تلك المعلومات حول اراك وناتانز — ولكن ليس هذا هو ما حدث.

نستخلص من المثل الذى قدمناه وهو حالة إيران أنه ينبغى على الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن تضمن المعلومات المستمدة من التحقق المجتمعي في مداولاتها ومشاوراتها حال تقييمها لمدى امتثال الدول بالتزاماتها تجاه الضمانات الخاصة بها. ولتسهيل ذلك، أقترح أن تقوم الوكالة بوضع أساليب يستطيع من خلالها المتخصصين في هذا القطاع والمواطنين على حد سواء بأمان ودون الافصاح عن هويتهم الإبلاغ عما لديهم من معلومات متعلقة بالامتثال للضمانات. ويمكن للأمم المتحدة أن تعتمد نظام مماثل لجمع المعلومات حول قضايا مختلفة بداية من الحد من التسلح ومروراً بحقوق الإنسان وحتى حماية البيئة. وهذا لن يساعد فقط في التحقق من المعاهدات والامتثال للقواعد ولكنه سيساعد أيضا في تشجيع الدول على إظهار مزيد من الشفافية عند التعامل مع المنظمات متعددة الأطراف.

وقد عملت هذه المائدة المستديرة علي استكشاف عددا من المسائل الرئيسية بشأن دور التحقق المجتمعي في العالم النامي، ولكن يبقى هناك العديد من القنوات التى مازالت بحاجة للتحقيق فيها. فعلى سبيل المثال: ماذا لو شملت جميع الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بنودا توضح الكيفية التى سيسهم بها التحقق المجتمعي في تنفيذ الاتفاقات ‘(كما هو الحال، إلى حد ما، في معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية) ? ماذا لو شاركت منظمات مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية في إجراءات الحماية التي ينبغي للسلطات الوطنية توفيرها للمواطنين الذين يبلغون عن حالات عدم الامتثال للمعاهدات؟ ماذا لو أشرفت الأمم المتحدة علي التفاوض بشأن معاهدة للتحقق المجتمعي وحماية المواطنين المشاركين فيه؟ إلا أن الأمر المؤكد هو أن: التحقق المجتمعي لن يزدهر حقا إلا إذا شعر المواطنون العاديون في العالم النامي، أولئك الذين يمكنهم الاسهام أكثر من غيرهم في التحقق من معاهدات الحد من التسلح بأنه يتم التعامل مع دولهم بالعدل وبموجب نظام حظر الانتشار النووي.

ليس بهذه السرعة

أتفق مع رأي جمال خير ابراهيم من أن النهج غير الرسمي والنهج المباشر من شخص لاخر في سياق دبلوماسية المسار 3، قد يكون من أهم الأساليب الواعدة التي تساعد على ايجاد قبول شعبي إزاء التحقق المجتمعي في دول العالم النامي. ولكن في الوقت نفسه، أتفق أيضاً مع تأكيد ابراهيم سعيدإبراهيم  بأن التحقق المجتمعي لايمكن ان يزدهر على النحو الأمثل في الأماكن التي لم تصلها بعد التنمية المستدامة والحوكمة الرشيدة وماشابه ذلك. ويتحدث جمال خير عن دعم التحقق المجتمعي الذي يجد له أرضاً خصبة في مجتمع الأعمال ويزداد فيما بعد ليأتي من مستويات رسمية رفيعة المستوى —  لكن ذلك لن يحدث إلا في الدول التى تتمتع مبدئياً بقدر مناسب من الانفتاح . وفي اي مكان اخر، لابد ان يجد التحقق المجتمعي قبولاً في البيروقراطيات والطبقة السياسية قبل ان ينفذ في النهاية الى القاعدة الشعبية.

ولكن حتى في الدول التي تتسم حكوماتها بالانفتاح، تشكل البيئات الأمنية الإقليمية الخطرة في كثير من الأحيان عقبات أمام التحقق المجتمعي. فالأحياء الهندية ،على سبيل المثال ، ليست بيئة آمنة، ولا ينظر إليها باعتبارها ملائمة لمسألة التحقق المجتمعي في الأوساط الرسمية أو لدى العامة. وفي بيئة يغلب عليها الطابع القومى كما هو الحال في جنوب آسيا، تتزايد المخاوف الأمنية وفي بعض الاحيان يبالغ في خطورة التهديدات. لذلك يركز النقاش العام في الهند حول قضايا الأمن على مسائل مثل التحديث العسكري، والقدرات الهجومية، ومضاعفات القوة، وايجاد استراتيجيات تسمح باستجابات قوية لواقع الأمن الإقليمي. وهكذا فإن قضية التحقق المجتمعي لا تتشابه في مضمونها مع أي من هذه الموضوعات، كما أنها من غير المرجح أن تصبح محوراً  للنقاش العام في الفترة القريبة المقبلة.

قد تشكل التهديدات الخارجية عقبات رئيسة أمام التحقق المجتمعي؛ وفي بلد مثل الهند، قد تمثل الضغوط الداخلية حجرعثرة أمام التحقق المجتمعي أيضاً. فالهند تواجه تهديدات أمنية داخلية من الأصوليين الدينيين والانفصالين والحركة الماوية الريفية التي تسعى الى إسقاط الدولة. وعندما تواجه الدولة تهديدات كهذه داخل حدودها، فإن مسألة التحقق المجتمعي ستكون اخر شيء ترد الى خاطر صانعي القرار. بل أنه في الواقع ربما اعتبر قادة الدولة مسألة التحقق المجتمعي تهديداً للدولة في المقام الأول :  فنفس تلك التقنيات التي قد تعززجهود التحقق يمكن استخدامها كوسيلة للإضرار إذا تلقفتها ايد الارهابيين والعناصر المتشددة الأخرى .

وبينما تقترب هذه المائدة المستديرة من نهايتها، ما زلت أرى أن نجاح التحقق المجتمعي يعتمد في المقام الأول على القبول المتنامي لمسألة الحد من التسلح في الدول النامية. والخطوة الأولى الحقيقة لتحقيق ذلك تكون من خلال اضفاء الشفافية والشمولية على عمليات الحد من التسلح. وقد تأتي مسألة التحقق المجتمعي تباعاً في مرحلة لاحقة — وذلك بمجرد ان تلقى فكرة الحد من التسلح المزيد من القبول، وتحقق الدول النامية قدر أكبر من الحرية، وتعمل علي انشاء بيئات أمنية أقل خطورة، و بمجرد أن تشعر الدول نفسها بالاستعداد لتنفيذ وتشجيع تدابيرالتحقق المجتمعي. وتلك قائمة طويلة للشروط. لذا فعلى الرغم من أنني أعتقد أن التحقق المجتمعي قد يقدم اسهاماً قيماً في يوم من الايام للتحقق من تنفيذ المعاهدات، إلا أنني لا أعتقد أن استخدامه على نطاق واسع سيكون وشيك في معظم دول العالم النامي .

إيجاد القبول وسد الفجوات

أولى الزميلان راجيسواري بيلاي راجاجوبالان وإبراهيم سعيد إبراهيم اهتماماً كبيراً بالقضايا التي قد تحول دون نجاح التحقق المجتمعي – على سبيل المثال، الشك الجماهيري في الشرق الأوسط بشأن اتفاقيات الحد من التسلح، أو الرقابة الصارمة التي تمارسها دولة مثل الهند على التقنيات الحساسة. وهذه العقبات حقيقية بالفعل. لكنني أزعم أنها تزيد التأكيد على النقطة الرئيسة التي طرحتها في مقالاتي الأولية بهذه المائدة المستديرة حتى الآن: وهو أن فرص نجاح مبادرات التحقق المجتمعي ستزداد إذا جاءت منسجمة مع حوافز سلسلة للإمداد والتجارة وتم فصلها قدر المستطاع عن قضايا الحد من التسلح والسياسة بوجه عام.

كتبت في مقالتي الثانية أن الدبلوماسية الرسمية تتسم في الغالب بمواقف وطنية جامدة. وفي مفاوضات الحد من التسلح، يتفاقم هذا الجمود في الغالب مع مرور الوقت. ويتسم مفاوضوا الحد من التسلح، وهم في العادة ممثلين عن وزارات الخارجية أو جهات أمنية وطنية، بصلابة الموقف فلا يغيرون مواقفهم بسهولة. لهذه الأسباب، فإن مفاوضات الحد من التسلح ليست الإطار الصحيح الذي يمكن من خلاله تعزيز التحقق المجتمعي. ولكن أود أن أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، وأزعم أنه سيكون من الخطأ تقديم التحقق المجتمعي إلى عامة الناس في العديد من الدول على هيئة مبادرة للحد من التسلح. بدلا من ذلك، وكما أوضحت من قبل، لابد من حشد التأييد لمسألة التحقق المجتمعي في مجتمع الأعمال.

وبعد ذلك، كما كتبت في وقت سابق، قد يزداد هذا الدعم ليأتي من مستويات حكومية رفيعة – وفي نهاية المطاف من هيئات متعددة الأطراف. ومن المفترض أن يكون المفاوضين التجاريين ممرأ طبيعياً لذلك. وهؤلاء المفاوضون في الغالب ينتمون الى وزارات التجارة ويميلون إلى إيجاد حلول للمشاكل يكون الكل فيها فائز؛ فهم يريدون ان تتسم اقتصادات وصناعات أوطانهم بالشفافية وتصبح جديرة بالثقة. وإذا ما أدرك هؤلاءالمفاوضون التجاريون أن ثمة مصلحة وطنية ستترتب على التحقق المجتمعي، فإن مجموعة مثل منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ قد تصدر مبادئ توجيهية للتحقق المجتمعي مماثلة للمبادئ التوجيهية الصادرة عنها بشأن أمن سلسلة الإمداد وهذا من شأنه تعزيز أهمية التحقق المجتمعي داخل مجتمع الأعمال. ولكن مرة أخرى، فإن الزخم الأولي يأتي من المتخصصين في هذا القطاع الذي تبين أن حوافزهم منسجمة مع أهداف التحقق المجتمعي.

ضروري ومفيد. تبدوا بعض الاحتمالات التي ناقشها الزميلان راجاجوبالان وإبراهيم، مثل عدم الرغبة الشعبية في المشاركة في التحقق المجتمعي، مرتبطة بشكل أساسي بالكشف عن حالات يتم فيها استخدام أسلحة الدمار الشامل. ولكن من وجهة نظري، فإن التحقق المجتمعي من المرجح ان ينجح من خلال سلسة الإمداد الذي تعتبر أيضاً ضرورة ملحة بالنسبة له، وليس من خلال جانب الكشف عن حالات استخدام اسحلة الدمار الشامل.

بموجب معاهدات الحد من التسلح، يوجد هناك بالفعل آليات مختلفة للكشف عن استخدام أسلحة الدمار الشامل. ويمكن توقع أن تقوم وسائل الإعلام بالكشف عن استخدامات للأسلحة الإشعاعية والبيولوجية والكيميائية، وهذا يشكل نوعا آخر من التحقق. ولكن في مجال سلاسل الإمداد، فليس هناك سوى عدد قليل من الأدوات القانونية التي تراقب مسألة الأمن. كما أنه من غير المحتمل ان تكشف وكالات الأنباء النقاب عن اختراقات أمنية. لذلك فإن التحقق المجتمعي قد يجد القدر الأكبر من القبول من خلال سلاسل الإمداد ومن خلالها أيضا يتمكن من سد أكبر الفجوات الأمنية.



 

Share: [addthis tool="addthis_inline_share_toolbox_w1sw"]

RELATED POSTS

Receive Email
Updates