هل يمكن حظر الأسلحة النووية؟

بعد عقود من إلزام عديد من الدول الحائزة للأسلحة النووية أنفسها بتبني نزع السلاح "بحسن نية" و "في وقت مبكر"، يتزايد الإحباط تجاه وتيرة سير نزع السلاح بشكل أكثر وضوحا. على سبيل المثال، بدأت تظهر دعوات لوضع معاهدة لحظر الأسلحة النووية، تجعل بشكل أساسي الدول المسلحة نوويا خارجة عن القانون. فيما يلي، يتناول كتّاب من المكسيك والهند وتشيلي الإجابة عن هذا السؤال: كيف ستتأثر فرص نزع السلاح إذا قامت الدول غير النووية بوضع معاهدة لحظر الأسلحة النووية بشكل كامل— وكيف يمكن تنفيذ مثل هذه المعاهدة؟

Round 1

ما القوة التي تملكها الدول غير النووية؟

أحد التعريفات المعجمية لكلمة "راديكالي "هو "اتخاذ تدابير متطرفة للاحتفاظ بحالة سياسية معينة" . هذا التعريف يصف بدقة سلوك الدول المسلحة نوويا. إذ تعتمد هذه الدول على قدراتها النووية كمحور أساسي لوضعها الاستراتيجي وتمارس الراديكالية النووية لضمان مدى استمرار قدراتها على الاعتماد على الأسلحة النووية. من ناحية أخرى، المثاليون النوويون— الذين يضمون العديد، وليس كل، من الدول غير الحائزة للأسلحة النووية— يعتبرون نزع السلاح حتمية أمنية ملحة وأولوية أخلاقية هامة. وسوف يبقى الراديكاليون والمثاليون دائما على طرفي نقيض، ويبدو أن تحقيق أهداف نزع السلاح لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية أصبحت حلما بعيد المنال.

لقد تعاون كلا المعسكرين، برغم التوترات المتأصلة بداخلهم تجاه بعضهم، لتطوير آليات سياسية وتقنية لمراقبة وإدارة التقنيات النووية. وقد حققت هذه الهندسة المعمارية العالمية الكثير في مجال منع انتشار الأسلحة النووية، وفي مجال السلامة والأمن النووي، وحتى في تخفيض مخزونات الأسلحة—لكنها عجزت عن تحقيق نزع كامل للسلاح. وقد يكون أسوأ من ذلك، أنها حددت بقسوة الدور الذي يمكن أن تقوم به الدول غير النووية في "السياسات النووية الحقيقية " المتعلقة بالمفاوضات الرامية لنزع السلاح العام. لطالما كانت، ولا تزال، العلاقات بين الدول النووية والدول غير النووية غير متماثلة تماما.

لقد فقدت الدول غير الحائزة للأسلحة النووية أكبر فرصها لتصحيح عدم التماثل هذا في عام 1995، وهو العام الذي تم تمديد معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية إلى أجل غير مسمى— في الواقع كان تمديد المعاهدة هو العنصر الوحيد الأكثر أهمية في المفاوضات التي أحاطت بالمؤتمر الاستعراضي لمعاهدة عدم الانتشار لعام 1995. كانت الدول غير النووية تمتلك حينها نفوذا، وربما كان بإمكانها استخدامها لفرض إجراء تحسينات على المادة السادسة من المعاهدة، والتي تتطلب من الدول مواصلة المفاوضات الرامية لنزع السلاح بحسن نية وفى وقت مبكر . لكن المادة السادسة ظلت دون تغيير— إذ بقيت معيبة كما كانت دائما. منذ ذلك الحين، والدول غير الحائزة للأسلحة النووية لديها دافع يجعلها تستذكر بتحسر عام 1995.

هل يمكن للدول غير النووية، بعد أن فشلت في الاستفادة من نفوذها في ذلك الحين، أن تلعب دورا جادا في نزع السلاح؟ هل يمكنها أن تضغط بطريقة مجدية على الدول المسلحة نوويا كي تنزع سلاحها— أو حتى تجبرها على القيام بذلك؟

ثمة شيء واحد مؤكد: يبدو أن صبر الدول غير النووية بدأ ينفد تجاه قنوات نزع السلاح القائمة. ومن الأمثلة على ذلك، الدعوى التي رفعتها جزر مارشال هذا العام في محكمة العدل الدولية ضد الدول المسلحة نوويا، بسبب فشلها في نزع أسلحتها. مشكلة الدعوى تكمن في أنه حتى لو حكمت المحكمة لصالح جزر مارشال، فإنه لن تكون هناك وسيلة لتنفيذ حكمها. وحتى لو تم فرض عقوبات من نوع ما على الراديكاليين النوويين، فإنهم على الأرجح سيعتبرون العقوبات غير ذي صلة بعملية نزع السلاح.

إن المطلوب ليس إجراءات قانونية، وإنما إجراءات سياسية. فمن خلال السياسة فقط يمكن للدول غير النووية أن تأمل في معالجة عدم التماثل الذي يميز علاقاتها مع الدول المسلحة نوويا.

أحد الطرق لمحاربة عدم التماثل قد يكمن في إنشاء منطقة عالمية خالية من الأسلحة النووية. هناك مساحات شاسعة من العالم—أفريقيا وآسيا الوسطى وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي ومنغوليا وجنوب شرق آسيا وجنوب المحيط الهادئ— هي بالفعل مناطق خالية من الأسلحة النووية. إذا تجمعت هذه المناطق معا، وشجعت على إنشاء مناطق جديدة في أماكن أخرى، فإن النتيجة ستكون كتلة سياسية جديدة كبيرة جدا، وحتى لو لم تتمكن من إجبار الدول المسلحة نوويا على الاستغناء عن أسلحتها، يمكنها على الأقل الانخراط في حوار معها على أساس أكثر مساواة. وبالمثل، يمكن للدول غير النووية الشروع في عملية تعديل المادة السادسة من معاهدة حظر الانتشار النووي لجعلها أكثر صرامة وأكثر تحديدا. قد تتطلب اللغة الجديدة أنه "بعد خمسة وعشرين عاما من تاريخ تمديد المعاهدة إلى أجل غير مسمى، سوف يعقد مؤتمر لتأسيس عملية واضحة لإجمالي نزع السلاح النووي بجدول زمني محدد".

ولكن بعد القيام بكل ذلك، كيف ستتحكم الدول غير النووية في عملية نزع السلاح؟ وكيف سيمكنها إجبار الدول المسلحة نوويا على القضاء على ترساناتها؟ في الحقيقة، الاحتمالات منخفضة في كلتا الحالتين. إن الدول المسلحة نوويا تتمتع بقوة غير متماثلة مقارنة بالدول الأخرى، وتغيير سلوكها سيكون صعبا للغاية .

حظر الأسلحة النووية: ممارسة جوفاء

منذ حوالي 300 سنة، سخر جوناثان سويفت في روايته رحلات جليفر، من المثقفين والعلماء والفنيين والعاملين غير البارعين في عصره، كما سخر أيضا من اهتماماتهم الباطنية الغامضة. فقد اكتشف جليفر في أكاديمية لاجادو الخيالية مكانا حاول فيه أصحاب المقام الرفيع تقطير أشعة الشمس من الخيار وتربية حملان لا تنتج الصوف وزراعة الأرض بالقشر بدلا من الحبوب. كما وجد جليفر مهندسا معماريا حاول بناء منازل "تبدأ ببناء السقف أولا، ثم إتمام البناء نزولا إلى الأساس". إن محاولة المهندس المعماري تحمل تشابها حقيقيا للمحاولات التي تقوم بها اليوم الدول غير الحائزة للأسلحة النووية لوضع معاهدة لحظر الأسلحة النووية.

إن جميع الدول الستة الرائدة المسلحة نوويا— الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا والمملكة المتحدة والهند— يصنفون من بين أفضل 10 دول في العالم حسب الناتج المحلي الإجمالي. وتمثل هذه الدول معا نحو 45 في المئة من النشاط الاقتصادي العالمي. هل يعتقد المرء بأن أقوى ستة دول في العالم، من المنظور الاقتصادي والعسكري— والتي تتحكم بأقوى أنواع السلطة القسرية— من شأنها أن تنزعج إذا دخلت دول لا تتمتع بقدر كبير من النفوذ العالمي في معاهدة تُجرّم الأسلحة النووية؟ ولا سيما إذا قدمت كوريا الشمالية وباكستان— وهما أكثر دولتين من بين الدول المسلحة نوويا لا يمكن التنبؤ بتصرفاتهما فضلا عن كونهما ضعيفتين اجتماعيا وغير مستقرتين سياسيا—أسبابا مقنعة للدول الستة للاحتفاظ بقواتها النووية وزيادتها وتحديثها؟

في عصر كثر فيه الشك والريبة، تميل مبادرات نزع السلاح إلى إحداث تأثير قليل. إن المؤتمر الثاني حول الآثار الإنسانية للأسلحة النووية، الذي عقد في المكسيك في شهر فبراير، لم يكن سوى خبر عابر في الأنباء. إن الدعوى القضائية التي أقامتها جزر مارشال  ضد الدول المسلحة نوويا في محكمة العدل الدولية تبدو مجرد حب استطلاع من قبل الآخرين، إذ هي أمر يهتم به فقط الخبراء في مجال نزع السلاح ومنع انتشار الأسلحة النووية. إن أي معاهدة لحظر الأسلحة النووية يمكن تجاهلها على نحو مماثل. لأنها سوف تسير عكس اتجاه النظام الدولي— القائم على سياسة القوة، حيث يؤدي الثقل الاقتصادي والقوة العسكرية إلى موازنة الأمور في الواقع.

علاوة على ذلك، فإن العديد من الدول التي قد تحبذ وضع معاهدة لحظر الأسلحة النووية، بما في ذلك الدول الإسكندنافية وبعض "تنانين" شرق وجنوب شرق آسيا، تعتمد في أمنها الشامل على الرادع النووي الأمريكي الذي ستسعى مثل هذه المعاهدة إلى إلغائه. ولذا تتمتع هذه الدول بمصداقية قليلة عندما يتعلق الأمر بوضع معاهدة— لكن في نفس الوقت، إذا تم استبعاد هذه الدول المزدهرة من أي معاهدة تمهيدية، فإن المبادرة ستأخذ أهمية أقل مما هى عليه بالفعل.

إن التهديد بالعقوبات الاقتصادية والتقنية، وليس الحجج الأخلاقية، يحمل الدول على قبول معايير منع الانتشار النووي ونزع السلاح. وبالتالي فإن أقوى الدول— الدول المعترف بها كدول حائزة للأسلحة النووية بموجب معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية— هى التي تنفذ أساسا قيود المعاهدة. وقد اضطرت إيران لتقديم تنازلات بشأن برنامجها النووي، وأن تتوقف عند عتبة تصنيع الأسلحة، وذلك لأن الدول القوية مثل الولايات المتحدة نفذت عقوبات واستخدمت أدوات ضغط متاحة في إطار نظام حظر الانتشار العالمي. (ومن المناسب هنا أيضا التنويه بأن إيران تريد أن تكون جزءا من التيار الدولي السائد، بعكس زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ-أون).

إذا وضعت معاهدة لحظر الأسلحة النووية، ما الذي يجبر الدول المسلحة نوويا على الامتثال لها؟ إنه الإقناع الأخلاقي فقط. قد يكون ذلك صحيحا في السنوات الأولى من الحرب الباردة، كما هو الحال عندما استغل رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو بذكاء مسألة نزع السلاح لوضع القوى العظمى في موقف دفاعي أخلاقي وكغطاء سياسي "ذات وجهين" لطموحاته النووية. لكن الحجج الأخلاقية لا تهم كثيرا اليوم. لذا نرى اليابان، التي لها باع طويل في مواجهة نزع السلاح، تقوم بإعادة تفسير "دستور السلام"، حتى يمكن لجيشها أن يلعب دورا موسعا. واعتمادا على حسابات طوكيو الاستراتيجية وتصرفات منافستها الصين، فقد تقرر اليابان امتلاك أسلحة نووية. لذلك تتشكل الحسابات الاستراتيجية للدول على نطاق محدود فقط من خلال مفاهيم الخير للجميع.

فكرة أفضل. سوف يوضع الأساس لتحقيق "الصفر العالمي" وستقام ركائز منظمة لنزع السلاح، فقط عندما تقوم الولايات المتحدة وروسيا، في ظل نظام دولي يمكن التحقق منه، باعدام الأسلحة النووية من قوائم مخزوناتهما بمعدل أسرع بكثير مما تقومان به حاليا. لكن هناك شيء آخر يمكن أن تقوم به الدول المسلحة نوويا حاليا من أجل الاقتراب إلى خط بداية نزع السلاح: وضع اتفاقية، على النحو الذي دعت إليه الهند، تقضي بعدم الاستخدام الأول للأسلحة النووية. إن معظم الدول المسلحة نوويا لن تخسر شيئا جرّاء الموافقة على هذه الاتفاقية— إذ تزعم هذه الدول أنها بالفعل تتحلى بالعقلانية والمنطقية أو تتنصل تماما من عدم الاستخدام الأول للأسلحة النووية أو تتنصل منه باستثناء الطوارئ القصوى.

لا تحتوي العقيدة النووية الباكستانية على أي شرط يقضي بعدم الاستخدام الأول للأسلحة النووية. وعلى الرغم من أن كوريا الشمالية قد سنت قانونا يحتوي على عبارات تشبه سياسة عدم الاستخدام الأول، فإنها تقوم بتصرفات وتطلق لغة خطاب تميل إلى تقويض أي ضمان بعدم الاستخدام الأول. لكن حتى الدول التي تتبنى فلسفة الاستخدام الأول من أجل تخويف دول أخرى يفترض أنها تهدد وجودها يمكن أن توقع على اتفاقية تقضي بعدم الاستخدام الأول— بشرط أن توقع القوى النووية الرئيسية الستة أولا.

أن وضع مثل هذه الاتفاقية تساعد على بناء الثقة في جدوى الجهود الرامية إلى تحقيق نزع السلاح الكامل. ورغم ذلك، يشير تاريخ التسلح إلى أن الدول سوف تتخلص من الأسلحة النووية فقط عندما يكون هناك أسلحة أكثر فتكا تحل محلها. في الوقت الراهن، فإن أي معاهدة لحظر الأسلحة النووية ستكون معاهدة رمزية فارغة— بمثابة ممارسة جوفاء تؤديها الدول الأقل قوة والتي قد تسعى إلى معادلة الملعب الاستراتيجي في العالم. ستكون المعاهدة بمثابة وخزة أخرى للضمير الإنساني.

فرض الحظر ومنع الاستحواذ على المعاهدة

يبدو النظام الدولي غير مستقر على نحو متزايد في هذه السنوات الأولى من القرن الـ 21 . كما تظهر العلاقات بين موسكو وواشنطن تجددا للتوترات بينهما. ويبدو أن الشرق الأوسط يتجه ليكون منطقة صراع كبيرة. بعض المناطق في العالم، بما في ذلك المنطقة التي أنتمي إليها وهي أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، تتعرض للعنف على نطاق واسع خارج سياق النزاعات المسلحة التقليدية، ويرجع ذلك جزئيا إلى الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية وانتشار الأسلحة الصغيرة والأسلحة الخفيفة. وفي الوقت نفسه، عدم المساواة في الدخل العالمي تقف عند مستويات مرتفعة جدا. في عالم مثل هذا، فإن الاحتفاظ بترسانات الأسلحة النووية هو ببساطة أمر غير آمن.

على مدى العقود العديدة الماضية، أحرزت الحركة ضد الأسلحة النووية بعض النجاحات—لكنها مُنيت أيضا ببعض الإخفاقات. وقد تحققت معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية من انتشار تقنية الأسلحة (حتى وإن كانت كوريا الشمالية قد انضمت للنادي النووي في السنوات الأخيرة) لكنها لم تحقق نفس القدر في مجال نزع السلاح. إن الآمال في إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في منطقة الشرق الأوسط بدأت تتلاشى. ولم يسفر مؤتمر نزع السلاح عن شيء تقريبا منذ حقبة التسعينات. بوجه عام، لم تحقق آليات نزع السلاح القائمة المبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة—على سبيل المثال، مسؤولية منع الحرب والحفاظ على حقوق الإنسان الأساسية .

ثمة طريقة واعدة للمضي قدما هى "المبادرة الإنسانية " ، وهى محاولة جديدة لنزع السلاح تتمحور حول سلسلة من المؤتمرات بشأن الآثار الإنسانية للأسلحة النووية. ) استضافت النرويج المؤتمر الأول، في عام 2013؛ والمكسيك المؤتمر الثاني في فبراير الماضي، وسوف تستضيف النمسا المؤتمر الثالث في ديسمبر القادم). وتسعى المبادرة إلى إبراز أهمية حقيقتين: أن مجرد وجود الأسلحة النووية يهدد أمن الدول والشعوب في جميع أنحاء العالم، وأنه لا توجد دولة على استعداد للاستجابة للأزمة الإنسانية التي سيحدثها أي تفجير نووي (حتى وإن وقع التفجير ضمن نطاق صراع إقليمي محدود). تسعى المبادرة أيضا إلى معالجة الضجيج المحيط بنزع السلاح النووي—جميع الأحاديث عن خفض المخزونات تدريجيا، أو معالجة أوجه القصور في المعاهدات القائمة، أو الحصول على تأكيدات من الدول المسلحة نوويا بأنها لن تكون أول من يستخدم الأسلحة النووية. تولد المبادرة الإنسانية أملا مسوغا بأنه ستوضع معاهدة تحظر الأسلحة النووية تماما.

تتضمن المبادرة الجهات الفاعلة والنهج وأفكارا من جهود سابقة لاقت نجاحا إلى حد كبير للقضاء على الألغام الأرضية المضادة للأفراد والذخائر العنقودية— وهما نوعان من الأسلحة التي تحصد أرواح الناس دون داع وتكلفهم سبل عيشهم. إن معاهدة حظر الألغام لعام 1997 واتفاقية بشأن الذخائر العنقودية عام 2008 ربما لم يحققا عضوية عالمية حتى الآن— إذ لا تزال الولايات المتحدة وروسيا والصين، إضافة إلى دول أخرى، خارج هذه الصكوك— لكن الألغام الأرضية المضادة للأفراد تم وصمها وينطبق الشيء نفسه بشكل متزايد على الذخائر العنقودية. التجارة الدولية لهذه الأسلحة قد انهارت فعليا، كما يوجد حظر فعلي على استخدامها. هذه الجهود للقضاء على الأسلحة ارتكزت على أعمال سابقة في الحد من الأسلحة النووية، والتي كبحت الانتشار، وحظرت الأسلحة النووية من عدة مناطق، وأوقفت التجارب النووية بالكامل تقريبا. ورغم ذلك، فإن الحركة السائدة حاليا لنزع السلاح النووي فقدت زخمها، وبالتالي فإن المبادرة الإنسانية تحاول تنشيط العملية— نأخذ عمليات أوتاوا وأوسلو بشأن الألغام الأرضية المضادة للأفراد والذخائر العنقودية كسوابق قريبة. من حيث مبادئ السياسة الخارجية والممارسة والخبرة المتراكمة، فإن مختلف عمليات نزع السلاح تتشابك بشكل وثيق.

وقد ساندت العديد من الدول المبادرة الإنسانية، وكذلك العديد من الوكالات الحكومية الدولية ومنظمات المجتمع المدني. لكن هل ستؤدي المبادرة في الواقع إلى عملية دبلوماسية رسمية؟ هل ستتوج بوضع معاهدة توسع نطاق نزع السلاح وراء حدوده الحالية— ربما معاهدة تحظر الأسلحة النووية تماما؟ هذه أسئلة صعبة.

إن مواقف الدول بشأن حظر الأسلحة النووية لن تكون منفصلة عن مبادئ سياساتها الخارجية وأولوياتها الأوسع نطاقا. وبالتالي، ليس كل الدول التي تسعى للحصول على صك ملزم قانونا لحظر الأسلحة النووية لها نفس الحد السياسي من المناورة. هندوراس، على سبيل المثال، هى جزء من المنطقة الخالية من الأسلحة النووية في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي . إنها تؤيد إعلانا بشأن نزع السلاح صدر في عام 2013 من قبل مجموعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي. إنها تشارك في المبادرة الإنسانية . لكنها أيضا دولة تأتي في المرتبة 120  من أصل 186 دولة حسب مؤشر التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وفي الوقت نفسه، أكبر شريك تجاري لهندوراس هى الولايات المتحدة، والتي تمتلك "ما يقدر بـ 4,650 من الرؤوس الحربية النووية المعدّة للإطلاق بواسطة أكثر من 800 من الصواريخ الباليستية والطائرات". كيف سيؤثر اعتماد هندوراس الاقتصادي على الولايات المتحدة على سلوكها في العملية الدبلوماسية لحظر الأسلحة النووية؟

سوف تنجح المبادرة الإنسانية فقط إذا شكلت الدول التي تدعمها جبهة موحدة. وهذا يعني أن الدول التي في طليعة هذه المبادرة ينبغي أن تضع نفسها على أنها مجموعة أساسية من "الأبطال " ، إذا جاز التعبير. وينبغي أن تشمل هذه المجموعة ممثلين من مناطق متنوعة، ولكن في نفس الوقت يجب أن تظل المجموعة محدودة بما يكفي للسماح للعقليات المتشابهة في صياغة الاستراتيجية. ان مثل هذه المجموعة ستسمح بتأسيس مواقف إقليمية بشأن معاهدة لحظر الأسلحة— مع اعتبار أنه، بينما تلقي منطقة تلو الأخرى دعمها وراء هذا الحظر، سيزداد الضغط على الدول المسلحة نوويا للمشاركة في عملية المعاهدة. (حركة عدم الانحياز، والتي تحتوي على الغالبية العظمى من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، يمكن أن تلعب دورا رئيسيا في هذا المجال).

لن تكون العملية منفصلة عن الأنشطة الأخرى في مجال نزع السلاح والأمن الدولي، أو عن السياسة الخارجية بشكل عام، وبالتالي فلن يكون التقدم بسيطا أو معتدلا. وهذا يعني أنه لن يكون هناك غنى عن الصبر والمنظور التاريخي. ولكن عندما تحين اللحظة، يمكن أن تتطور المبادرة الإنسانية إلى نقاش كبير داخل المحافل السياسية— على أمل أن يؤدي ذلك إلى عملية دبلوماسية رسمية نحو وضع معاهدة لحظر الأسلحة.

في أي حال، حتى قبل أن يتم بدأ هذه العملية، يجب تحليل آليات الإنفاذ ومناقشتها . ويجب أن تشمل الآليات معايير مشتركة وقابلة للقياس بشأن ما يستتبع كنتيجة لحظر ونزع السلاح؛ هياكل للتعاون الدولي والمساعدة؛ جدول زمني وميزانية؛ وهيئة مشرفة تتمتع بصلاحيات مناسبة. ستكون هناك حاجة لقاعدة مؤسسية قوية إذا أريد القضاء على الأسلحة المحظورة—ومنعها من الظهور مجددا في العقود القادمة.

إذا لم تعالج مثل هذه الآليات بشكل صحيح قبل إطلاق أية عملية دبلوماسية، ربما "تستحوذ" الدول المسلحة نوويا على أي معاهدة تنتج عن ذلك. إذا جاءت الدول إلى طاولة المفاوضات حاملة العموميات والوعود فقط، فإن بعض الدول ستقوم لا محالة بعرقلة التقدم نحو معاهدة دولية قوية ذات مغزى وطويلة الأمد، أو تقوم بإضعاف أي صك ينبثق عن ذلك. إن أي مناقشة غير متبلورة ستصب فقط في صالح أصحاب الوضع الراهن . ولن ينتج عنها سوى معاهدة رمزية.

من شرق وجنوب آسيا إلى شرق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود، يمكن أن تتصاعد التوترات الجيوسياسية القائمة في أي وقت إلى نزاع مسلح واسع النطاق يشمل الدول المسلحة نوويا. في ظل هذه الظروف، أليس بإمكان البشر وضع معاهدة قوية قابلة للتنفيذ تقوم بحظر الأسلحة النووية بشكل تام؟

Round 2

الهروب من حوض السمك

ناقش الفيزيائيان ستيفن هوكينج وليونارد ملودينو في كتابهما "التصميم العظيم" الصادر عام 2010 قرار مجلس مدينة مونزا الإيطالية بشأن منع استخدام أحواض السمك المقوسة. حيث رأى المجلس أنه من القسوة إجبار السمك على رؤية الواقع بشكل مشوّه. لكن هوكينج وملودينو تساءلا كيف يمكن لأي شخص أن يكون متيقنا من أن رؤيته للواقع ليست مشوهة؟ زعم المؤلفان أن الواقع هو تشويه دائم. إذ الكيفية التي يبدو عليها تتوقف على الكيفية التي تراه بها.

يبدو أن المؤلفين في هذه المائدة المستديرة— بما فيهم بهارات كارناد الذي يعتقد أن فرص تحقيق نزع السلاح من خلال معاهدة لحظر الأسلحة النووية ضيئلة للغاية— متفقون على أن "الصفر النووي" هو هدف يستحق العناء. لكن ما هو المنظور الصحيح الذي يمكن من خلاله مراقبة واقع جهود نزع السلاح؟

ركّز هيكتور غيرا بشكل رئيسي على المبادرة الإنسانية— وهي محاولة تقودها الدول غير النووية والتي يعتقد غيرا بأنها سوف "تولد أملا مسوغا بأنه ستوضع معاهدة تحظر الأسلحة النووية تماما". في حين زعم كارناد بأنه سيتم وضع الأساس لنزع السلاح فقط عندما تقوم الولايات المتحدة وروسيا "باعدام الأسلحة النووية من قوائم مخزوناتهما بمعدل أسرع بكثير مما تقومان به حاليا"—لكن وضع اتفاقية لحظر الاستخدام الأول للأسلحة النووية، في الوقت الراهن، من شأنه أن "يُقرِّب [العالم] من خط بداية نزع السلاح". بعد ذلك، يعتبر كل من غيرا وكارناد السياسة هى المتغير الرئيسي في مجال نزع السلاح—لكن غيرا ينظر إلى السياسة بشكل رئيسي من جهة كونها "مبادئ السياسة الخارجية والممارسة و…الخبرة" في حين ينظر إليها كارناد بشكل رئيسي من جهة كونها "سياسة القوة". بمعنى أن غيرا يعتبر أن نزع السلاح عملية منشؤها من الأسفل، بينما يعتبرها كارناد شيئا يتم إملاؤه من الأعلى.

رأيي الشخصي هو أن الدول غير النووية لن تتفوق على الدول الحائزة للأسلحة النووية بشأن نزع سلاحها حتى تكون قادرة على ممارسة قدر أكبر من السلطة السياسية. وبالمثل، طالما أن الدول الحائزة للأسلحة النووية تحتفظ بالسلطة السياسية التي تتمتع بها حاليا، فإن تحقيق "الصفر" سيبقى مستبعدا للغاية. يبدو أن هذا يجعلني منحازا إلى كارناد أكثر من غيرا. لكنني في الحقيقة أختلف عن زميلىّ الإثنين في أنني أميل لرؤية القضايا النووية من الأعلى ومن الأسفل على حد سواء. ولا أعتقد أن نزع السلاح سوف يتحقق في أي وقت قريب— لكن استجابة لهذا الواقع المؤسف، أود أن أؤكد على أن الدول النووية وغير النووية يمكن أن تتخذ خطوات ملموسة للحد من التهديدات النووية.

إذ يمكن للدول غير الحائزة للأسلحة النووية، على سبيل المثال، أن تضغط بقوة أكبر لتحقيق عالمية الصكوك الحالية الخاصة بنزع السلاح وحظر الانتشار النووي مثل معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية ومعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية. ويمكن للدول الحائزة للأسلحة النووية والدول غير الحائزة للأسلحة النووية على حد سواء تنفيذ مجموعة من الخطوات التي أقرتها مجموعة خبراء حوكمة الأمن النووي قبل قمة الأمن النووي لعام 2014— والتي شملت تعميم نظام الأمن النووي ووضع اتفاقية إطارية للأمن النووي. كما يمكن للدول الأخرى، سواء كانت مسلحة نوويا أم لا، أن تنضم إلى ما يقرب من الـ36 دولة التي ألزمت أنفسها باتخاذ خطوات ملموسة نحو تحقيق معايير عالية في مجال الأمن النووي، وذلك من خلال توقيعها على "المبادرة الثلاثية" في قمة عام 2014.

هل ستقضي مثل هذه الإجراءات على الأسلحة النووية؟ لا، لكنها ستقلل من فرص وقوع كارثة طالما وجدت الأسلحة النووية على الأرض. وقد تنجح يوما ما في جعل "الصفر" هدفا قابلاً للتحقيق، من خلال التعاون مع هياكل نزع السلاح القائمة والضغط من المجتمع المدني.

تشخيص الداء: تلاتيلولكويتيس

تشير مقالات جولة الاجتماع الأولى التي كتبها زميلىَّ هيكتور غيرا ورودريجو ألفاريز فالديز إلى أنهما يعانيان من داء يمكن تعريفه بـ "تلاتيلولكويتيس"— وهو ميل للتغاضي عن تلك السمات في معاهدة تلاتيلولكو التي تشير إلى أنها ليست أساسا عمليا لنزع السلاح العالمي. ويبدو أن كلا الرجلين يستخدمان المعاهدة باعتبارها حجر الزاوية لتفكيرهما حول عالم بلا أسلحة نووية. (في الحقيقة، لم يذكر غيرا المعاهدة، لكن نظرته الشاملة لنزع السلاح تبدو متسقة مع تلاتيلولكويتيس).

إن معاهدة حظر الأسلحة النووية في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، والمعروفة باسم معاهدة تلاتيلولكو، قد حررت شعوب أمريكا اللاتينية من الأخطار الوجودية المرتبطة بالمنافسة النووية، لكن المعاهدة ونظامها محظوظان لاستمرارهما عقب المشاحنات النووية التي ميزت العلاقة بين البرازيل والأرجنتين في إحدى الفترات. علاوة على ذلك، كان الدافع وراء وضع المعاهدة (بشكل رئيسي) هو أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962— لكنها كانت ممكنة سياسيا فقط بسبب البنية الأمنية الشاملة التي تحتفظ بها الولايات المتحدة في جميع أنحاء نصف الكرة الغربي. بمعنى أن الالتزامات الأمنية للولايات المتحدة في المنطقة هدأت المخاوف، التي كانت لدى العديد من الدول الموقعة على المعاهدة، بأن الشيوعية سوف تنتشر عبر أمريكا اللاتينية (جزئيا من خلال المركز السوفيتي في كوبا). ولا تزال الدول الأعضاء في معاهدة تلاتيلولكو، سواء رغبت في ذلك أم لا، واقعة إلى اليوم ضمن نطاق حماية الولايات المتحدة. وبالتالي فإن موقفها من الأسلحة النووية لا يختلف، في الواقع، عن موقف الدول غير الحائزة للأسلحة النووية داخل الناتو. وبالتالي أي ادعاء بأن أمريكا اللاتينية ليس لديها تعامل مع الأسلحة النووية هو ادعاء مخادع.

لا يعترف غيرا أو ألفاريز بشيء من ذلك. في الواقع، يقول ألفاريز إنه إذا تجمعت المناطق الخالية من الأسلحة النووية معا، يمكنها أن تشكل أساسا لنزع السلاح العالمي. ومع أن ألفاريز أقر بأنه من غير المحتمل أن ينجح مثل هذا النهج— فهو لا يعترف أن حتى المنطقة الأصلية الخالية من الأسلحة النووية (تلاتيلولكو) تم تنظيمها في ظل وجود ضمانات أمنية نووية ضمنية. لم يقترح غيرا ولا ألفاريز بأن تقوم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا (وهى الدول النووية الثلاثة خارج الحدود الإقليمية التي تمتلك أراضي في أمريكا اللاتينية) بالتخلص من أسلحتها النووية دون قيد أو شرط— بمعنى أن تقوم الدول الثلاث بنزع سلاحها قبل أن تُقدم على ذلك الدول الأخرى المسلحة نوويا. لكن، خلافا لذلك، كيف يمكن حقا اعتبار المنطقة خالية من الأسلحة النووية؟

علاوة على ذلك، يعترف غيرا بأن الآليات القائمة لتعزيز نزع السلاح، مثل مؤتمر الأمم المتحدة لنزع السلاح، قد "مُنيت ببعض الإخفاقات" وأن تقنية الأسلحة النووية قد انتشرت. لكنه يعتبر مبادرة "حظر الأسلحة النووية" وسيلة لتوعية العالم بمخاطر هذه الأسلحة— على الرغم من أن المخاطر واضحة بالفعل للعيان. وفي الوقت نفسه، يعتبر غيرا المبادرة الإنسانية أمرا سيؤدي إلى "معالجة الضجيج المحيط بنزع السلاح النووي" والذي يعني به النهج المتدرج والمتزايد لمؤتمر نزع السلاح. ورغم ذلك فهو يعتقد، بطريقة معقدة للغاية، أن المعاهدات التي أنشئت لحظر الألغام الأرضية المضادة للأفراد والذخائر العنقودية يمكن أن تقود الطريق نحو نزع السلاح النووي. لكن عمليات أوتاوا وأوسلو الرامية للقضاء على هذين النوعين من الأسلحة لم تكن محفوفة بالقلق مثل المفاوضات حول الأسلحة النووية. وعلى أي حال، فإن الألغام المضادة للأفراد والذخائر العنقودية هي مماثلة للغاز السام— وهو أمر ثانوي لأمن الدول وبالتالي قابل للحظر.

أخيرا، يقول غيرا إن "مبادئ السياسة الخارجية والممارسة والخبرة المتراكمة" تكون "متشابكة بشكل وثيق" مع "عمليات نزع السلاح"، لكن مبادئ السياسة الخارجية والممارسة والخبرة هي أيضا أحد أعمال الحدود المتنازع عليها والصراعات المستمرة منذ فترة طويلة وحاجة الدول لردع الحروب— و محاربتها، إذا اضطرت للقيام بذلك—من خلال الوسائل العسكرية التقليدية والنووية على حد سواء. إن بناء قضية لنزع السلاح على أي فرضية أخرى، كما يفعل غيرا، يُعد بمثابة إيجاد حلول مبسطة لمشكلة غاية في التعقيد.

ليس التزاما عاطفيا

الأسلحة النووية هى جني خرج من القمقم ولا يمكن إعادته إليه مرة أخرى—هذا شعور مألوف ومعتاد على مدى عقود سابقة. غير أن المبادرة الإنسانية تجاه نزع السلاح هى جني آخر خارج قمقمه. اعتبر زميلي في هذه المائدة المستديرة بهارات كارناد في جولة الاجتماع الأولى أن وضع معاهدة لحظر الأسلحة النووية، مثل التي قد تنجم عن هذه المبادرة الإنسانية، بأنها "ممارسة جوفاء تؤديها الدول الأقل قوة" وأنها "وخزة أخرى للضمير الإنساني". يمكن للمرء أن يخرج من ذلك بانطباع مفاده أن المبادرة الإنسانية ما هى إلا مجرد التزام عاطفي، أو مجرد نداء ميؤوس منه من قبل الضعفاء إلى قياصرة منشئات الأسلحة النووية. لكن هذه المبادرة الإنسانية هى في الحقيقة بناء واقعي للغاية.

أولا، هذه المبادرة هى حركة ذات قاعدة عريضة مبنية على خبرات متراكمة للعديد من: الدبلوماسيون الصغار والكبار، والعلماء والأكاديميين والنشطاء والممارسين من المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، والناجين من العنف المسلح، ومناصري البيئة والبرلمانيين والحقوقيين والفنانين وغيرهم. يأتي هؤلاء الأفراد من دول تمتلك أسلحة نووية على أراضيها؛ ومن دول أخرى لا تمتلك أسلحة نووية، لكنها تعتمد في "أمنها" على أسلحة الدمار الشامل لحكومات أخرى؛ ويأتون أيضا من دول في مناطق أخرى في العالم يتم فيها الاستغناء تماما عن الأسلحة النووية.

علاوة على ذلك، تعتمد المبادرة الإنسانية على فهم ناضج لتاريخ نزع السلاح. فهى ليست نزوة—تغض الطرف عن التدابير المتخذة منذ عام 1946 لمنع الانتشار وتعزيز نزع السلاح على حد سواء. كما أنها لا تغض الطرف أيضا عن المناقشات السابقة حول مشروعية استخدام أو التهديد باستخدام الأسلحة النووية، وما إذا كان استخدامها قد يُعتبر جريمة حرب. في الواقع، لقد تأسست المبادرة على وعي تام بأن هناك حاجة إلى اتخاذ تدابير إضافية، وذلك لأن العالم لا يزال يواجه خطر الأسلحة النووية بعد مرور حوالي 70 عاما على جهود نزع السلاح.

استراتيجيات جديدة. كتب كارناد أن النظام الدولي "قائم على سياسة القوة" حيث يؤدي "الثقل الاقتصادي والقوة العسكرية إلى موازنة الأمور". كما أشار إلى أن هناك ست دول مسلحة نوويا تمثل حوالي 45 في المئة من النشاط الاقتصادي العالمي. لكن "الواقعية" التي يتبناها كارناد تتقبل بمنتهى السهولة المخاطر التي تصاحب القوة السياسية—الحروب والمظالم التي تشمل انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم ضد الإنسانية. إن "الواقعية" تتقبل بمنتهى السهولة التركز الحالي للقوة الاقتصادية، حيث يستحوذ 1٪ من سكان العالم على ما يقرب من نصف الثروة العالمية.

لكن الأهم من ذلك هو أن القوة لا تعتمد على القدرة العسكرية والاقتصادية فقط. فبمرور الوقت، أظهر البشر قدرة على تطوير استراتيجيات جديدة من أجل البقاء الجماعي— هذه الاستراتيجيات تشمل التعاون وضبط النفس والتعاطف والتراحم والتضامن. وقد اتخذت هذه الاستراتيجيات، على الصعيد العالمي، شكل معايير ومؤسسات دولية وهياكل قانونية والتي تسمح، في أغلب الوقت، بإقامة علاقات سلمية بين الأمم وتمكن البشر من حل خلافاتهم دون اللجوء إلى الحرب. هذه هي الأرضية الخصبة للمبادرة الإنسانية. وهذا هو ما يعطي هذه المبادرة فرصة حقيقية للنجاح. هذه هي الحجة المضادة للنظرة العالمية الحتمية التي لا تتجاوز رأس صاروخ نووي.

يمكن لعدد قليل من الأفراد داخل مؤسسة نووية تحديد مصير شعب بأكمله داخل دولة ما. ويمكن لعدد قليل من الدول تهيئة الظروف لحياة أو موت مليارات البشر. ماذا يعني هذا بالنسبة لتنمية الديمقراطية في جميع أنحاء العالم؟ وماذا يعني هذا بالنسبة لآفاق الحضارة الإنسانية؟ لحسن الحظ، من الممكن الهروب من حدود الحتمية "الواقعية" القائمة على الأسلحة التي تسعى لتقييد عقول البشر. والمبادرة الإنسانية هي إحدى الوسائل لبناء واقع مختلف.

Round 3

يوجد دواء وليس داء

شخّص زميلي بهارات كارناد في الجولة الثانية من الاجتماع حالتي وحالة هيكتور غيرا بأننا نعاني من شيء يسمى تلاتيلولكويتيس—"وهو ميل للتغاضي عن تلك السمات في معاهدة تلاتيلولكو التي تشير إلى أنها ليست أساسا عمليا لنزع السلاح العالمي". وقال إن البنية الأمنية الشاملة التي تحتفظ بها الولايات المتحدة هي فقط التي مكنت من إقامة المعاهدة، وأشار إلى أن دول أمريكا اللاتينية "لا تزال واقعة … ضمن نطاق حماية الولايات المتحدة." وأوضح أن ذلك يجعل موقفها من الأسلحة النووية "لا يختلف، في الواقع، عن موقف الدول غير الحائزة للأسلحة النووية داخل الناتو".

حجة كارناد بها بعض الجوانب الصحيحة إلى حد ما. لكنه أغفل الإقرار بحقيقة هامة وهى أن كوكب الأرض بأسره يقع ضمن "نطاق" الدول الحائزة للأسلحة النووية، وذلك بسبب مدى أنظمة الصواريخ النووية وسهولة تنقلها. أحيانا يأخذ هذا "النطاق" شكل مظلة نووية، وأحيانا أخرى يأخذ شكل التهديد. لذلك لا يمكن لحجة كارناد—على الرغم من احتوائها على نظرة ضيقة—التقليل من المساهمات التي قامت بها معاهدة تلاتيلولكو لمنع الانتشار النووي ونزع السلاح.

كما ارتكب كارناد خطأ آخر عندما أغفل النظر إلى الإرادة السياسية التي ترتكز عليها المعاهدة. إذا كان موقف دول أمريكا اللاتينية بشأن الأسلحة النووية لا يختلف عن موقف الدول غير النووية في حلف الناتو، فلم تم إقامة منطقة خالية من الأسلحة النووية في أمريكا اللاتينية منذ عام 1969 في حين لم يتم إقامة أي منطقة مماثلة في أوروبا— على الرغم من انتهاء الحرب الباردة عام 1989؟ كان يمكن بالتأكيد أن تقيم الدول الأوروبية مثل هذه المنطقة إذا كانت لديها رغبة في ذلك. ومع ذلك، فهذه الدول تندرج ضمن "البنية الأمنية الشاملة التي تحتفظ بها الولايات المتحدة". فعدم قيامها بذلك يدل على أنها تفتقر إلى الإرادة السياسية. وبالمثل، فإن غياب الإرادة السياسية هو العامل الرئيسي وراء فشل إقامة منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط حتى الآن. فحيثما وجدت الإرادة السياسية لإقامة منطقة خالية من الأسلحة النووية، فسوف تحظر الأسلحة النووية. والدليل على ذلك ليس فقط معاهدة تلاتيلولكو ولكن أيضا معاهدات راروتونجا وبانكوك وبليندابا وسيميبالاتينسك. لقد فحص كارناد معاهدة تلاتيلولكو وشخّص وجود الداء— التلاتيلولكويتيس. أما أنا ففحصت المعاهدات ووجدت بها الدواء— التلاتيلولكويزم العالمية.

السير في كلا الإتجاهين. كتبت في مقالي الثاني أن غيرا يعتبر أن نزع السلاح عملية منشؤها من الأسفل في حين "أنني أميل لرؤية القضايا النووية من الأعلى ومن الأسفل على حد سواء". ومع ذلك، فإنه يبدو لي عند إعادة التفكير أن المبادرة الإنسانية تجاه نزع السلاح النووي، والتي ناقشها غيرا بإسهاب، قد تقدم أفضل الخيارات المتاحة للتعامل مع نزع السلاح من كلا الاتجاهين في وقت واحد. وأعني بذلك أنه إذا اتسعت المبادرة لتكون حركة تهدف إلى إعلان عدم دستورية الأسلحة النووية على أساس كل دولة على حدة، فيمكنها زيادة فاعلية أقوى الأدوات السايسة للدول— وهى دساتيرها— وتقوم بذلك بطريقة تشرك فيها القوى الهابطة من الجهات السياسية الفاعلة والقوى الصاعدة من المجتمع المدني. حقا إن فكرة تحويل التفجيرات النووية وآثارها الإنسانية إلى قضية دستورية في جميع أنحاء العالم من الممكن أن تكون قضية تستحق المناقشة في المؤتمر التالي للمبادرة المقرر في فيينا في ديسمبر.

تسلط الهواجس الأخلاقية

أقر زميلاى في هذه المائدة المستديرة رودريجو ألفاريز فالديز وهيكتور غيرا بأن تخليص العالم من الأسلحة النووية هو هدف جدير بالثناء لكن يصعب تحقيقه. بالتأكيد، سيكون من الصعب تحقيق نزع السلاح من خلال التحسينات في حوكمة الأمن النووي التي ناقشها ألفاريز أو من خلال "المبادرة الإنسانية" غير الواقعية التي اقترحها غيرا (وهي محاولة لحظر الأسلحة النووية في شكل مختلف).

ومع ذلك، لا يزال غيرا يأمل في أن المبادرة الإنسانية— بسبب مشاركة النبلاء والمجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية والعلماء الذين أصيبوا بخيبة الأمل والأكاديميين والناشطين المتحفزين في جميع أنحاء العالم— سوف تنجز ما فشلت في تحقيقه المساومات الدبلوماسية الشاقة في مؤتمرات نزع السلاح على مدى عقود. إن تفاؤل غيرا يخلط عمدا بين النوايا الحسنة والأهداف القابلة للتحقيق.

اتهمنى غيرا في الجولة الثانية من الإجتماع بأنني أتقبل"بمنتهى السهولة" الفوارق الاقتصادية العالمية والمخاطر الكامنة في سياسة القوة. وردي عليه هو أنني أرى العالم كما هو— وللأسف، فإن الذي يدير العالم هى الدول القوية التي تسعى للحفاظ على مصالحها الوطنية وتعزيزها. إنها عادة تحدد مصالحها بدقة. كما لا تفكر كثيرا في المدى الطويل أو تبدي إهتماما بعموم الخير على الجميع. لكن ذلك لا يغفر سياسات وسلوك الدول التي تعيق جهود نزع السلاح. ومع ذلك، يجب على المرء ألا يخلط بين ما يجب أن يكون وما هو كائن بالفعل.

كتب غيرا أيضا أنه "تأسست المبادرة [الإنسانية] على وعي تام بأن هناك حاجة إلى اتخاذ تدابير إضافية، وذلك لأن العالم لا يزال يواجه خطر الأسلحة النووية بعد مرور حوالي 70 عاما على جهود نزع السلاح". لكن لم يكن هناك يوما أي نقص في الوعي بمخاطر الأسلحة النووية—وعلى أي حال، فإن التقدم في مجال نزع السلاح يأتي من خلال عمليات دبلوماسية مدروسة وتدريجية والتي لا يمكن تسريعها من خلال الوعي المتزايد. إن نزع السلاح سوف يستغرق فقط وقتا طويلا. وسوف تختبر سرعة تقدمه المتروية صبر أشخاص ذي نوايا حسنة مثل غيرا وألفاريز. لكن دقة وهادفية المفاوضات في مؤتمرات نزع السلاح هي ذاتها التي ستجعل في أحد الأيام التقدم الحالي المسلم ببطئة والمتعذر إلغاؤه يسير في اتجاه الصفر النووي.

لا يمكن إجبارها على الالتزام. كتب ألفاريز في الجولة الثانية من الإجتماع أن "الدول غير النووية لن تتفوق على الدول الحائزة للأسلحة النووية بشأن نزع سلاحها حتى تكون قادرة على ممارسة قدر أكبر من السلطة السياسية". ولممارسة قدر أكبر من السلطة، يجب عليها أولا تنمية قدر أكبر من الثقل العسكري والاقتصادي— لكن ألفاريز لم يصرح عما إذا كان يريدهم أن يفعلوا ذلك. ينصح ألفاريز الدول غير النووية بأن "تضغط بقوة أكبر لتحقيق عالمية" الصكوك الدبلوماسية القائمة مثل معاهدة حظر الانتشار النووي ومعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية. ولكن ما الذي سوف تحققه عالمية هذه الأشياء؟ إن الدول الحائزة للأسلحة النووية تستخدم هذه الصكوك أساسا لترسيخ المواقف المفيدة التي تتمع بها بالفعل. وفي الوقت نفسه، تدفع هذه الدول قضية نزع السلاح إلى الأمام ببطء شديد، هذا إن دفعتها من الأساس.

إن ما أدهشني في هذه المائدة المستديرة هو المدى الذي يمكن أن تبدو من خلاله المبادرات المناهضة للقنابل النووية كهواجس أخلاقية، مع قيام الحجج القانونية باخفاء عدم عملية هذه المبادرات. ولئن كان صحيحا أن، مع البدايات الأولى للحرب الباردة، مداولات اللجنة الأولى للأمم المتحدة أعطت نزع السلاح شرعية بموجب القانون الدولي، فإن الأدوات الرئيسية لنزع السلاح اليوم، مثل معاهدة حظر الانتشار النووي ومعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، فقدت مصداقيتها منذ فترة طويلة. إذ لديها تأثير قليل على سلوك الدول الحائزة للأسلحة النووية. ربما يمكن التودد للدول المسلحة نوويا للاقتراب من نزع السلاح بشكل جيد، ولكن لا يمكن إجبارها على الالتزام به. إن دعاة نزع السلاح يصبحون على درجة عالية من التفاؤل وسمو المشاعر عندما يصورون أن نزع السلاح أمر في متناول الأيدي— لكن يتم الاحتفاظ به بعيدا بسبب حماقات عدد قليل من الدول، واعتباراتها للقوة العسكرية والسياسات الواقعية قصيرة النظر. لا بأس من التفكر في طرق مختصرة لنزع السلاح مثل الجهود الرامية إلى وضع معاهدة حظر الأسلحة النووية. لكن جلّ ما يمكن أن تأمل هذه المحاولات في إحداثه، في أحسن الأحوال، هو تأثير سياسي زائف.  

الخروج من جحيم الأسلحة النووية

لقد علق البشر على مدى عقود في أعماق جحيم الأسلحة النووية. لكن ليس عليهم أن يرضوا بأن يكون هذا هو مأواهم إلى الأبد. ومثلما قام الشاعر دانتي باجتياز الجحيم في رحلته إلى الفردوس، يجب على البشر العبور إلى مرحلة جديدة في تاريخهم— تاركين وراءهم أسلحة الدمار الشامل التي تنتهك المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة والقانون الإنساني الدولي.

كتب بهارات كارناد في الجولة الثانية من الإجتماع أن "بناء قضية لنزع السلاح" دون النظر من بين جملة أمور أخرى إلى "حاجة الدول لردع الحروب" من خلال "الوسائل العسكرية النووية" هو " بمثابة إيجاد حلول مبسطة لمشكلة غاية في التعقيد". إن هذا يدعو إلى ملاحظة أن اعتماد البشرية على الأسلحة النووية هو أمر مَرَضِي. إن التوافق المحفوف بالمخاطر مع هذا الرأي، والذي أعرب عنه كارناد، يعرض البشر إلى إمكانية الإبادة الحاضرة دوما. ويمثل العمل تجاه نزع السلاح العام مقاومة ضد هذه الحتمية. أؤكد مرة أخرى على أن دانتي اجتاز الجحيم، ولم يبقَ هناك.

نفس الغاية بوسائل جديدة. لم تحقق حركة نزع السلاح هدفها النهائي حتى الآن. لكن من المهم أن نأخذ في الاعتبار ما تم تحقيقه بالفعل في الحد من التوسع في الترسانات النووية والتشجيع على القضاء عليها. فالتجارب النووية انتهت تقريبا؛ وتم تقليص الانتشار بشكل جدي، كما تغطي المناطق الخالية من الأسلحة النووية مساحات شاسعة من العالم. لكن، على الرغم من هذه النجاحات، فهي ليست غاية في حد ذاتها. إنما هي وسائل لتحقيق الغاية— وهى إعادة العالم إلى وضعه الخالي من الأسلحة النووية الذي كان يتمتع به على مدار التاريخ حتى العقود السبعة الماضية.

ولتشجع عملية نزع السلاح في القرن الـ21، هناك حاجة إلى استعمال وسائل جديدة. لقد تغير النظام الدولي عندما تم إجراء أول تجربة نووية عام 1945 وعندما دخلت معاهدة حظر الانتشار النووي حيز التنفيذ عام 1970 وعندما انتهت الحرب الباردة عام 1991. واليوم توجد تحديات جديدة— كما توجد إمكانيات جديدة أيضا. والمبادرة إنسانية تجاه نزع السلاح النووي هي إحدى تلك الإمكانيات.

إن المبادرة ليست بناءً عقائديا يمكن أن يسعى أتباعه إلى فرضه على الآخرين. بل هى عملية جماعية تعتمد على مجموعة كبيرة من الأصوات من الحكومة والمنظمات متعددة الأطراف والمجتمع المدني والأوساط الأكاديمية وغيرها. ومع أنها تنمو بسرعة، ما زال هناك الكثير جدا قيد الإنشاء. يتفق المشاركون في المبادرة على بعض القضايا ويتجادلون بشدة حول بعض القضايا الأخرى، لكن روح التبادل الحر هذه هى واحدة من أوجه قوة المبادرة والتي يجب المحافظة عليها. لأنه لكى تؤتي المبادرة ثمارها، يجب أن تتواصل الحركة ليس فقط مع الأشخاص المتشابهون في التفكير ولكن أيضا مع المتشككين وغير المهتمين حاليا بعملية نزع السلاح.

وعلى الرغم من أن العمل المنتظر سيكون مكثفا، فهو واعد. ومع أن النوع البشري يعتريه النقص، إلا أنه سيظل متمتعا بإمكانات عديدة، بما في ذلك القدرة على تعزيز التنمية البشرية والأمن الحقيقي من خلال القضاء على الأسلحة الكارثية. وبعد كل هذا، فإن نزع السلاح يعتبر وسيلة وليس غاية. إذ تشمل الأهداف النهائية، كما ورد في ميثاق الأمم المتحدة، إنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحروب والتأكيد مجدداً على الإيمان بحقوق الإنسان الأساسية.



Topics: Nuclear Weapons

 

Share: [addthis tool="addthis_inline_share_toolbox_w1sw"]