الحاجة إلى الطاقة والتوعية البيئية

الطلب على الطاقة والتوعية البيئية على السواء في حالة ارتفاع مستمر في عدد من الدول النامية. يمكن أن يخلق ذلك توترات بين عدد من أصحاب المصالح. قد تضع الطبقات الوسطى توقعات جديدة بشأن قضايا مثل تلوث الهواء والحفاظ على الحياة البرية، لكن رفاهيتهم تعتمد في جزء منها على مشاريع الطاقة التي يمكن أن تحمل مجموعة من الآثار البيئية السلبية. والفقراء هم غالبا من يعاني من هذه العواقب بصورة مباشرة، برغم أنه من المفترض أن يكون الفقراء هم أول المستفيدين من التنمية الاقتصادية. وفي الوقت نفسه، يجب أن تظل الحكومات، برغم حرصها على تشجيع التنمية، واعية بالاتجاهات البيئية لدى مواطنيها. إذاً، كيف يمكن للدول سريعة النمو تلبية احتياجاتها من الطاقة وتحقيق أهدافها التنموية بينما تقوم في الوقت نفسه بتلبية أعلى المستويات من التوقعات البيئية؟

يمكن قراءة مناقشات الدائرة المستديرة حول مسألة نزع السلاح والتنمية باللغة الإنجليزية والصينية والاسبانية .

Round 1

حان الوقت لتجاوز الخطوات الطفولية

لاحظ علماء الاجتماع منذ حقبة السبعينيات أن قيم البشر تتحول من المادية إلى مابعد المادية عندما تصبح المجتمعات مزدهرة بمعنى أنه عندما يبدأ الناس في الاعتقاد بأن أمنهم الاقتصادي والجسدي مضمون، فإنهم يولون اهتماما أكبر بالأشياء التي كانت تعتبر من قبل من الرفاهية، مثل الاستقلالية والتعبير عن الذات. وقد ساعدت هذه العملية نفسها على إنتاج الحركات البيئية في العالم المتقدم. هذه الحركات، التي ربما تكون قد بدأت مع الاهتمامات المحلية بجودة الهواء والماء، تشمل حاليا قضايا عالمية مثل تغير المناخ وإزالة الغابات وفقدان التنوع البيولوجي.

من ناحية أخرى، غالبا ما يكون النشاط البيئي في الدول النامية ناتجا عن الفقر وليس الثراء. إن الكفاح الذي قام به شيكو مينديز للحفاظ على الغابات المطيرة في البرازيل، وحركة شيبكو في جبال الهيمالايا لحفظ الغابات وحماية التربة والموارد المائية، وجهود شعب بينان لمنع قطع الأشجار في ماليزيا هي أمثلة على كيفية مكافحة الأشخاص الفقراء في المناطق الريفية لحماية مصادر أرزاقهم. لكن في السنوات الأخيرة، بدأت حماية البيئة ما بعد المادية وحماية البيئة للفقراء تلتقيان في بعض الدول النامية. في دول مثل الهند وكينيا ، ويأتي المثقفون من الطبقة المتوسطة الذين لديهم الحافز نحو السلوك المسؤول بيئيا إلى جانب الفقراء لمعالجة قضايا الاستدامة.

التحدي البيئي الأكبر الذي يواجهه العالم اليوم هو تغير المناخ. منذ بداية الثورة الصناعية، تم دعم النمو الاقتصادي من خلال الوقود الأحفوري—لكن من الاستخراج مرورا  بالمعالجة ووسائل النقل إلى الاستخدام النهائي، ينتج الوقود الأحفوري انبعاثات الكربون والتي لا يمكن للعالم أن يتحملها لفترة أطول. فمن الواضح أنه يجب أن تصبح نظم الطاقة أكثر استدامة. ينبغي بناء نظم الطاقة في المستقبل— بالإضافة إلى كفاءة استخدام الطاقة— على أساس الاستخدام الواسع الانتشار لتقنيات الطاقة النظيفة والمتجددة. إن سياسات الطاقة الوطنية، والتغيرات في الأسواق التي تنطوي على هذه السياسات، هي أمر محوري لتحقيق مثل هذا التحول.

يواجه العالم النامي، عند إعادة تنظيم أنظمة الطاقة، مأزقا مختلفا عن ذلك الذي تواجهه الدول الصناعية. الطاقة والنمو الاقتصادي مقترنان بإحكام، وهذا يمثل مشاكل للدول التي تبقى فيها مستويات التنمية منخفضة. يجب أن تضمن الدول النامية في وقت واحد الوصول إلى الطاقة التي هي ضرورية للتنمية الاقتصادية، وتتمكن من إجراء تحولات لأنظمة الطاقة منخفضة الكربون، وتساعد الأكثر ضعفا على التعامل مع آثار تغير المناخ. يعرف ذلك، في الأساس، بـ"المأزق ثلاثي الجوانب" والمتمثل في أمن الطاقة والاستدامة البيئية والعدالة الاجتماعية معالجة كل عنصر من عناصر "المأزق ثلاثي الجوانب " هو أمر حتمي، ولكن معالجتهم كلهم بنجاح هو أمر معقد للغاية لأن الثلاثة مترابطون.

على مدى العقود المقبلة، من المحتمل أن تكون الدول سريعة النمو السبب وراء الحصة المتزايدة من انبعاثات الكربون في العالم— وبخاصة الصين والهند والبرازيل. لكن في الدول الأشد فقرا، يبقى التحدي الأكبر وهو الحصول على الطاقة نفسها. حتى أكبر دول العالم انتاجا لانبعاثات الكربون لم تدمج بالكامل حتى الآن تغير المناخ في سياساتها المتعلقة بالطاقة— لذلك، ليس من المستغرب، في الدول الأشد فقرا، ألا يتم غالبا إيلاء أدنى اعتبار لتحويل نظم الطاقة.  

ومع ذلك، إذا كان للدول النامية أن تتقدم اقتصاديا وأن تتيح العدالة الاجتماعية لمواطنيها، سيجب عليها عاجلا أو آجلا أن تتبني نوعا جديدا من التفكير— عبارة عن اتجاه يسير فيه كل من تخفيف آثار تغير المناخ ونظم الطاقة المستدامة والتنمية الاقتصادية جنبا إلى جنب. وقد قررت بعض الدول النامية بالفعل أن بناء اقتصادات أكثر اخضرارا هو هدف يمكن تحقيقه.

حددت الصين، على سبيل المثال، في الخطة الخمسية خلال الفترة من 2011 إلى 2015، صناعات الطاقة النظيفة والتقنيات ذات الصلة بأنها "صناعات أساسية" (إضافة إلى تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الحيوية). وتشير تقارير إلى إن الحكومة الصينية تنفق أكثر من 1,7 مليار دولار على هذه الصناعات والتقنيات على مدى السنوات الخمس، حيث يمثل هذا الاستثمار "دفعا" للسوق نحو الطاقة الخضراء، بينما تمثل تدابير الكفاءة "سحبا" للسوق. لكن بُعد الاقتصاد الأخضر لتخفيف آثار تغير المناخ ليس فكرة صينية خالصة— إذ يمكن رؤية أطر سياسية مشابهة في تايلاند وفي بلدي ماليزيا، على سبيل المثال.

إن الرحلة نحو نظم الطاقة المستدامة تمضي حاليا في مسارها، لكن الدول لم تتخذ حتى الآن سوى خطوات طفولية. يمكن زيادة سرعة هذا المسار إذا تم الارتقاء بالمشاريع المستدامة الحالية وإذا شجعت القوانين قوى السوق بشكل أفضل. كذلك، من المهم أن تشجع الحكومات التدخلات قصيرة الأجل التي يمكن أن تثبت للجماهير مزايا خلق نظم الطاقة المستدامة— في غانا، على سبيل المثال، تم ربط أهداف توليد الطاقة المتجددة بهدف إمكانية الحصول على الكهرباء في جميع أنحاء البلاد بحلول عام 2020. وهذا النوع من بناء الثقة هو أمر ضروري. خلال الأزمة المالية والاقتصادية في السنوات القليلة الماضية، ضعف الاهتمام بالمشاكل البيئية العالمية بين الحكومات والشركات والجمهور. إن الفترة الزمنية التي يمكن خلالها أن يعود الاستثمار في الطاقة الخضراء بالنفع على المناخ آخذة في التضاؤل— وإذا انتهت، فإن الآثار ستكون خطيرة للغاية.

مهمة صعبة لكنها ليست مستحيلة

يتحمل العالم الصناعي القسط الأكبر من المسؤولية التاريخية عن تدمير البيئة. لكن بينما تتسابق الدول التي "استبعدت" في الماضي من قصة النمو الاقتصادي لكي تلحق بالركب، فإنها سوف تلحق أيضا بركب تدمير البيئة. في دول مثل الصين والهند، يجري تحويل الأنظمة الإيكولوجية الطبيعية والأراضي الزراعية إلى صناعات وبنى تحتية ومحطات لتوليد الطاقة. كما تسبب عمليات استخراج المعادن والوقود الأحفوري، التي تنفذ على نطاق هائل، أنواعا مختلفة من التلوث. تبرز الدول سريعة النمو باعتبارها المصدر الرئيسي لانبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، حتى لو كان نصيب الفرد من انبعاثاتها ما زال ضئيلا بالمقارنة بنصيب الفرد في الدول الصناعية. ومع الطلبات الهائلة على موارد كوكب الأرض حاليا من قبل العالميين المتقدم والنامي على حد سواء، فإن البشر في بداية عبور عتبات بيئية بالغة الخطورة

تأتي الآثار الاجتماعية والاقتصادية الخطيرة جنبا إلى جنب مع كل هذا الضرر البيئي— في الدول الصناعية، يتعمد عدد كبير من الأشخاص في بقائهم بطريقة مباشرة على النظم الإيكولوجية الطبيعية والمعدلة. في الهند، على سبيل المثال، يعتمد حوالي 700 مليون شخص بصورة مباشرة على المزارع والغابات والمراعي والأراضي الرطبة والموائل البحرية في معيشتهم، لكن التدهور البيئي ينذر بآثار خطيرة عليهم. وفقا لدراسة أجراها البنك الدولي، فإن التكلفة الاقتصادية للتدهور البيئي في الهند تعادل 5,7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد ، مع تكلفة عالية غير متناسبة يتحملها الفقراء. كذلك يمكن أن يؤدي إنتاج الطاقة واستخراج الموارد إلى التشريد والتعطل الزراعي والأمراض.

بعض الدول تكون مسؤولة بالدرجة الأولى عن الأضرار البيئية؛ وهناك دول أخرى تعاني أكثر من غيرها بسبب الأضرار البيئية. لكن هذا النوع من الظلم موجود داخل الدول بنفس القدر الذي يوجد به بين الدول. اعتبارا من عام 2007 (وهي أحدث السنوات التي أتيحت خلالها هذه الحسابات)، كانت الشريحة الأغنى في الهند مسؤولة على أساس نصيب الفرد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بـ4.5 مرة أكبر من نصيب الشريحة الأفقر. وكان حوالي 150 مليون هندي، على أساس نصيب الفرد أيضا، مسؤولين عن انبعاثات الكربون السنوية لأكثر من 2.5 طن متري وهي النسبة التي تعتبر متسقة مع الحد من ارتفاع درجة الحرارة إلى 2 درجة.

كثيرا ما تشهد الهند احتجاجات كبيرة ضد محطات الطاقة وعمليات التعدين وما شابه ذلك. وغالبا ما يكون المحتجون من المزارعين والصيادين والرعاة أو الأديفاسي (مجتمعات السكان الأصليين) والذين يعارضون استخدام الأراضي الزراعية والغابات والمياه أو غيرها من الموارد لمشاريع التنمية التي لا تفيدهم فعليا. و بسبب مثل هذه الاحتجاجات توقفت العشرات من مشاريع التعدين والطاقة الكهرومائية والطاقة النووية والصناعية في الهند. (وحتى في دولة أقل ديمقراطية مثل الصين، يتم تسجيل الآف الاحتجاجات ضد عمليات الاستحواذ على الأراضي سنويا). انضم جزء من الطبقة الوسطى الهندية لمثل هذه الحركات، كما يركز قطاع المجتمع المدني المزدهر على الحقوق البيئية والإنسانية. يتشكك كثير من الأشخاص، من المجتمعات المحلية المتضررة بشكل مباشرة ومن الطبقة المتوسطة، بصورة أساسية في نماذج النمو الاقتصادي ويقومون بالبحث عن بدائل.  

الاستهلاك المستدام. هل يمكن التخفيف من حدة الفقر دون كسر الرابطة بين البشر والبيئة التي يعيشون فيها؟ تبين المبادرات السياسية والجهود الشعبية في عدد من الدول أنه توجد بالفعل مسارات لتحقيق ذلك. يمكن للهند وحدها أن توفر مئات من الأمثلة المشجعة— كمشاريع الزراعة المستدامة التي توفر الأمن الغذائي، وأساليب اللامركزية لحصاد المياه التي تضمن توافر إمدادات كافية من الماء حتى في المناطق قليلة الأمطار، والصناعات الصغيرة ومبادرات الحرف اليدوية التي تدعم مهنا كريمة وغير ملوثة. تثبت مبادرات الطاقة اللامركزية، في الوقت نفسه، مدى ملاءمتها لمجموعة واسعة من التطبيقات (ويمكن أن تصل إلى الفقراء أسرع بكثير من مشاريع الطاقة التقليدية التي تتم على نطاق واسع، والتي تعتمد على شبكات مركزية غير فعالة). جميع هذه الأساليب تعالج مباشرة احتياجات الناس وتطلعاتهم— بعكس مبادرات التنمية التقليدية، التي تحاول معظمها تحفيز النمو السريع أملا في أن تصل بعض الفوائد للفقراء. 

لكن التخفيف من آثار تغير المناخ ومعالجة المخاوف البيئية الأخرى يتطلب أيضا أن يكون الاستهلاك محدودا. على سبيل المثال، تشكل النفايات الهائلة مصدر ازعاج لسلاسل إمدادات الطاقة، وبالتالي يصبح تحسين الكفاءة أمرا ضروريا. كما يجب وضع نظم ملائمة للنقل العام لإنهاء هيمنة المركبات الخاصة. يجب أن تصبح أساليب ومواد البناء كثيفة الاستهلاك للطاقة أقل بكثير مما هي عليه حاليا.

يجب كذلك تحجيم الاستهلاك الشخصي المفرط.  إحدى الطرق لتحقيق ذلك سيكون من خلال إنشاء "خط الاستهلاك المستدام"  بحيث يتم تثبيط الاستهلاك أو حظره بعد تجاوز هذه الخط. مع وجود خط الاستهلاك المستدام، لن تتم معاملة جميع أنواع الاستهلاك على أنها مشروعة— بدلا من ذلك، سيتم تحديد الاستهلاك بسبب قيود الامداد التي تفرضها طبيعة. قد يشكل خط الاستهلاك المستدام جزءا مما أسميته في موضع آخر بالديمقراطية البيئية الراديكالية— وهي ترتيب اجتماعي ثقافي وسياسي واقتصادي يتيح لجميع الأشخاص والمجتمعات الحق والفرصة الكاملة للمشاركة في عمليات صنع القرار التي من شأنها أن تدير محوري الارتكاز: الاستدامة البيئية والعدالة الإنسانية.
 
سوف تحدث الديمقراطية البيئية الراديكالية تحديات سياسية واجتماعية واقتصادية وتقنية وثقافية. وقد تتطلب التخلي عن القيم المهيمنة اليوم— النزعة الفردية والاستهلاكية وتراكم الثروة وتعظيم المكاسب والتباهي، إلخ. سيتم استبدال هذه القيم بمجموعة مختلفة من الأفكار، مثل الحقوق تأتي مع المسئوليات، وأن الموارد هي جزء من المشاعات العالمية، وأن السعادة يمكن جلبها من خلال تحسين العلاقات الاجتماعية والقيم الروحية العميقة وفهم معنى"الكفاية"وفهم الطبيعة نفسها.

يمكن معالجة احتياجات الفقراء وحفظ هذا الكوكب فقط من خلال إعادة هيكلة جوهرية للنشاط البشري. ستكون إعادة الهيكلة هذه مهمة صعبة وطويلة الأجل، لكنها ليست مستحيلة.

الخروج من المأزق

نادرا ما يتم تقاسم تكاليف وفوائد إنتاج الطاقة بشكل عادل في العالم النامي. وسد "باك مون" في تايلاند هو خير مثال على ذلك. ينتج هذا المشروع من الكهرباء ما يكفي فقط لتشغيل مركز تجاري كبير في بانكوك، وكان رأي اللجنة العالمية للسدود أنه غير مبرر اقتصاديا. إلا أن بناء السد شرّد 1,700 أسرة وأثّر، جرّاء عرقلة صيد الأسماك، على أرزاق 6,200 عائلة.

من المشجع أن الطبقات الوسطى في الدول النامية تبدي وعيا بيئيا متزايدا، لكن إذا ظل وعيها البيئي سطحيا، فسينتج عن ذلك ما يسمى بسلوك " ليس في الفناء الخلفي لمنزلي". يمكن أن يخلق ذلك "تفرقة عنصرية خضراء"، عن طريق استفادة المناطق الغنية من مشاريع الطاقة القذرة الواقعة بمنأى عنها. على سبيل المثال، تستمد تايلاند— التي تعد دولة مزدهرة بالمقارنة مع بعض جيرانها—طاقتها الكهربائية على نحو متزايد من السدود المدمِرة أو محطات الطاقة الملوِثة الموجود في لاوس وكمبوديا وميانمار (وهي دول ذات قوانين بيئية وآليات تنفيذ متساهلة). لا تزال الآثار السلبية لهذه المرافق، بالنسبة لكثير من التايلانديين، بعيدة عن العين ومن ثمّ بعيدة عن الخاطر.

كل ذلك يجعل الأمر يبدو كما لو أن الطبقة المستهلكة تستفيد بطريقة غير عادلة على حساب الفقراء. ولكن الواقع في تايلاند هو أن الاستثمارات في مجال الطاقة تكون مدفوعة بشكل متزايد بجشع من الشركات، وليس باختيار من الطبقة الوسطى التايلاندية. ولأن العديد من كبار مخططي الطاقة في الحكومة هم أعضاء في مجالس إدارة شركات الطاقة المخصخصة، فإن التخطيط يكون مشوها ويتم تنفيذ مشاريع غير ضرورية. والمستفيد من هذا المزيج الفاسد من المال والسياسة هم فئة قليلة مختارة من الأشخاص. والمستهلكون يقعون أسرى لذلك، من خلال تعهدهم بتمويل مشاريع للطاقة غير ضرورية وهدّامة. لذلك، ليس من الإنصاف أن نصف المخاوف البيئية للطبقة الوسطى بأنها زائفة—كما أنه ليس من الانصاف أيضا أن نصف المخاوف البيئية للفقراء بأنها "ضد التنمية".

توزيع غير متكافئ. إن تدفق الطاقة من المناطق الفقيرة إلى المناطق الغنية هو أمر شائع— سواء داخل الدول أوبين الدول أوبين العالميين المتقدم والنامي. لكن للمفارقة، غالبا ما تكون الدول التي يتم تصدير موارد الطاقة منها فقيرة في الطاقة. في ميانمار، على سبيل المثال، يحصل 26 في المئة فقط من السكان على الكهرباء (وحتى ذلك يكون بشكل متقطع). لكن وفقا لتقرير صادر عن بنك التنمية الآسيوي عام 2012، فإن أكثر من نصف إمدادات الطاقة في البلاد تذهب إلى التصدير  .

على الصعيد العالمي، أنتجت عقود من التنمية الاقتصادية الكثير من الطاقة والكثير من الربح، لكن لا يتم توزيع أي منها بالتساوي. هناك ما يقرب من 1,3 مليار شخص حول العالم يفتقرون إلى إمكانية الحصول على الكهرباء، في حين يتركز 46 في المئة من ثروات العالم في أيدى الأغنياء الذين يمثلون 1 في المئة من سكان العالم غالبا ما تترك مشاريع الطاقة الفقراء مشردين وبيئاتهم الطبيعية ملوثة أو متدهورة، بدلا من أن توفر لهم خدمات الطاقة الحديثة.

لا يرجع سبب وجود الفقر إلى امتلاك العالم ثروة صغيرة جدا ولكن إلى ظلم النظام الاقتصادي العالمي. أو كما قال المهاتما غاندي:"إن العالم به ما يكفي لتلبية احتياجات الجميع، ولكنه لا يكفي لتلبية جشع الجميع". إذا كان للمرء أن يتصور الاقتصاد العالمي من خلال ثلاثة أبعاد، فإن الأمر يبدو تقريبا مثل الهرم، ولكن بقمة مرتفعة ومدببة، وقاعدة عريضة وممتدة. الصفوة التي تمثل الـ1 في المئة تحتل الحيز العلوي، بينما يتجمع الفقراء في القاع. سيستمر هذا النظام في العمل طالما أمكن تهدئة الأشخاص في الجزء السفلي بوعود مستقبلية تتضمن الرفاهية والراحة وسهولة الانتقال والحداثة. لكن في فترة معينة— بسبب عدم المساواة التي لا تحتمل وندرة الموارد وتغير المناخ أو تراكم المشاكل البيئية الأخرى— فإن حزب العولمة سوف ينتهي.

نعم، يجب على العالم القيام بعمل أفضل لتلبية الاحتياجات الأساسية للأشخاص في أسفل الهرم الاقتصادي. لكن في عالم محدود، لا يمكن تلبية هذه الاحتياجات من خلال الاستمرار في مسار نمو اقتصادي لا نهائي وطلب عال جدا على الطاقة. في الواقع، يجب أن ينخفض استهلاك الوقود الأحفوري انخفاضا حادا— في الدول المتقدمة والنامية على حد سواء— إذا كان للإنسانية أن تتجنب كارثة مناخية.

لكن التخلي عن الوقود الأحفوري سيكون صعبا للغاية. فقد أصبحت أنواع الوقود الأحفوري، بالإضافة إلى توفيرها للطاقة، المدخلات الأساسية في كل شيء من الأسمدة الاصطناعية إلى البلاستيك. أنواع الوقود الأحفوري هي المحركات لتوليد وتراكم رأس المال. هذه الأنواع توفر الوقت والجهد وتقوم بنقل التجارة الدولية وهي مقاييس التقدم وهي الضمانات المفترضة للأمن القومي وهي عقاقير إدمانية مستترة تحت توفير الراحة والرفاهية. وقد أتاحت تلك الأنواع لمرافق الإنتاج الانتقال إلى أي مكان بحثا عن العمالة الرخيصة. كما مكنت من خلق قوى عاملة متنقلة يمكن الاستغناء عنها. وجعلت من الجغرافيا فكرة مجردة، بعد أن أصبحت الموارد في أي مكان حاليا صيدا سهلا للشركات متعددة الجنسيات. فهذه الأنواع أصبحت شرط مسبق ضروري لتراكم رأس المال على أساس استغلال العمالة والموارد العالمية. أنواع الوقود الأحفوري مترسخة للغاية في الاقتصاد العالمي بحيث يستلزم الحد من الاعتماد عليها تغييرا جذريا.

للأسف، لا يمكن أن يكون حل مشكلة تغير المناخ بسيطا مثل التحول إلى أشكال بديلة من الطاقة. يجب استغلال مصادر الطاقة المتجددة وتقنيات الحفظ إلى أقصى مدى حيثما كان القيام بذلك منطقيا من الناحية الاقتصادية. لكن على الرغم من أن بعض الدول تتبني الطاقة الخضراء، فلم يحدث حتى الآن سوى عدد قليل جدا من الدول تأثيرا ملموسا في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وغالبا ما تُعطى الطاقة الخضراء وعودا زائفة— أو تقابل بمقاومة صريحة. ببساطة، إن الطاقة الخضراء لا تقدم حلا سحريا لمشاكل المناخ في العالم. وفي الوقت نفسه، فإن المشاريع النووية مكلفة للغاية وتشكل كثير من المخاطر البيئية ومخاطر الانتشار، كما تستغرق وقتا طويلا لإنشائها. ينبغي ألا تكون الطاقة النووية مطروحة للنقاش.

إذن، كيف يمكن للعالم انتشال نفسه من مأزق الوقود الأحفوري الذي وضع نفسه فيه؟ من خلال بناء اقتصاد عالمي قائم على تلبية احتياجات الناس الأساسية، بما في ذلك الاحتياجات الأساسية للأجيال القادمة. يمكن أن تشارك الحكومات، المدفوعة والمسئولة من قبل الجمهور والمنظمات غير الحكومية، في عدد من الخطوات التي من شأنها أن تساعد في خلق مثل هذا الاقتصاد.

يتعين فورا على الحكومات التخلي عن السياسات التي ترسخ لاقتصاد الوقود الأحفوري. لا ينبغي بناء أي محطات جديدة لتوليد الطاقة تعمل بالفحم أو بالغاز. ينبغي التخلي عن خطط الطرق السريعة. ويجب أن تتوقف مزادات الامتيازات النفطية. كما ينبغي سحب الإعانات والامتيازات الضريبية من أي صناعة كثيفة الاستهلاك للطاقة والتي تخدم في المقام الأول أسواق التصدير. ينبغي أيضا سحب الدعم عن الزراعة كثيفة الاستهلاك للطاقة والمواد الكيميائية.

ينبغي بعد ذلك فرض أو زيادة الضرائب على انبعاثات الكربون— وأيضا على مكاسب رأس المال وتدفقات أموال المضاربة والتركات. وفي الوقت نفسه، ينبغي خفض الضرائب على الأعمال. ينبغي زيادة الإيرادات الضريبية الإجمالية، وينبغي أن تستثمر هذه الأموال في الطاقة الخضراء والصحة والتعليم وتمكين المجتمع وإعادة توجيه البنى التحتية الاقتصادية نحو الاكتفاء الذاتي والاستدامة وتلبية الاحتياجات الأساسية.

إن الهدف طويل الأجل من كل ذلك هو إعادة المركزية الاقتصادية. سيكون الاستثمار موجها محليا ومصدر الاستهلاك سيكون محليا أيضا. وستقع الموارد الطبيعية تحت الإشراف المحلي. سوف تأتي الأرباح في شكل صحة أفضل ومجتمعات أقوى وبيئة أنظف. سيعمل الناس ليس بغرض جمع الأموال ولكن لتلبية الاحتياجات الحقيقية—احتياجاتهم الخاصة واحتياجات الآخرين واحتياجات أطفالنا وأحفادنا جميعا.

Round 2

مزيد من الديمقراطية والشعور بمغزى الحدود

تشمل الأفكار التي برزت في اجتماع المائدة المستديرة هذا للحد من انبعاثات غازات الدفيئة والتصدي للمشاكل الأخرى المتعلقة بالبيئة والعدالة: خفض الاستهلاك وتحدي أنماط التنمية السائدة وضمان أن يكون الحكم متمحورا حول الناس وتحويل سياسات الطاقة الوطنية نحو الطاقة المتجددة. وقد ركز عدنان أ. هيزري في جلسة الاجتماع الأولى على آخر هذه الأفكار بصفة رئيسية. أنا أدعم مثل هذه التحولات— لكن لأن العدالة الاجتماعية لا تقل أهمية عن الاستدامة البيئية، فمن الضروري إلغاء مركزية مشاريع الطاقة المتجددة.

مصادر الطاقة المتجددة المركزية مثل مزارع الرياح ومشاريع الطاقة الكهرومائية الكبيرة ومنشآت الطاقة الشمسية الضخمة— إضافة إلى كونها تحمل آثارا بيئية هامة— هي بطبيعتها مقاومة للسيطرة الديمقراطية. إذ إنه من الشائع للغاية أن تذهب الطاقة التي تنتجها تلك المصادر إلى المناطق الحضرية الغنية أو المجمعات الصناعية، في حين يظل الفقراء في المناطق الريفية مفتقرين إلى سبل الحصول على الطاقة. تميل الطاقة من المصادر المتجددة اللامركزية إلى الوصول مباشرة وبشكل أسرع إلى الفقراء، وخاصة إذا تم دعم هذه المشاريع من قبل الحكومات والمجتمع المدني.

في الوقت نفسه، أكدت تشانتشوم سانجاراسري جريسين على تخفيض الاستهلاك بصفة رئيسية. إن الحد من الطلب الكلي على الطاقة هو أمر مطلوب بالتأكيد— خصوصا في الدول الصناعية وأيضا بين الأغنياء في الدول الصناعية الأقل تقدما. يمكن تحقيق الانخفاض من خلال الكفاءة، وأيضا من خلال الحد من الاستخدام العبثي للطاقة مثل لافتات النيون الدعائية وإضاءة المحلات التجارية طوال الليل. إن استبعاد السلع غير الضرورية مثل منتجات الأزياء، وكذلك إجراء تغيرات في سياسة النقل العام، سوف يقلل من الاستهلاك. لكن كيف يمكن تحقيق هذه التخفيضات من الناحية العملية؟

إن خلق وعي عام بإمكانه أن يلعب دورا في هذا الصدد، إذ سوف يتغير السلوك إلى حد ما إذا أدرك الناس الطبيعة الانتحارية لمسارات الطاقة الحالية. لكن ربما تتطلب التخفيضات الكبيرة أن يكسب مناصرو حماية البيئة مزيدا من السلطة السياسية، كما اقترح هيزري. يمكن فقط من خلال ممارسة السلطة السياسية توطين التأثيرات الخارجية للوقود الأحفوري، مما يجعل هذه الأنواع من الوقود غير قابلة للحياة اقتصاديا. إن السلطة السياسية ضرورية لفرض ضرائب أو فرض حظر على استهلاك السلع الكمالية وكذلك استخدام عائدات الضرائب لدعم خيارات الطاقة المتجددة اللامركزية. التمكين السياسي للمواطنين هو أمر ضروري أيضا إذا أرادت المجتمعات الريفية اكتساب القدرة على حماية مواردها الطبيعية من القوى الحضرية والصناعية ذات النفوذ. لكن في نفس الوقت، لا يجب أن نقلل من قدرة الحركات الراديكالية اللامركزية على تغيير الأمور على نطاق واسع . في الهند، على سبيل المثال، كانت واحدة من تلك الحركات اللامركزية— وليس سيطرة مباشرة من الحكومة— هي التي جعلت "قانون الحق في الحصول على المعلومات" حقيقة واقعة في البلاد.

التحول السياسي يجب أن يرافقه تحول في النموذج الاقتصادي: يجب أن يتوقف العالم عن إدمانه للنمو الاقتصادي. تأكيد هيرزي في جلسة الاجتماع الثانية على أن "تراجع النمو الاقتصادي هو هدف بيئي متطرف من شأنه أن يمنع المجتمعات من الازدهار" يفتقد نقطة مهمة وهي أن الإنسانية أنهكت بالفعل هذا الكوكب. يجب تقليص الأنشطة التي تتسبب في اختراق الإنسانية للحدود الإيكولوجية للأرض.

لا يتطلب الحد من هذه الأنشطة أن يتراجع النمو في كل مكان. فالناس في شمال الكرة الأرضية والأثرياء في الدول الفقيرة هم الذين يجب أن يقلصوا بشكل كبير من بصماتهم على البيئة. وفي الوقت نفسه، سيكفل إعادة التوزيع الاقتصادي الجذري لجنوب الكرة الأرضية أن يكون لديها الموارد التي تحتاجها لخلق سبل للمعيشة وتلبية احتياجات الناس الأساسية.

إن اتخاذ خطوات مثل هذه لن ينتهي النمو الاقتصادي. بل سوف يصبح النمو مستداما بدلا كونه غير محدود. الأهم من ذلك، سيحقق العالم أجمع "حالة مستقرة" من شأنها ألا تكون التحسينات المستمرة للرفاهية معتمدة على الاستهلاك المتزايد للطاقة والمواد.

لتغيير السياسة لا بد من اكتساب القوة

هناك حلاّن يعرضان باستمرار لمعالجة "معضلة الطاقة الثلاثية" المتمثلة في أمن الطاقة والاستدامة البيئية والعدالة الاجتماعية: هما تقليل الاستهلاك الكلي وإصلاح النظم السياسية. في اجتماع المائدة المستديرة هذا، جادلت تشانتشوم سانجاراسري جريسين وكذلك أشيش كوثري كلٌ بطريقته الخاصة لصالح هذين النهجين. لكن حل "معضلة الطاقة الثلاثية" سوف يتطلب أكثر مما يمكن أن يحققه هذان النهجان بمفردهما.

قد تغفل غالبا الدعوات المطالبة بخفض الاستهلاك مسألة هامة— وهي أن النشاط الاقتصادي واستخدام الموارد الطبيعية لا يسيران دائما بإيقاع موحد. في اليابان، على سبيل المثال، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 42 في المئة في الفترة ما بين 1977 و 1987 بينما ارتفع الطلب على الطاقة بنسبة 14 في المئة فقط لكن باستثناء ذلك، يمكن أن يؤدي التركيز المفرط على استهلاك الطاقة المنزلية إلى استنتاج مفاده أن سلوك الفرد هو المفتاح لتحقيق الاستدامة البيئية. يمثل هذا موقفا مثاليا في معظم الدول النامية. تنظر الطبقات الوسطى المتزايدة في معظم الدول النامية في آسيا، على سبيل المثال، إلى السيارات ووحدات تكييف الهواء المنزلية على أنها دلائل على قوة الحالة الاجتماعية إن التوقع بأن يتخلى الأشخاص محدثي الثراء عن التقنيات التي يعلقون عليها أهمية كبيرة سوف يتنهي بخيبة أمل.

إن استهلاك الفرد محكوم بما يراه الأفراد مرغوبا ومنطقيا من الناحية الاقتصادية. السياسة الحكومية هي الوحيدة التي لديها القوة الكفاية للسيطرة على هذه القوى. من خلال هذه السياسة، قد يكون من الممكن إعادة هيكلة أنماط الاستهلاك بحيث تكون منطقية من الناحية البيئية، وليس فقط من الناحية الاقتصادية. إلا أنه من غير المرجح أن تقدم الحكومات مثل هذه السياسات فقط من أجل "التدابير التي تعزز الديمقراطية وزيادة الشفافية والمساءلة"، وهي التدابير التي دافعت عنها جريسين في جلسة الاجتماع الثانية. بدلا من ذلك، يجب أن تكتسب الحركات البيئية قوة سياسية أكبر.

حتى الآن، فاز مناصرو حماية البيئة بالعديد من المعارك لكنهم على ما يبدو يخسرون الحرب. لقد ضغطوا بنجاح لسن آلاف من التشريعات البيئية، لكن تدهور النظام البيئي للأرض لا يزال مستمرا بشكل سريع. هذا صحيح جزئيا لأنه غالبا ما تتسم الحركات البيئية بهياكل تنظيمية ضعيفة ورؤية محدودة وطرق تدريجية للتغيير. يجب التغلب على هذه المشاكل إذا أردنا أن تصبح حماية البيئة قوة سياسية مؤثرة بدلا من كونها حركة احتجاجية.

أحرزت أحزاب الخضر في أوروبا الغربية بعض التقدم في هذا الاتجاه، وذلك بتطور عدد من الحركات الاحتجاجية إلى أحزاب سياسية ذات مغزى. وقد أصبحت هذه الأحزاب أجزاءً من ائتلافات حاكمة في دول مثل ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبلجيكا وفنلندا. لفترة ما في عام 2004، كان رئيس وزراء لاتفيا من الخضر. في شرق آسيا، من ناحية أخرى، وهي منطقة ينبغي أن تكون أرضا خصبة للسياسة التي تركز على البيئة، فإن أحزاب الخضر غير قادرة على كسب التأييد ضد المنافسين الذين يؤيدون الازدهار من خلال النمو الاقتصادي. لكن حتى لو كسب مناصرو حماية البيئة مزيدا من السلطة السياسية السائدة، فإنهم يجب أن يظلوا متيقظين لهيمنة قوى السوق. سوف يستمر تحالف المال والسياسة في تشكيل خطر على كوكب الأرض ما لم يتبنى العالم بأسره بشكل جماعي وحاسم رؤية تلتقي من خلالها أهداف الاستدامة الإيكولوجية ورفاهية الإنسان.

أخيرا، وبالرغم من ذلك، فإني أزعم أن تراجع النمو الاقتصادي هو هدف بيئي متطرف من شأنه أن يمنع المجتمعات من الازدهار. يجب أن يقبل مناصرو حماية البيئة أن الحياة خلقت من أجل العيش.

المال والسياسة هما المشكلة

اقترح عدنان أ.هيزري، في الجلسة الأولى لهذ الاجتماع، أن تتصدى الدول لتغير المناخ وعدم المساواة الاقتصادية في المقام الأول عن طريق إنشاء أنظمة الطاقة المستدامة. سوف يكون ذلك خطوة في الاتجاه الصحيح. لكن بالنظر إلى الوجود المطلق للوقود الأحفوري في الاقتصاد العالمي، فإنه لا يمكن أن تقلل الطاقة المتجددة من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بالقدر المساوي الذي يتطلبه خطر تغير المناخ— أو حتى قريبا من هذا القدر. إذا استطاعت الطاقة المتجددة (مدعومة بتدابير الكفاءة) القضاءعلى جميع الانبعاثات المنتجة في عملية توليد الكهرباء القائمة على الوقود الأحفوري، فإن انبعاثات غازات الدفيئة ستنخفض تقريبا بمقدار 17 في المئة فقط. لكن ستظل الانبعاثات المرتبطة بالأشياء الأخرى، مثل السفر الجوي والبلاستيك وإزالة الغابات والماشية، دون تغيير— أو أنها حتى ستزيد بسبب الانبعاثات المرتبطة بإنتاج وتوزيع الخلايا الشمسية وتوربينات الرياح والأجهزة الموفرة للطاقة وما شابه ذلك.

إذا رغبت الدول في تخفيض الانبعاثات إلى الحد الذي يوصي به علماء المناخ، فيجب عليها تقليل الاستهلاك. إن الاستهلاك المفرط هو الذي يفسر في المقام الأول الفجوة المتسعة بين تخفيض الانبعاثات إلى الحد الذي يوصي به العلماء وتخفيض الانبعاثات الفعلي. ومن أجل تجنب كارثة مناخية وترك موارد كافية للفقراء، يجب على الأثرياء في العالمين المتقدم والنامي على حد سواء تقليل استهلاكهم.

من جانب آخر، فإن التركيز المفرط على الاستهلاك قد يلقي بقدر كبير من اللوم على المستهلكين بينما يتجاهل القوى الأكبر التي تدفع نحو كميات أكبر من الاستهلاك. الرأسمالية الجامحة المتحالفة مع السلطة السياسية غير المسئولة هي الجاني الحقيقي في قضية المناخ. إن الزواج بين المال والسياسة يؤدي إلى استثمارات في مجال الطاقة لا يستفيد منها سوى قلة مختارة وإلى نهب الموارد الطبيعية وافقار الأفراد الذين يعتمدون على الموارد الطبيعية في معيشتهم. والمستهلكون هم من يدفع فاتورة هذه المشاريع.

إن أي حل واقعي لتغير المناخ يجب أن يقطع العلاقة الحميمة التي تتمتع بها الرأسمالية المنفلتة مع السياسة. لكن قطع هذه العلاقة لن يكون سهلا— حيث لا توجد طريقة جاهزة لفعل ذلك. لكن مجموعة من الإجراءات قد تقوم بهذه المهمة. ينبغي إصلاح الأنظمة السياسية من خلال التدابير التي تعزز الديمقراطية وزيادة الشفافية والمساءلة. كما ينبغي إعادة توجيه الاقتصادات في الأساس نحو اللامركزية والأقلمة والاستدامة والتوزيع العادل للثروة.

مواقف جديدة. في الوقت نفسه، يحتاج مفهوم التنمية الاقتصادية إلى إعادة تعريف (وربما إلى اسم جديد). التنمية الحقيقية لا تنطلق من زيادة الاستهلاك؛ تراكم الثروة ليس حتى هدفا مرغوبا فيه. إن العولمة، التي تخلق ظلما لا يحتمل وتحث على الاستيلاء على الموارد مما يزيد الفقراء فقرا، تمثل شكلا من أشكال الاستعمار وليس وسيلة للتنمية. على أية حال، ينبغي أن نبدي إعجابنا بالمجتمعات الصحية التي تعيش في حدود إمكانياتها وفي وئام مع البيئة، لا أن نعتبرها بحاجة إلى التنمية. إذا أخذ الأغنياء دروسا من هذه المجتمعات "الفقيرة"، فسوف يعود ذلك بالنفع على الجميع.

هناك حاجة أيضا إلى إجراء تغيير في الموقف من حماية البيئة. في الجلسة الأولى من الاجتماع، وصف هيزري التوعية البيئية في الدول المزدهرة بمثابة أشياء "كانت تعتبر من الرفاهية " في الفترات الأقل ازدهارا. كما أقر بأن النشاط البيئي في الدول الأقل ازدهارا غالبا ما يكون نابعا من الفقر وليس الثراء— لكن برغم ذلك، أي مفهوم يعتبر حماية البيئة نوعا من الرفاهية فإنه بذلك يستخف بالفقراء ويقلل من شأنهم. مثل هذا الموقف تجاه البيئة هو من ضمن الأشياء التي تجبر الفقراء على قبول الآثار البيئية السلبية التي تصاحب "التنمية". الهواء النظيف والمياه النظيفة، وما شابه ذلك، هو الركيزة الأساسية لرفاهية الإنسان. إن هذه الأشياء ليست من الكماليات التي يستطيع الأغنياء فقط تحمل نفقاتها.

إن الرفاهية الزائدة عن الحد الحقيقي هي دعم الوقود الأحفوري. وفقا لصندوق النقد الدولي، فإن الدعم العالمي للطاقة يعادل 8 في المئة من الإيرادات الحكومية في العالم (مع اعتبار العوامل الخارجية السلبية لاستخدام الطاقة)، ومعظم دعم الطاقة يذهب إلى الوقود الأحفوري ستكون الدول أفضل حالا إذا أعادت توجيه مواردها المالية تجاه التعليم والصحة العامة وحماية البيئة وبرامج شبكات الأمان.

Round 3

من أجل إحداث التغيير

يتفق المشاركون في هذه المائدة المستديرة بصورة عامة على أنه يجب على البشر إعادة تنظيم أنشطتهم بطرق جذرية إلى حد ما إذا أرادوا أن تكون حياتهم على الأرض مستدامة ومنصفة— لكن عدنان أ. هيرزي يثير سؤالين مهمين. من الذي يستطيع أن يقود الطريق نحو سن التغييرات الضرورية؟ وكيف يمكن تحقيق هذه التغييرات في مناخ سياسي غير ملائم؟

غير أني أود أن أوضح مسألة واحدة قبل أن أجيب عن تلك الأسئلة. وصف هيرزي المواقف التي عبرت عنها في هذه المائدة المستديرة بأنها تنسجم مع نموذج "الاقتصاد الأخضر" والذي يتبناه، على سبيل المثال، برنامج الأمم المتحدة للبيئة. في الحقيقة أنا من منتقدي نموذج الاقتصاد الأخضر. إذ إنه لا يتصدى على نحو كافٍ لهيمنة رأس المال الخاص والدولة القومية. إنه يُبقي التركيز على النمو الاقتصادي بدلا من التركيز على تراجع النمو الجذري. كما لا يشدد نموذج الاقتصاد الأخضر على التمكين السياسي الكامل للأفراد والمجتمعات. ويعطي تأكيدا غير كافٍ للجوانب الثقافية والروحية للوجود الإنساني.  

وكما ناقشت في جلسات الاجتماع السابقة، تتركز آرائي على ديمقراطية بيئية جذرية تكون فيها المجتمعات هي موضع صناعة القرار، وتُعطى الأولوية للاستدامة البيئية والعدالة الاجتماعية، وتُلبى الاحتياجات الأساسية من خلال توطين الاقتصادات والخدمات الاجتماعية، ويكون هدف العولمة هو إقامة روابط اجتماعية وثقافية وسياسية بدلا من ضمان التدفق الحر لرأس المال. أنا لا أرغب في "إعادة تكوين الرأسمالية"، على حد تعبير هيرزي. بل، أود أن أرى تغييرات جوهرية في العلاقات الاقتصادية والسياسية بحيث يتم استبدال هيمنة رأس المال الخاص والدولة القومية بالتركيز على المجتمعات والجماعات.

لكن بالعودة إلى أسئلة هيرزي، أود أن أحدد خمس قوى والتي بإمكانها أن تتيح للإنسانية إعادة هيكلة أنشطتها نحو الإنصاف والاستدامة. القوة الأولى هى مقاومة المجتمع المدني. في السنوات الأخيرة شهدت عديد من الدول، من بينها الهند، نموا في الحركات الجماهيرية المعارضة لمشاريع التنمية المدمِرة. نشأت هذه الحركات في الغالب من مجتمعات النازحين أو المطرودين، واكتسبت دعم جماعات المجتمع المدني. المقاومة من هذا النوع هي عنصر حاسم في التحول إلى مستقبل مستدام.  

القوة الثانية هى سن الإصلاحات التقدمية التي تدعو إليها جماعات المجتمع المدني أو التي يطلقها الأفراد داخل الدولة. حركة ألمانيا تجاه الطاقة المتجددة والتعديلات الدستورية والقانونية التي أجرتها الاكوادور وبوليفيا— يمكن لهذه التطورات وما شابهها أن تعطي الأولوية للاستدامة والإنصاف والحكم اللامركزي وتجعل الدول أكثر عرضة للمساءلة. بالإضافة إلى ذلك، تقوم عدد من الدول بتنفيذ أو دراسة إجراء إصلاحات في السياسات المالية والاقتصاد الكلي. يشمل ذلك الحد من التفاوت في الدخل، ودعم الممارسات المستدامة بيئيا بدلا من الممارسات المدمِرة بيئيا، وإقامة هياكل ضريبية تعكس القيمة الحقيقية للموارد الطبيعية التي يستخدمها المستهلكون في المناطق الحضرية والصناعية.  

القوة الثالثة هى ظهور مبادرات عملية نحو أشكال مستدامة ومنصفة للرفاهية. تُظهر آلاف البرامج من تلك النوعية، مثل مبادرات الغذاء المحلية التي تدعمها الجمعية الدولية للانصاف والثقافة، أنه من الممكن تلبية احتياجات البشر وتطلعاتهم على نحو مستدام ومنصف. هناك حاجة لإقامة مزيد من الروابط بين هذه المبادرات من أجل بناء تشكيلات سياسية قوية— سواء كانت تشكيلات حزبية أو غير حزبية.  

القوة الرابعة هى نوع من الابتكار التقني والذي لا يجعل فقط حياة البشر أقل كآبة ولكن أيضا يجعلها أكثر حساسية من الناحية البيئية. يمكن أن تظهر هذه الابتكارات، التي غالبا ما تندرج تحت مسمى التقنية الملائمة، في الإنتاج الصناعي والزراعي أوالطاقة أوالإسكان أوالبناء أوالنقل أو الأجهزة المنزلية. هناك أيضا استحسان متزايد بأن التقنيات التقليدية، على سبيل المثال التي تستخدم في الزراعة والمنسوجات، لا تزال ملائمة لعالم اليوم. إن الدول النامية لديها فرصة غير مسبوقة للقفز نحو الاقتصادات القائمة على مزيج من التقنيات الجديدة والتقليدية.

أخيرا، ارتفعت التوعية البيئية بشكل هائل على مدى العقدين أو الثلاثة عقود الماضية (حتى لو كانت هذه التوعية لا تزال منخفضة بين صانعي القرار والنخبة رجال الأعمال). يمكن أن تساعد حملة ضخمة لزيادة التوعية بالأزمات البيئية التي تواجهها البشرية— فضلا عن جهد كبير لبناء القدرات التي سوف تسمح بانتشار حلول مجدية—في نجاح التحول إلى الاستدامة والإنصاف.

إن التحول جارٍ بالفعل. تكتسب الحركات الشعبية والعمالية قوة في بعض أجزاء العالم (على الرغم من استمرار هيمنة قوى عدم الاستدامة وعدم المساواة في الوقت الراهن). في أي عملية تحول، تميل الخطوات الأولى إلى أن تكون متواضعة والكفاح طويلا ومؤلما والحاجة إلى المثابرة هائلة. لكني أعتقد أنه على مدى الجيلين أو الثلاثة أجيال القادمة، سوف يشهد العالم تقدما هائلا نحو تحقيق ديمقراطية بيئية جذرية.

مَن يستطيع القيادة؟

إن علاقة البشر المعقدة والمشكلة بالطبيعة تزداد فقط تعقيدا وإشكالا. لقد تحول حقا إجتماع المائدة المستديرة هذا، والذي بدأ كنقاش حول كيفية تلبية احتياجات الطاقة وأهداف التنمية بينما يتم أيضا تحقيق مستويات عالية من التوقعات البيئية العامة، إلى نقاش أوسع حول ما الذي يجب أن يفعله البشر لإعادة تأسيس علاقة متناغمة مع الطبيعة. استعرض زملائي العديد من الأفكار التي، إذا تم تنفيذها، ربما تحقق ذلك على النحو المطلوب. لكن المشكلة هي، كما هو الحال غالبا في الأمور السياسية، كيف يمكن تحويل هذه الأفكار إلى واقع ملموس.

أيدت تشانتشوم سانجاراسري جريسين مجموعة من الإصلاحات الإقتصادية بما في ذلك التوطين وإعادة التوزيع—كما ناقشت باستفاضة مسائل منها ماهية الحياة الرغدة وما الذي يجب أن يطمح إليه البشر عند قيامهم ببناء اقتصادياتهم ومجتمعاتهم. إن أفكار جريسين تنسجم بشكل كبير مع حركة ناشئة تعرف باسم الاقتصاد الاجتماعي والتضامني يُعرف "معهد الأمم المتحدة لبحوث التنمية الاجتماعية" الاقتصاد الاجتماعي والتضامني بأنه يتكون من "منظمات مثل التعاونيات والجماعات النسائية للمساعدة الذاتية والمشاريع الاجتماعية ورابطات العمال غير الرسميين التي لها أهداف اجتماعية واقتصادية واضحة وتتضمن مختلف أشكال التعاون والتضامن". إن نقد تركيز الرأسمالية على التراكم اللانهائي للأموال وكذلك البحث عن القيم التي يمكن أن تدعم أشكالا بديلة للتنمية هي من المبادئ المتأصلة في هذه الحركة.

أكد أشيش كوثري، في الوقت نفسه، على الحدود الأيكولوجية للأرض وخطر قيام البشرية بكسر تلك الحدود من خلال النشاط الاقتصادي المفرط. كان الحل الذي اقترحه هو تراجع انتقائي للنمو اقتصادي: حيث يرى كوثري أن الشعوب في شمال الكرة الأرضية والأثرياء في الدول الفقيرة "يجب أن يقلصوا بشكل كبير من بصماتهم على البيئة واعتماد أساليب الحياة المستدامة". سيتم تلبيتة جزء من احتياجات الفقراء الأساسية من خلال إعادة التوزيع الاقتصادي. هذا، إلى حد كبير، هو نموذج الاقتصاد الأخضر الذي، من خلال تأكيده على تنمية شاملة اجتماعيا ذات كفاءة في استخدام الموارد ومنخفضة الكربون، اجتذب اهتماما متزايدا في السنوات الأخيرة منذ بداية الأزمة المالية العالمية.

جريسين وكوثري قدما رؤى تقدمية والتي يقيد الواقع السياسي من فرص تنفيذها. إن أي إعادة تنظيم كبرى للأسواق والمؤسسات والأنظمة والقواعد وإجراءات اتخاذ القرارات، مثل التي تتطلبها رؤى زملائي، يستلزم تفويضا شعبيا. لا يوجد مثل هذا التفويض اليوم. وبشكل أكثر تحديدا، من الصعب أن تُسن دائما التغيرات التي تمس الطاقة لأن الطاقة ليست مجالا سياسا عاديا. بل هي شريان الحياة للاقتصادات. تقوم دول مثل اليابان وأستراليا وكندا، بدلا من تبني تغييرات تدريجية شاملة والتي ينادي بها جريسين وكوثري، بالتراجع عن تعهداتها بتخفيض انبعاثاتها إن عامّة الناس في معظم الدول المتقدمة يشعرون بالازدواجية حول تغير المناخ، والذي يرونه بعيدا كل البعد عن حياتهم، وتعكس سياسات حكوماتهم هذه الازدواجية.

ما يحتاجه العالم على وجه السرعة هو نموذج واقعي للسياسات الخضراء المزدهرة. ولكن من الذي يمكنه خلق مثل هذا النموذج؟ من الذي يمكنه أن يوفر القيادة اللازمة لتحقيق الاستدامة لكوكب الأرض؟

إن الأمل يكمن في المواطنين المثقفين والمنشغلين بهذا الأمر. هم فقط مَن لديهم القدرة على إعادة تكوين الرأسمالية؛ هم فقط مَن يمكنهم تبني التغييرات التحويلية التي تتطلبها الاستدامة البيئية.

تصوّر الحياة من جديد

اتفقت أنا وعدنان هيزري وأشيش كوثري على نقطة واحدة على الأقل: وهي أن تغير المناخ يشكل تهديدا هائلا للبشرية. لكن كثير من الناس، وأنا منهم، يجدون صعوبة في مواجهة ما يتطلبه منهم علم المناخ— وهو صعوبة تخيل وتبني تغييرات جذرية في الاقتصادات وأنماط الاستهلاك والنظم السياسية والتي لابد من اتخاذها إذا أردنا تخفيض انبعاثات غازات الدفيئة بما فيه الكفاية (لكن مع تلبية الاحتياجات الأساسية لفقراء العالم).

لماذا يفشل التخيل في هذا الصدد؟ تم اقتراح أحد الأسباب الرئيسية في الفقرة الأخيرة من مقال هيرزي في جلسة الاجتماع الثانية. قال هيرزي إن " تراجع النمو الاقتصادي هو هدف بيئي متطرف من شأنه أن يمنع المجتمعات من الازدهار" وأنه "يجب أن يقبل مناصرو حماية البيئة أن الحياة خلقت من أجل العيش". يقر هيرزي بأنه يجب تخفيض انبعاثات الكربون— لكن الازدهار والنمو الاقتصادي، وفقا لتصوره، غير قابلين لأن تنتهك حرمتهما. وأي تهديد لهما فهو تهديد بأن يجعل الحياة لا تستحق العيش.

تواجد الإنسان الحديث على الأرض منذ حوالي 200 ألف سنة. بدأ الوقود الأحفوري ثورة الإنتاج الصناعي خلال الـ200 سنة الماضية أو نحوا من ذلك. ومن اللافت للنظر أنه في مثل هذه الفترة الوجيزة أصبح الوقود الأحفوري مرتبطا بالحياة البشرية لدرجة أن كثير من الناس لا يمكنهم تصور وجود أحدهما بدون الآخر. عملت صناعة النفط (كما بيّن ماثيو هوبر، أستاذ الجغرافيا بجامعة سيراكيوز) على تذكير الأمريكيين بأن المنتجات النفطية تشبع احتياجاتهم الحياتية وقد حاولت هذه الصناعة تشكيل السياسة الثقافية في الولايات المتحدة نحو القيم الليبرالية الجديدة مثل الخصخصة والفردية وحرية الاختيار. أصبح النفط الأساس المادي والحيوي لتطلعات الشعب نحو امتلاك المنازل والسيارات ونمط حياة الأعمال التجارية وحتى الأسرة النووية. اليوم، يبدو أنه من غير الممكن تصوّر نجاح وثراء النموذج الأمريكي الأسطوري، المتمثل في الفرد العصامي، بدون البترول والاقتصاد القائم على النفط. نجحت صناعة النفط في المساواة بين الاعتراض على استهلاك النفط غير المحدود وبين الاعتراض على المثل الوطنية العزيزة. للأسف، لا تقتصر هذه الرؤية المغوية للحياة الرغدة على الولايات المتحدة فحسب. إذ تبنى كثير من الذين ينتمون أو يطمحون إلى الانتماء إلى الطبقة المتوسطة في الدول النامية هذه الرؤية المستوردة.

لمعالجة تحديات تغير المناخ ووصول الطاقة إلى الفقراء بشكل ملائم، فمن الضروري أن ندرك أن نموذج الحياة الليبرالية الجديدة، مع تركيزه على التقدم الفردي الأناني، يخلق عددا من الظروف غير المرغوب فيها. يشمل ذلك الدمار الكوكبي والاجتماعي والعزلة والسخط وبيئة تنافسية عنيفة. لحسن الحظ— كما جادل داتشر كيلتنر، العالم النفسي بجامعة كاليفورنيا- بيركلي— أن البشر مفطورون على الحنان والعطف والشفقة الرؤى الصحية للحياة الرغدة— وهي رؤى تؤكد على قيم الحب والمشاركة والتكافل والتراحم والسخاء—قد اعتزت بها ثقافات عديدة في معظم تاريخ البشرية. يجب رعاية هذه الرؤى والقيم كى تبقى وأن تصبح بمثابة ثقل موازن للقول السائد "البقاء للأصلح".   

إن الكلام عن تحقيق ذلك سيكون بالطبع أسهل من تنفيذه. بالنسبة للعديد من الأشخاص، في الدول النامية والمتقدمة على حد سواء، يمكن للوزن الساحق لاقتصادات وسياسات الليبرالية الجديدة أن يجعل من الصعوبة بمكان إعادة تصور السلوكيات تجاه الحياة والسعي نحو مثل جديدة وفقا لذلك التصور. هذا هو السبب في أنه يجب أن تكون حلول المناخ، مثل ضريبة الكربون، مصحوبة ببرامج شبكات الأمان التي تلبي احتياجات ومخاوف الضعفاء.

البشر هم كائنات اجتماعية ترغب بشدة في التعاطف والتواصل والشعور بالانتماء إلى شيء أكبر من أنفسهم. من خلال العمل على هذه الرغبة، يمكن للناس إطلاق العنان لتعاطفهم وإبداعهم وبراعتهم. توفر هذه الصفات كل ما هو مطلوب، حتى في عالم من الموارد المحدودة، من أجل أن تقوم الإنسانية بشق طريق صحي ورعاية جميع الكائنات الحية ومداواة هذا الكوكب. عندما تصبح قيم الشعوب والمجتمعات والاقتصادات في وئام مع الطبيعة، عندئذ سوف يشعر البشر بتحقق المعيشة الرغدة.


Share: [addthis tool="addthis_inline_share_toolbox_w1sw"]