تشيرنوبل وفوكوشيما والتأهب للـ”كارثة التالية”

في أحد أيام شهر أبريل عام 1986، أصبح مكان غير معروف يُطلق عليه تشيرنوبل ذائع الصيت. وبعد خمسة وعشرين عاما، حدث أمر مماثل لمحافظة فوكوشيما اليابانية. في النهاية، تم احتواء كارثة فوكوشيما بشكل أفضل من تشيرنوبل. لكن إذا وقعت حالة طوارئ بمنشأة أخرى للطاقة النووية، فقد تقع هذه المرة بطريقة لا يمكن التكهن بها. فهل الدول مستعدة بشكل كاف لكارثة "تالية" لا يمكن التنبؤ بها؟ فيما يلي، يُقيِّم مؤلفون من النمسا والكاميرون والهند التحسينات التي أجريت على مدى الـ30 عاما الماضية في مجال التأهب لوقوع كارثة نووية— كما يناقشون الكيفية التي ينبغي من خلالها مواصلة تحسين هذه الاستعدادات.

تابعونا على الفيس بوك:

Bulletin of the Atomic Scientists: اللغة العربية

تابعونا على تويتر:

@Bulletin_Arabic

Round 1

هناك تقدم كبير منذ كارثة تشيرنوبيل— لكن لا يزال أمامنا شوط طويل

الكارثة هى حادثة لا يتوقع أحد خطورتها وحجمها والتي تسبب ضررا هائلا لا يسمح بالتعافي السريع. وهى تشكل مخاطر لا يمكن إبقاؤها داخل نطاق السيطرة. بخلاف ذلك، لن تكون الكارثة كارثة— بل ستكون مجرد أزمة.

ولذا، فإن أساس التعامل مع الكوارث يكمن في توقع الأسوأ— والاستعداد له. ولحسن الحظ، مثلما تقدمت العلوم والتكنولوجيا، تقدمت كذلك قدرة البشر على التنبؤ بالكوارث والاستجابة لها. وتتسبب الطبيعة باستمرار في وقوع أحداث بيئية قاسية. لكن اليوم، يتم الأخذ في الاعتبار الاستعداد للطوارئ والاستجابة لها عند تصميم أنشطة خطرة يشارك فيها البشر.

يُعد إنتاج الطاقة النووية أحد هذه الأنشطة الخطرة، لكن على مدى أكثر من 60 عاما من تشغيل المفاعلات—أو ما يساوي 16 ألف عام من التشغيل التراكمي للمفاعلات— شهدت الصناعة النووية كارثتين فقط: هما تشيرنوبيل وفوكوشيما. لكن كارثة تشيرنوبيل هى فقط التي أسفرت عن حدوث وفيات— حيث توفي 30 شخصا بعد وقوع الحادث مباشرة، كما توفى ما يزيد عن عشرين شخص في السنوات اللاحقة، إضافة إلى توقع حدوث حالات وفاة أخرى على المدى الطويل. ما تشير إليه هذه الأرقام هو أن الصناعة النووية تولي أهمية كبيرة لسلامة تشغيل المفاعلات. كما تدل أيضا على أن مجرد كارثتين فقط على مدى ستة عقود، أسفرت إحداهما فقط عن وفيات، كانتا كافيتين لخلق تصورات سلبية لدى العامة تجاه الطاقة النووية.

في هذا الصدد، هناك ثلاث طرق أساسية لمعالجة هذه القضية. أولا، يمكن تحسين سلامة تشغيل المفاعلات باستمرار. ثانيا، يمكن وضع طرق أفضل للاستعداد والاستجابة للطوارئ. ثالثا، يمكن إبلاغ الجمهور بالتحسينات التي يتم إجراؤها على كلتا الجبهتين. وقد قدمت كارثتا تشيرنوبيل وفوكوشيما دروسا هامة تتعلق بجميع هذه الأبعاد الثلاثة— لكن التركيز هنا ينصب على تحسين طرق التأهب للكوارث منذ فترة الثمانينات.

لقد كان التحسين موضوعيا. حيث أدت كارثة تشيرنوبيل إلى خلق إطار قانوني دولي للاستعداد للطوارئ والاستجابة لها، فضلا عن مجموعة من العمليات التنظيمية ذات الصلة ومبادئ توجيهية رسمية. أما تنفيذ كل ذلك فهو أمر يتعلق بالمسؤولية الوطنية. لكن التنفيذ يتم وفقا للمعايير الدولية التي تم وضعها في الأغلب عقب كارثة تشيرنوبيل، كما تم تعديل بعضها عقب كارثة فوكوشيما.

خطوات تمّ اتخاذها. إن الوكالة الدولية للطاقة الذرية هى الوكالة الرائدة المعنية بوضع الاتفاقيات التي تحدد المبادئ التوجيهية للتعامل مع حالات الطوارئ. وكانت أول اتفاقية تم اعتمادها، عقب كارثة تشيرنوبيل، هى اتفاقية التبليغ المبكر عن وقوع حادث نووي. ولأنّ كارثة تشيرنوبيل جعلت آثار الكوارث النووية العابرة للحدود واضحة للغاية، قامت الدول بوضع الاتفاقية حيز النفاذ بسرعة في نهاية أكتوبر عام 1986. كما اعتُمدت في نفس الوقت اتفاقية تقديم المساعدة في حالة وقوع حادث نووي أو طارئ إشعاعي، على الرغم من أنها لم تدخل حيز التنفيذ إلا في العام التالي. كلتا المعاهدتين وضعتا التزامات محددة على الدول الأطراف، وعلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لوضع ترتيبات لحالات الطوارئ النووية أو الإشعاعية. وقد تم تعزيز هذه الالتزامات باتفاقيتين لاحقتين— هما اتفاقية السلامة النووية والاتفاقية المشتركة بشأن الإدارة المأمونة للوقود المستهلك وبشأن الإدارة المأمونة للنفايات المشعة. وتغطي هذه الاتفاقيات الأربع مجموعة واسعة من الأنشطة النووية.

نشرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، على مر السنين، سلسلة من معايير السلامة تهدف الى تعزيز الترتيبات الوطنية للسلامة والتأهب والاستجابة لها في المفاعلات النووية. وتعمل الوكالة أيضا على ضمان توافق الآليات والإجراءات الوطنية والثنائية والإقليمية والدولية للاستجابة للكوارث. كما تمت مراجعة متطلبات السلامة العامة للوكالة، عقب كارثة فوكوشيما، لإدراج الدروس المستفادة حديثا. وأدى ذلك إلى قيام الوكالة بنشر "الاستعداد لحالات الطوارئ النووية أو الإشعاعية والاستجابة لها"، وهى عبارة عن وثيقة تشتمل على توصيات خاصة بمعايير التأهب للحالات الطارئة والاستجابة لها. ويمكن للدول إنفاذ هذه المعايير من خلال اعتماد تشريعات ولوائح وإسناد المسؤوليات إلى مشغلي المفاعلات النووية وإلى المسؤولين الوطنيين والمحليين، بالاضافة إلى وضع أطر تنظيمية يمكن من خلالها التحقق من التنفيذ الفعال.

غير أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية ليست بأي حال هى الوكالة الوحيدة المشاركة في عملية تحسين الاستعداد للكوارث. فقد أنشئت عام 1986 اللجنة المشتركة بين الوكالات المعنية بحالات الطوارئ الإشعاعية والنووية وذلك إقرارا بأن التعاون والتنسيق بين الوكالات أمر مهم للغاية. وتتكون هذه الآلية من ثمانية عشر منظمة متنوعة، من بينها منظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية ومنظمة الصحة العالمية والمنظمة الدولية للطيران المدني. وقد وضعت اللجنة خطة مشتركة لإدارة حالات الطوارئ الإشعاعية لمواءمة المعايير الدولية للتأهب لحالات الطوارئ والاستجابة لها. وتتيح الخطة فهما مشتركا لأدوار المنظمات المشاركة ومسؤولياتها وقدراتها— كما توفر أيضا مفهوما شاملا لعمليات المجموعة بحيث يمكن تحقيق استجابات سريعة ومنسقة.

خطوات يتعين اتخاذها. عقب كارثة فوكوشيما، قامت تقريبا جميع الدول المشغلة لمفاعلات نووية بمراجعة أنظمتها المتعلقة بالاستجابة للطوارئ— كما أصدرت الحكومة اليابانية وكذلك الوكالة الدولية للطاقة الذرية تقارير سلطت الضوء على طرق عديدة يمكن من خلالها تحسين عملية الاستعداد للطوارئ. ونصت إحدى هذه التوصية على أنه يجب أن يتاح للموظفين العمومين سرعة الوصول إلى آراء علمية مطلعة وتقديرات الخبراء حتى يتمكنوا من اتخاذ قرارات سليمة في أوقات الضغوط القصوى. لقد كان من الممكن تجنب بعض الأخطاء التي ارتكبت خلال حالة فوكوشيما الطارئة— المتعلقة بالتوقيت وحجم الإخلاء على سبيل المثال— لو كان المسؤولون قد حصلوا على مشورة أفضل.

كما نصت التوصية الثانية على أن تتاح للموظفين مصادر لتصنيف شدة الحادثة بشكل صحيح وقت حدوثها. إذ يمكن بهذه الطريقة تفعيل مجموعة إجراءات التشغيل الصحيحة في أقرب وقت ممكن. لكنّ تصنيف شدة الحادثة على نحو أقل— أو أكثر— مما هى عليه في الواقع يمكن أن يهدر الوقت الثمين والمصداقية. أما التوصية الثالثة فنصت على أن توفير معلومات دقيقة على جميع المستويات هو أمر بالغ الأهمية. على سبيل المثال، إذا حاول مشغلو المفاعل إخفاء وقوع حادثة (أو حجمها) عن السلطات الوطنية أو الدولية، فسوف يؤدي ذلك إلى تأخير الاستجابة المناسبة. أثناء كارثة تشيرنوبيل، على سبيل المثال، صدرت أوامر بإخلاء محدود فقط من المنطقة المتضررة— لكن كان ذلك بعد مرور 36 ساعة. ومما لا شك فيه أن حالات الوفاة الفورية جراء كارثة تشرنوبيل بقيت محدودة للغاية بالمقارنة مع العديد من حالات الطوارئ غير النووية. لكن تم الشعور بالكارثة على جميع المستويات المادية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية لدول المنطقة. وكان من الممكن تقليل هذه الآثار إذا كانت هناك معلومات دقيقة متاحة. أخيرا، يجب تنسيق قدرات الاستجابة للطوارئ على جميع المستويات المحلية والوطنية ومستوى الولايات. ولكن هذا لن يكون ممكنا إلا إذا قام مشغلو المفاعلات بإجراء تدريبات دورية تشارك فيها جميع الجهات ذات الصلة، والقيام كذلك بإصلاح أوجه القصور بإخلاص.
 
الاختيار والإستعداد. الطاقة هى جوهر التقدم الإنساني. وتعد الطاقة النووية واحدة من بين خيارات عديدة للدول التي تسعى للحصول على مستقبل غني بالطاقة. وسوف تتخذ الدول خياراتها السيادية بشأن الطاقة النووية، بناء على حساباتها الخاصة. إن الدول التي ستختار الطاقة النووية تدرك جيدا أن الأمر يتطلب قدرا كبيرا من الهياكل الأساسية القانونية والتنظيمية إذا أرادت تشغيل قطاعاتها النووية بشكل آمن ومستدام. وأحد عناصر هذه الهياكل الأساسية هو الاستعداد للطوارئ والاستجابة لها. ويتعين على الدول القيام باستمرار بتحسين قدرتها على إدارة الكوارث. ولحسن الحظ، فإن الآليات الدولية والجهود الوطنية للتأهب للكوارث تجعل هذه المهمة أسهل تدريجيا.

التعلم من الحوادث النووية والتوسع في الطاقة النووية

تشكل الطاقة النووية حوالي 11 في المئة من انتاج الكهرباء في العالم، ومن المرجح أن تزيد هذه النسبة على المدى المتوسط حيث يسعى العالم للحد من انبعاث ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، وبالتالي التخفيف من آثار تغير المناخ. لكن منذ وقوع حادثة فوكوشيما، تباطأ التوسع العالمي للطاقة النووية— مثلما حدث تماما عقب كارثة تشرنوبيل. يمكن أن تخلق حوادث المفاعلات النووية، حتى وإن لم تكن شديدة الخطورة، رهابا غير مبرر من الطاقة النووية لدى العامة.

حدثت كارثة تشرنوبيل عام 1986 بسبب عدة عوامل من بينها التصميم المعيب للمفاعل وعدم كفاية تدريب العاملين في المفاعل والافتقار إلى ثقافة السلامة النووية. قتل نحو 30 شخصا بعد وقت قصير من الانفجار نتيجة لمتلازمة الإشعاع الحادة ثم ارتفع عدد القتلى إلى قرابة 56 شخصا. ومع أن حدوث أي وفاة مبكرة أمر يؤسف له، فقد استنفرت كارثة تشيرنوبيل العلماء والمهندسين لتحسين التحكم الإلكتروني في تشغيل المفاعلات. وقد أدى ذلك إلى تحسين التعليمات فيما يتعلق بثقافة السلامة النووية. والآن يبدو احتمال وقوع حادث آخر مماثل لتشيرنوبيل ضئيلا للغاية.

أما كارثة فوكوشيما التي وقعت قبل خمس سنوات فهى أكبر ثاني حادثة نووية في العالم، وقد حدثت بعد 25 عاما من وقوع الحادثة الأولى. لكن المتسبب في هذه الحادثة هى أحداث خارجية— زلزال قوي وتسونامي. لم يُبلغ عن وقوع وفيات نتيجة للإشعاع، برغم وقوع عدد قليل للغاية من الوفيات والتي يمكن أن تعزى إلى الفزع أو الآثار النفسية الأخرى. ومن بين الـ160 ألف شخص الذين نزحوا من منطقة الحادث، عاد حوالي 60 ألفا إلى منازلهم، كما يعود آخرون على نحو بطيئ.

لا يزال المجتمع النووي العالمي يتعلم الدروس من فوكوشيما. لكنه يستخدم بالفعل هذه الدروس لمنع وقوع حوادث أخرى في المستقبل. ويؤخذ حاليا بعين الاعتبار المخاطر الخارجية الشديدة عند تصميم مفاعلات جديدة. كما يتم تطوير بدائل للمكونات التي فشلت في فوكوشيما. وقد تم تطوير أنظمة متنقلة لتوفير الكهرباء أو مياه تبريد للمفاعلات عندما تفشل نظمها الخاصة. وقد أخضعت عديد من الدول منشآتها النووية لاختبارات الاجهاد، كما قامت عديد من الدول بمراجعة الأطر القانونية والمتعلقة بالسلامة. كذلك تم تعزيز معايير السلامة الدولية تحت قيادة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وتم إنشاء شبكات من المنظمين والمشغلين والبائعين على المستويات الدولية والإقليمية وشبه الإقليمية لتعزيز النظام العالمي للسلامة النووية. وقد تم تنظيم المؤتمرات الدولية مع التركيز على فهم أسباب وقوع حادثة فوكوشيما والأضرار الناجمة عنها. ونتيجة لذلك، تتلقى المفاعلات النووية في جميع أنحاء العالم تحسينات إرشادية لتعزيز إجراءات السلامة بها.

قدمت حادثتا تشيرنوبيل وفوكوشيما دروسا تعمل على تحسين السلامة النووية. ويقوم المجتمع النووي الدولي بجهود متسقة وفعالة لتفادي الخسائر في الأرواح البشرية (على الرغم من استحالة استبعاد هذا الاحتمال في حال وقوع حادث نووي شديد). ولا يزال هناك مجال لمزيد من التحسينات. إذ ينبغي تعزيز التعاون الدولي بين مشغلي محطات الطاقة النووية. كما ينبغي أن تشارك مزيد من الدول في الاستعراضات الدولية التي يجريها الأقران للمنشآت النووية والتي أوصى بها مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية ضمن خطة عمل أصدرها عام 2011. تعد هذه المهام خطوة جيدة نحو تعزيز ثقافة السلامة والفوز بالقبول العام للطاقة النووية— وكذلك تحسين التأهب لحالات الطوارئ والاستجابة لها.

التنسيق العالمي. لقد وضعت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالفعل معايير محددة للسلامة، عندما يتعلق الأمر بالتأهب للحوادث النووية والإشعاعية والاستجابة لها. لكن لا تزال هناك حاجة إلى تنسيق الطرق المتعلقة بالاستعداد للطوارئ والاستجابة لها في جميع أنحاء العالم. وينبغي على كل دولة، سواء كانت تستخدم الطاقة النووية أم لا، الاستمرار في تطوير قدرات الاستجابة للطوارئ على جميع المستويات والمحافظةعليها، مع الأخذ بعين الاعتبار الأضرار التي يمكن أن تسببها الحوادث النووية والإشعاعية للأفراد والبيئة في الدول الأخرى، سواء المجاورة أو البعيدة.

ويعد أكبر سبب للقلق في كثير من الدول النامية، مثل بلدي الكاميرون، هو حالات الطوارئ التي تنطوي على مصادر مشعة. يمكن أن تشمل هذه الحالات الطارئة أعمال التخريب في المنشآت النووية أو السرقة أو ضياع المصادر المشعة، إضافة إلى الحوادث التي تقع أثناء نقل مواد مشعة. وفي حال وقوع حوادث نووية وإشعاعية، يتم مراجعة معايير الاستعداد للطوارئ لضمان بقاء أي حادثة من هذا النوع في المستقبل تحت السيطرة. ويدرك تماما المجتمع النووي الدولي الحاجة إلى التحسين المستمر لإدارة الحوادث النووية والتخفيف من آثارها السلبية على البشر والبيئة.
 
أطلقت مؤخرا الوكالة الدولة للطاقة الذرية، من أجل تحسين الاستعداد للحوادث النووية والإشعاعية في الدول الأعضاء بها، على شبكة الانترنت أداة جديدة تُسمى نظام إدارة معلومات التأهب لحالات الطوارئ والاستجابة لها، وهى عبارة عن "أداة تقييم ذاتي" والتي تعتقد ايلينا باجلوفا، رئيسة مركز الحوادث والطوارئ بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، أنها "ستساهم مساهمة هامة في مستويات استعداد الدول الأعضاء". ومن المفيد هنا أن نتذكر أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وفقا لاتفاقية تقديم المساعدة في حالة وقوع حادثة نووية أو حالة إشعاعية طارئة، لديها مسؤوليات محددة "فيما يتعلق بمساعدة الدول في وضع ترتيبات الاستعداد الخاصة بها لحالات نووية وإشعاعية طارئة".

من المهم كذلك للقيام باستجابة فعالة للحالات الطارئة أن يتم تبادل المعلومات التقنية حول المفاعلات النووية والحوادث النووية على نطاق واسع.  ولن يكون بإمكان المشغلين والمنظمين والبائعين— جميع أصحاب المصلحة في الصناعات النووية—تقديم مساهمات مناسبة لإدارة الحوادث النووية إن لم يكن متاحا لهم الحصول على نفس المعلومات. إذ يتطلب التأهب الفعال للحالات الطارئة توقعات عالمية.

تغيير المسار. تستحق الطاقة النووية مكانة ذات أولوية قصوى في الاستراتيجية العالمية لإقامة نظم للطاقة المستدامة. ووفقا لوكالة الطاقة الدولية ووكالة الطاقة النووية، يجب أن تتضاعف القدرة النووية العالمية بحلول عام 2050، و يجب أن توفر الطاقة النووية 17 في المئة من الانتاج الكلي للكهرباء، اذا أردنا وضع حد للاحترار العالمي بحيث لا يزيد على درجتين مئويتين عن مستويات ما قبل العصر الصناعي. كثير من السياسيين اليوم يعدون باستبعاد الطاقة النووية من مزيج الكهرباء في بلدانهم. لكنهم من المؤكد سوف يغيرون نهجهم هذا قريبا جدا— وسوف يعتمدون الطاقة النووية لأنها من بين الخيارات الأكثر موثوقية واستدامة لتوفير الكهرباء.

حالات الطوارئ النووية وأساتذة الارتجال

يوافق يوم الـ26 من إبريل الذكرى الـ30 لكارثة تشيرنوبل، والأشخاص الذين يتذكرون هذا الحدث يمكنهم أن يستحضروا مشاهد الانفجار والإخلاء والفزع. لكنهم نادرا ما يتذكرون حدثا هائلا في الاستجابة لهذه الكارثة: ألا وهو الانتهاء في نوفمبر من عام 1986 من التغطية الخرسانية لمفاعل تشرنوبل رقم أربعة. حيث قام عمال تم جلبهم من جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي ببناء هذا "التابوت" على أنقاض المفاعل المدمر في ظل ظروف إشعاعية عالية. حيث استخدموا كميات لا يمكن تصورها من الخرسانة— وقدرا كبيرا من الخيال. وقد صمدت هذه القبة الخرسانية، مع بعض الدعم، لمدة 30 عاما حتى الآن. (وحاليا يتم بناء هيكل أكبر ليغطي التابوت الحالي).

وبعدما تناقصت صفوف أولئك الذين استجابوا لكارثة تشيرنوبل على مر السنين، تم تدريب أجيال جديدة من المهنيين النوويين لمنع حدوث كارثة أخرى. وقد ركزّ تدريبهم على "ثقافة السلامة". وكان من المفترض أن يضمن ذلك الأمر، إضافة للـ"التصاميم الآمنة بطبيعتها"، مستقبلا نوويا خالٍ من الحوادث. ولبعض الوقت، بدا الأمر كما لو كان العالم على وشك النسيان إلى الأبد ما الذي تتطلبه فعلا الاستجابة لحالة طوارئ نووية. لكن في مارس 2011، انصهرت عدة مفاعلات متعددة في واحدة من أكبر محطات الطاقة النووية في العالم نتيجة لزلزال مدمر، تسونامي، وانقطاع مستمر للتيار الكهربائي.

وبصفتي دارسة لبرنامج الطاقة النووية السوفيتية وكارثة تشيرنوبيل، كان مؤلما بالنسبة لي مشاهدة لعبة اللوم التي جرت على الفور عقب كارثة فوكوشيما. حيث تم اتبّاع "سيناريو" تشيرنوبل بشكل حرفي تقريبا. في البداية، تم إلقاء اللوم على مشغلي المحطة. ثم تبيّن أن هناك خطأ في تصميم المفاعل. وأخيرا، جاء الدور على هيئة التنظيم النووي الوطنية. كما تلقت"الثقافة"، بطبيعة الحال، قدرا كبيرا من اللوم أيضا.

ولكن في حين يمكن وصف تشيرنوبل في النهاية بأنها كارثة سوفيتية الصنع والتي "لا يمكن أبدا أن تحدث هنا"— أينما كان موقع "هنا"— لم تسمح فوكوشيما بمثل هذا النفي القاطع. وبالفعل، فقد أثبتت فوكوشيما أنها كانت ناقوس الموت لفلسفة السلامة النووية التي تركز حصريا على منع وقوع الحوادث. التأهب للكوارث والاستجابة لها قد أُعطيا قدرا ضئيلا من الاهتمام في السنوات الفاصلة ما بين تشيرنوبل وفوكوشيما، لكنهما الآن قد أُضيفا إلى قاموس مفردات الصناعات النووية في العالم. لكن من الغريب، أن هذا التحول هو تحول جزئي فقط. إذ تستأثر الوقاية من الكوارث على النصي الأكبر من الاهتمام، كما يلقى التأهب للكوارث أحيانا نفس القدر من الاهتمام. لكن المصادر (والخيال) المكرّس لاستراتيجيات الاستجابة الفعلية لا يزال نصيبها من الاهتمام محدودا.

إن "الدروس المستفادة" من فوكوشيما— وكذلك التقارير الجديدة التي لا تزال تنشر عن هذه الدروس— تركز في الغالب على الحلول التقنية والقانونية والإصلاح التنظيمي والشواغل المتعلقة بالمسؤولية. وفي الولايات المتحدة، استجابت اللجنة التنظيمية النووية لكارثة فوكوشيما من خلال تعديل قواعدها ومبادئها التوجيهية المتعلقة بمنع الحوادث والتأهب والاستجابة لها. وفي الوقت نفسه، قامت الصناعة النووية الأمريكية بتنفيذ برنامج FLEX الذي يهدف إلى تزويد مفاعلات نووية معرضة للخطر بمعدات مثل مضخات إضافية ومولدات كهربائية، سواء عن طريق إتاحتها في الموقع أوتخزينها في المراكز الإقليمية. وفي أوروبا، خضعت مفاعلات الطاقة "لاختبارات الاجهاد" عقب كارثة فوكوشيما، وقد أثارت هذه الاختبارات نقاشا بين الدول المضيفة لمفاعلات الطاقة النووية حول مواءمة اللوائح الوطنية بشأن المخاطر الطبيعية (وغيرها) لمحطات الطاقة النووية، ولو حتى تمّ ذلك بشكل غير وثيق.

مثل هذه الخطوات تسير في الاتجاه الصحيح. لكن التركيز على الوقاية والتأهب دون الاستجابة يتجاهل حقيقة بسيطة: هى أن الكوارث النووية تتجاوز غالبا أسوأ التوقعات البشرية. وهناك سبب وجيه يجعل الصناعة النووية تشير إلى الكوارث باعتبارها "حوادث غير ناتجة عن التصميم"— إذ يوجد فقط عدد محدود من السيناريوهات التي يمكن توقعها والإستعداد لها. وبالتالي، تتطلب الكوارث وضع استراتيجيات مبتكرة للاستجابة تكون قائمة على المهارات والعمل الجماعي (مع بذل جهود مضنية لتجنب الكوارث تماما).

إن تدريب عمال الاستجابة لحالات الطوارئ يميل بوجه عام إلى التأكيد على المرونة والخيال، مع إيلاء أهمية كبرى لإجراء تقييمات سريعة وعمليات فرز بشكل غير مسبوق. لكن الوضع يختلف في حالة التدريب على الاستجابة لحالات الطوارئ النووية. إذ تبدو الصناعة النووية منزعجة للغاية من استخدام الخيال البشري لمعالجة الحالات التي تكون "خارج إطار القوائم المرجعية". في أوروبا والولايات المتحدة على الأقل— حيث إنني لا أستطيع أن أتكلم عن العالم أجمع— تبدو الصناعة النووية متيّمة بفكرة السيطرة. حيث توجد خطة لكل حالة طارئة يمكن تصورها. وفي حال فشل بعض الخطط، يوجد مزيد من الخطط الأخرى. ويتم تدريب العاملين على اتباع الإجراءات وتنفيذ التعليمات. لكن إن لم يفعلوا ذلك، فسيكون ذلك أمرا سيئا للغاية.

إلا أن هذه الطريقة، على النحو الذي وثّقه عالم الأنثروبولوجيا كونستانس بيرين، تخفق في الأساس في الاعتراف بالفوضى في تشغيل التقنيات الناقصة الموجودة في العالم الحقيقي (حيث إن جميع التقنيات ناقصة). والأسوأ من ذلك، فهى تعطل جانبا من جوانب الإبداع ، على الرغم من ارتباطه غالبا بموسيقى الجاز، والذي يمكن أن يكون هاما للغاية في حالات الطوارئ النووية: ألا وهو الارتجال. في الموسيقى، يستحضر الارتجال في الأذهان أعمالا غريبة وعشوائية وربما انفرادية. ولكن إذا تم التأكيد عليه في التدريب المتعلق بحالات الطوارئ النووية، فإن استعارة الارتجال يمكن أن تساعد في إعداد عمال الاستجابة لحالات الطوارئ للقيام بأعمال قائمة على المهارات والعمل الجماعي ودرجة عالية من التنظيم، في ظل ظروف صعبة.

في أي كارثة، يحدث الارتجال. حدث ذلك في تشرنوبيل، حتى لو كان تم شطب الخيال الإبداعي تماما من جميع التقارير المكتوبة. حدث الارتجال في فوكوشيما، وفي الحقيقة سوف يكون مزيد من الارتجال ضروريا إذا أردنا عدم تكرار كارثة فوكوشيما. يميل المرء غالبا إلى تذكر العمل الابداعي عندما يفشل فقط. وارتكاب مثل هذا الخطأ يعمل على انغلاق العقليات على فكرة السيطرة والتحكم. لكن مثل هذه العقليات سوف تنفجر— مرة أخرى— جرّاء حالة الطوارئ النووية التالية.

Round 2

ضرورة إشراك الجمهور من أجل التأهب للكوارث بشكل أفضل

أعرب عديد من القرّاء في تعليقاتهم على هذه المائدة المستديرة عن نظرة سلبية تجاه الطاقة النووية، التي يبدو أنهم يفضلون التخلص منها. وفي الوقت نفسه، نجد الكتّاب الثلاثة المشاركين في هذه المائدة المستديرة إما يجادلون لصالح الطاقة النووية أو يمتنعون عن الاعتراض عليها— بالرغم من إبرازهم للتحديات التي تنطوي عليها الاستعدادت للكوارث النووية. إذن ما الذي يفسر وجود هذا الاختلاف في وجهتىّ النظر بين القارئ العادي والخبير النووي؟

موقف القراء ليس مستغربا— فكثير من عامة الناس يعارضون الطاقة النووية لأنهم يخافون من أن أي حادثة نووية سوف تتجاوز السيناريوهات التي تم تصورها خلال تصميم المفاعلات، كما ستتجاوز أيضا قدرة البشر على معالجة آثارها. في الوقت نفسه، يدرك جيدا الكتّاب الثلاثة المشاركون في هذه المائدة المستديرة جميع التحديات— التقنية والقانونية والتنظيمية والنفسية، إلخ—التي تتضمنها عملية التأهب للكوارث والاستجابة لها. لكن حتى مع إدراك الكتّاب للحاجة إلى تعزيز قدرات التأهب للكوارث والاستجابة لها بكل وسيلة ممكنة، فهم لا يرون ضرورة للقضاء على الطاقة النووية.

بدلا من ذلك، يؤكد الكتّاب على أهمية التعلم من الكوارث السابقة، كما ذكرتُ في الجولة الأولى. أو أنهم يدعون إلى تنسيق عالمي لإجراءات الطوارئ، كما قال أوجستين سيمو. أوأنهم يجادلون، مثلما فعلت سونيا شميد، بأنه يجب أن يتاح لموظفي المحطات النووية قدرا أكبر من الحرية للارتجال وممارسة الإبداع في حالات الطوارئ.

وأظن أن المعرفة هى أحد العوامل التي تبين الاختلافات بين وجهات نظر العامة ووجهات نظر الخبراء. بالطبع هناك عديد من الخبراء واسعي الإطلاع معارضون للطاقة النووية. وفي المقابل هناك أيضا عديد من الأشخاص العاديين الذين يعارضون الطاقة النووية بسبب ضئالة معرفتهم.

يقع جزء من اللوم في هذا الصدد على عاتق المؤسسات النووية، وعلى "السرية الكامنة في المنشآت النووية"، إذا ما استعرنا عبارة سيمو. إن الميل نحو السرية يمكن أن يجعل مشغلي المفاعلات النووية يتعاملون مع التكنولوجيا النووية على أنها شيء خارج نطاق قدرة فهم الشخص العادي. ولم يحاول كثيرون في المؤسسات النووية مطلقا شرح ظاهرة النشاط الإشعاعي مثلا (حيث يوجد قدر كبير منها في الطبيعة بشكل غير مؤذي). ولم يكلفوا أنفسهم أبدا— نتيجة للكسل أو عدم الاهتمام في بعض الحالات— القيام بوصف المزايا المطورة للسلامة والتدريب المعزز للمشغلين وهى أمور تقلل من خطر الكوارث النووية. قلق الجمهور من الطاقة النووية وشعورهم بعدم الثقة فيها هو نتاج للتواصل غير الكافي معهم.

في وقت من الأوقات، كان البشر يخافون من النار— حتى تعلموا كيف يمكن استخدامها بأمان، مع أخذ الاحتياطات الكافية، لتحقيق منافع عظيمة. لذا يجب على المؤسسات النووية التخلص من عاداتها السرية والتشجيع الفعلي للجمهور للتعرف على مزايا السلامة النووية والاستعداد للحوادث. بهذه الطريقة، قد يتمكن الجمهور من التغلب على خوفه من المجهول.

لا تعمل في فراغ. ثمة آلية أخرى يمكنها أن تعزز الثقة في التأهب للكوارث وهى النظام الرقابي النووي في البلاد. في أعقاب كارثة فوكوشيما، خُصص قدر كبير من الاهتمام للاستحواز التنظيمي— وهو وضع تكون فيه الصناعة النووية هى المهيمنة على الهيئة التنظيمية المفترض أنها هى التي تنظم تلك الصناعة— ولذلك تسعى الدول المشغلة لمفاعلات نووية أن تجعل منظماتها الرقابية وعملياتها التنظيمية صارمة ومستقلة قدر الإمكان. وبلا شك، تعد الثقة في الهيئات التنظيمية أمرا ضروريا للتشغيل الملائم للمفاعلات وأنظمة الاستجابة للطوارئ. لكن الثقة في الأجهزة التنظيمية لا توجد في فراغ—مثلما لا تتواجد الأجهزة التنظيمية ذاتها في فراغ. إن ثقة الجمهور في الأجهزة التنظيمة تعكس التصورات الشاملة للمجتمع حول النزاهة والصدق وثقافة السلامة. على سبيل المثال، يمكن أن تكون مواقف الأشخاص تجاه العمليات النووية سلبية للغاية في دولة ذات ثقافة متهاونة بشأن سلامة وسائل النقل.  

لكن هناك مظهر إيجابي— وهو أن القوة النووية تتمتع بتنظيم ذاتي إلى حد ما. إن التكنولوجيا النووية لا تعرف الغفران، ويمكن أن يثير حادث نووي محلي ضجة عالمية بسرعة. وهذا ما يدفع الصناعة النووية في جميع أنحاء العالم للحفاظ على معايير عالية، وإخضاع نفسها لاستعراضات ومراجعات الأقران، وحتى القيام بمحاولات لتنسيق إجراءات التشغيل.

إن ما ينبغي الاعتراف به في هذا الصدد هو أنه لا يمكن أبدا أن تكون هناك استراتيجية مثالية للوقاية من الكوارث والتأهب لها. لذا فإن النهج الصحيح للدول التي اختارت الطاقة النووية كإحدى تقنياتها لتوليد الكهرباء هو إحكام عملية الوقاية من الكوارث والتأهب لها على أكمل وجه. ومن الضروري كذلك القيام بإبلاغ ترتيبات الاستعداد والاستجابة للجمهور بطريقة شفافة.

تواجه الطاقة النووية تحديات لن تختفي لمجرد أن أصبح الجمهور شريكا في استراتيجيات الاستعداد للطوارئ والاستجابة لها. لكن إشراك الجمهور يجب أن يكون جزءا من الحل.

أهمية الإجماع العلمي والبيانات الموثوقة أثناء وقوع كارثة

ليس من المستغرب وجود تفاوت كبير في تقديرات أعداد ضحايا تشرنوبيل. فقد ذكرت زميلتي سونيا شميد في الجولة الثانية من هذه المائدة المستديرة أن منظمة الصحة العالمية أصدرت تقريرا عام 2005 يفيد بأن ضحايا تشيرنوبيل سوف يبلغ عددهم أربعة آلاف شخص. وفي العام التالي، قدّرت منظمة السلام الأخضر أن الكارثة سوف تتسبب في إصابة حوالي مائة ألف شخص بسرطانات قاتلة. تعد هذه الأرقام متباينة للغاية، لكن حساب المخاطر الإشعاعية دائما ما يكون معضلا. فعندما يتعلق الأمر بجرعات منخفضة من الإشعاع، يكون هناك قدر كبير من عدم التيقن. كذلك تنطوي المخاطر التي تتعرض لها فئات معينة من السكان على قدر كبير من عدم التيقن. وفي الوقت نفسه، تختلف طرق التقييم من منظمة إلى أخرى. وربما لن يتم الجزم بشأن العدد الصحيح لضحايا تشيرنوبيل لفترة طويلة، أو ربما إلى الأبد. أما عدد ضحايا كارثة فوكوشيما فيعتبر سؤالا مفتوحا أيضا. هناك حاجة إلى تحسين الأدلة الإحصائية من أجل تعزيز العدد المتوقع لضحايا الكوارث النووية— إذ هناك نقص في الدراسات الكمية التي يمكنها التحقق من صحة تقديرات الأعداد الإجمالية للضحايا من السكان المعرضين للمخاطر الذين تنطبق عليهم عوامل مخاطر معينة.

إن عدم وجود إجماع حول تقدير عدد الضحايا يقوض للأسف ثقة الجمهور في الطاقة النووية. لكن إذا اعتمد المجتمع العلمي النووي نهجا موحدا لتقدير الخسائر المتعلقة بالكوارث، فإن قلق الرأي العام من الطاقة النووية قد يصبح بلا شك أكثر مرونة. ومن الناحية المثالية، ينبغي أن يتوصل المجتمع العلمي الى إجماع للآراء، ثم يبدأ على الفور في تنفيذ هذا الإجماع. ومن شأن هذا النهج أن يؤدي على الأرجح إلى قبول أكبر للطاقة النووية مقارنة بالقبول الناجم عن الاختلاف الحالي في الرأي العلمي.

بشكل عام، تشير الدراسات العلمية إلى أن الضرر النفسي الناجم عن وقوع حادث نووي قد يكون أكثر ضررا من آثار الإشعاع نفسه. وقد لاحظت شميد أن الضغط النفسي المرتبط بالإخلاء يعد شكلا منطقيا من أشكال الصدمات النفسية، كذلك الخوف البسيط له نفس هذا التأثير. لذا تمثل معرفة كيفية إدارة هذه الآثار النفسية تحديا خطيرا أمام أي نظام للتأهب للكوارث والاستجابة لها.

الأولويات الأولى. كتبت شميد أن التأهب للكوارث والاستجابة لها "هى في مجملها تعهدات مادية وتقنية" لكنها "لا تقتصر على الأمور التقنية فحسب". وهى بالطبع محقة في ذلك. لكن في أي كارثة، يجب أن تكون الجوانب التقنية للتأهب والاستجابة لها أولى الأولويات. ومنذ لحظة وقوع أية حادثة، يجب تجميع البيانات التي يمكن أن تساعد في تحديد نطاق حالة الطوارئ وتقديم التوجيهات لاتخاذ إجراءات من قبل أول المستجيبين للكارثة. كما يجب أن يكون هناك رصد مستمر وفي الوقت الحقيقي للمساعدة في تقييم النتائج الفورية للحادث والآثار المحتملة على الأفراد والبيئة. كما يجب أن تشكل البيانات الموثوق بها أساسا لأي تصريحات علنية من قبل المسؤولين أو الخبراء. وكما كتبت مانبريت سيثي، يجب أن يتاح للمسؤولين "سرعة الوصول إلى آراء علمية مطلعة وتقديرات الخبراء حتى يتمكنوا من اتخاذ قرارات سليمة في أوقات الضغوط القصوى".

لكن من السهل أن تصبح البيانات وتفسيرها مثارا للجدل— ولا سيما عندما يتدخل المسؤولون المحليون. فمثلا، في وقت مبكر من بداية كارثة فوكوشيما، بدأ مركز تكنولوجيا السلامة النووية الياباني في "نشر توقعات عن انتشار مواد مشعة (توقعات بانتشار سحب مشعة)." لكن محافظة فوكوشيما قررت أن المعلومات المقدمة لم تكن حديثة بما فيه الكفاية ولم تعلنها مطلقا بشكل رسمي. يمكن لاختلافات من هذه النوعية أن تؤخر اتخاذ الإجراءات اللازمة.

إحدى المخاطر الأخرى المتعلقة بتأخير اتخاذ إجراءات مناسبة تكمن في السرية الملازمة للمنشآت النووية. إذ يمكن للرغبة المفرطة في الحفاظ على السرية أن تؤخر التفاعل مع الخبراء الأجانب والمؤسسات الأجنبية. لذا يجب مقاومة هذه النزعة لأنه من المهم للغاية في حالة الطوارئ أن يتبادل المجتمع الدولي للخبراء وجهات النظر والنهج في الوقت المناسب.

ضحايا تشيرنوبيل والتحديات المتعلقة بتقديرات الخبراء

الاستعداد لحالات الطوارئ النووية والاستجابة لها هى في مجملها تعهدات مادية وتقنية. إذ إنها تنطوي على معدات مثل مضخات ومولدات وأوعية حاوية وطائرات هليكوبتر. لكن الاستعداد لحالات الطوارئ والاستجابة لها لا تقتصر على الأمور التقنية فحسب، بل تشتمل أيضا على صكوك قانونية متطورة وقدرات مؤسسية، كما أوضحت زميلتي في هذه المائدة المستديرة مانبريت سيتي. إضافة إلى ذلك، كما لوحظ في قسم تعليقات القرّاء، تشتمل عملية الاستعداد للطوارئ والاستجابة لها على قدرات تنظيمية وتدريبية متطورة.

لكن مهما بلغ عدد الاتفاقيات الدولية التي صدقت عليها دولة ما، ومهما اتّسم نهج هذه الدولة بالمرونة (أو عدم المرونة) فيما يتعلق بالحوادث غير الناجمة عن خطأ في تصميم المفاعل، ترجع في النهاية القرارات الحاسمة في حالة الطوارئ الفعلية إلى موظفي المفاعل—وإلى تقديرهم لمدى حجم الحالة الطارئة. وكلما تطورت الكارثة، تطوّرت معها التقديرات. ويقوم الخبراء بتغيير وجهات نظرهم بشأن شدة الكارثة وتداعياتها المحتملة. كما يكتشفون وجود تشابكات بين أنظمة كان يُعتقد سابقا أنها غير ذي صلة بالأمر.

كل ذلك يعيق نوع الاتصال الذي دعت إليه سيثي في الجولة الأولى— وهو الاتصال الفعال أثناء وقوع حالة طارئة. وعند مناقشتها تأخير إيصال معلومات دقيقة أثناء كارثتىّ تشيرنوبيل وفوكوشيما، كتبت سيثي تقول إنه "يجب أن يتاح للموظفين العمومين [أثناء حالات الطوارئ] سرعة الوصول إلى آراء علمية مطلعة وتقديرات الخبراء حتى يتمكنوا من اتخاذ قرارات سليمة في أوقات الضغوط القصوى". وجادلت سيثي بأنه يجب أن يكون المسئولون قادرين على تصنيف مدى شدة الحادثة بسرعة وبشكل صحيح. لكن إحدى مشاكل الحوادث الشديدة هى أنه يصعب عادة، على المسؤولين والخبراء على حد سواء، تقييم مدى سوء الأمور بسرعة وبدقة. وقد يكون من المستحيل إجراء تصنيف دقيق في حين أن الكارثة لا تزال تتضح معالمها— أو بالأحرى، قد تستحق الكارثة تصنيفات مختلفة أثناء تطورها.

إذن، قد يكمن التحدي الحقيقي في إيصال معلومات ناقصة أو غير مفهومة، وفي اتخاذ قرارات بناء على تلك المعلومات. وعلى الرغم من الأهمية القصوى لما دعت إليه سيثي من توفر "الآراء العلمية المطلعة وتقديرات الخبراء" في حالات الطوارئ، فهذه الأشياء لا تخلو من الخطأ.

عواقب مبرّرة. إحدى المجالات التي يكون فيها تقدير الخبراء هاما للغاية — والتي تثير جدلا كثيرا— تتعلق بالعواقب الطبية للكوارث النووية. ذكر أوجستين سيمو في الجولة الأولى أن عدد وفيات تشيرنوبيل بلغ حتى الآن حوالي 56 شخصا. كما ذكرت سيثي عددا مماثلا (لكنها أقرت بأن عدد الوفيات قد يرتفع على المدى الطويل). استشهد كلا المؤلفين بهذه الأعداد كدليل على أن الصناعة النووية آمنة بما فيه الكفاية. كما اشتملت حججهم ضمنيا على مقارنات بأعداد الوفيات المرتبطة بنشاطات يومية— على سبيل المثال، يموت يوميا حوالي 90 شخصا في الولايات المتحدة جرّاء حوادث سيارات وشاحنات ودراجات نارية. وثمة دائما إغراء لإجراء مقارنات عندما يتم فحص تقنيات عالية المخاطر مثل الطاقة النووية. إلا أن إجراء مقارنات من هذه النوعية تتعرض لمشكلة ذات شقين.

أولا، سيظل دائما عدد الوفيات في أي كارثة نووية موضوعا مثير للجدل بشكل كبير. فقد توقع تقرير حول وفيات تشيرنوبيل أصدرته منظمة الصحة العالمية ومنظمات عديدة أخرى عام 2005 بأنه "قد يموت حوالي 4000 شخص في النهاية من التعرض للإشعاع". لكن تقريرا آخر أصدرته منظمة السلام الأخضر عام 2006 احتجّ على تلك الأعداد، وقدّر أن الكارثة سوف تتسبب في إصابة 250 ألف شخص بالسرطان، منهم 100 ألف حالة مميتة. ما تدلّ عليه هذه التقديرات المتباينة بشكل كبير هو أنه يصعب للغاية أن نعزو وفيات متأخرة لأسباب معينة. في الواقع تقبل المجتمع الدولي علاقة سببية واحدة مباشرة بين كارثة تشيرنوبيل والاصابة بالسرطان— والتي تشمل سرطان الغدة الدرقية لدى الأطفال. وحتى هذا القبول المحدود، كما تجادل أولجا كوتشينسكايا من جامعة بيتسبرج في كتابها الجرئ "السياسات الخفية"، يرجع فقط إلى جهود علماء من بيلاروسيا، والذين يتعرضون لتهميش متزايد في بلدهم.

ثانيا، ليست الوفيات هى العاقبة الوحيدة للكوارث، سواء كانت نووية أو غير ذلك. فهناك الصدمات النفسية التي تسببها الحالات الطارئة، والضغوط الناجمة عن الإخلاء (المؤقت)، أو حتى "رهاب الطاقة النووية" الذي أشار إليه زميلي سيمو (سواء أكان لهذا الرهاب ما يبرره أم لا) – إذ يمكن أن تتسبب جميع هذه الأمور في حدوث آثار فسيولوجية وعقلية تماثل في خطورتها السرطان. مما يعني أن الوفيات ليست هى الآثار السلبية الوحيدة المبرّرة للحوادث النووية. وحتى حالات التعافي من السرطان يمكن أن تكون لها آثار تبعية خطيرة—"علاج" سرطان الغدة الدرقية غالبا ما يعرض المرضى إلى الاستئصال الجراحي للغدة الدرقية والاعتماد على نظام من العلاج البديل مدى الحياة.

تظهر حالة عدم التأكد من عدد ضحايا تشرنوبيل أن "الآراء العلمية" ليست دائما متفق عليها بالاجماع، وكذلك الحال بالنسبة إلى"تقديرات الخبراء". كما أن الخبرات العلمية ليست بمنأى عن الجدل، وتقديرات الخبراء تتغير بمرور الوقت.

Round 3

حساب المخاطر النووية والثقة في قدرة البشر على الابتكار

بينما كنت جالسة لكتابة مقالي الأخير في هذه المائدة المستديرة، وافتني الأخبار بوقوع حادث تصادم بين حافلة وسيارتين على طريق مومباي— بونا السريع، وهو طريق مزدحم يصل بين المدن الهندية الكبرى، أسفر عن مقتل 17 شخصا. وقد تم تسجيل 285 حالة وفاة على هذا الطريق منذ عام 2014، وذلك وفقا للعدد الصادر يوم 6 يونيو من صحيفة "تايمز أوف إينديا". لكن لم يتم إغلاق هذا الطريق السريع حتى يومنا هذا.

في عام 2013، توفي 1.6 مليون شخص في الصين و 1.4 مليون شخص في الهند جرّاء ظروف ناجمة عن تلوث الهواء. كان التلوث الذي قتلهم ناشئا عن حرق الأخشاب وروث الحيوانات ومخلفات المحاصيل لأغراض الطهي والتدفئة، وعن طريق حرق الفحم لتوليد الكهرباء، وعن عوادم السيارات. وتنص المبادئ التوجيهية لنوعية الهواء التي وضعتها منظمة الصحة العالمية على ألا يزيد المتوسط اليومي لتركيز الجسيمات في الهواء عن 25 ميكروجرام لكل متر مكعب. لكن في شهر فبراير، بلغت نسبة تركيز الجسيمات في هواء بكين ونيودلهي 300 ميكروجرام لكل متر مكعب، أو حتى أكثر من ذلك. وبرغم ذلك، لا أحد يُجرم حرق الوقود لأغراض الطهي والتدفئة، أو استخدام المركبات في التنقل.

أنا لا أستعرض هذه الأرقام من أجل التقليل من مخاطر توليد الطاقة النووية— بل لوضع الأمور في نصابها. صحيح أن التكنولوجيا النووية تصاحبها مجموعة من المخاطر، لكن هناك أيضا مخاطر تصاحب عبور شارع مزدحم في مدينة عصرية في أي دولة في آسيا. يتجول الناس في كل مكان لممارسة نشاطاتهم الروتينية اليومية— حيث يتعرضون للمخاطر ويتخذون احتياطاتهم ويبقون دائما على استعداد.

موقف المرء. تساءل زميلي في هذه المائدة المستديرة ستيفن ستار لماذا "يُسمح للمفاعلات بالاستمرار في إنتاج كميات كبيرة من السموم النووية" التي سوف تبقى "بالحسابات البشرية" إلى الأبد؟ قدم ستار هذا التساؤل باعتباره السؤال الصحيح عن الطاقة النووية. لكن بالنسبة إلىّ فالسؤال الصحيح هو لماذا يجب علىّ أن أتنفس انبعاثات سامة من مصادر طاقة قذرة في الوقت الحاضر— بينما تستطيع الطاقة النووية إمدادنا بكهرباء خالية من الانبعاثات الضارة. 

وهذا يقودني إلى النقطة التي ذكرتها سونيا شميد بشأن التصورات المختلفة للأشخاص بشأن المخاطر. أعتقد أن موقف المرء من قضية معينة يتوقف على موقفه من الحياة بشكل عام. لقد جئت من منطقة تعتبر توفر الكهرباء يوميا وعلى مدار الأربع والعشرين ساعة حلما. لذلك تشمل حساباتي الشخصية للمخاطر المستشفيات التي لا تضمن توفر الكهرباء لها ليلا و نهارا— حيث قد لا تعمل النظم الداعمة للحياة بشكل صحيح وقد يموت المرضى نتيجة لذلك. أرى أن ذلك يعد خطرا أكبر من الحوادث النووية، التي من المفترض ألا تقع من الأساس إذا تم تشغيل الأنظمة النووية باستخدام إجراءات السلامة المثلى.

أنا أتفق تماما مع ما قاله ستار بأن إدارة النفايات هى واحدة من القضايا الكبرى المتعلقة بالطاقة النووية التي لم تحل بعد، لكن لا يزال البحث والتطوير بشأن التخلص من النفايات النووية مستمرا في أجزاء كثيرة من العالم. في الواقع، أعلنت الهند خطوة هامة إلى الأمام في المؤتمر العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية في سبتمبر 2014— وهي التكليف بإنشاء مرفق لفصل الأكتينيدات في مركز أبحاث بهابها الذري في تارابور. ووفقا لراتان كومار سينها، رئيس لجنة الطاقة الذرية حينئذ، يقوم المرفق بفصل "الأكتينات الثانوية عن … النفايات عالية المستوى الاشعاعي"، وهي عملية قد تقلل من عمر النفايات المشعة "من حوالي ألف سنة إلى حوالي 300 سنة". يقلل الفصل أيضا من حجم النفايات عالية المستوى الاشعاعي التي تتطلب تخزينا على المدى الطويل. وعلاوة على ذلك، "قد تم تطوير إحدى التقنيات لإزالة [السيزيوم] -137 ذات الاشعاع العالي وتحويله إلى [شكل] صالح للاستعمال لأجهزة تشعيع الدم وأجهزة التشعيع المماثلة التي تستخدم جرعات إشعاعية منخفضة". أنا متمسكة بالثقة في الإبداع البشري وقدرته على إيجاد حلول للمشاكل التي قد تبدو مستعصية على الحل اليوم.

جادلتُ في الجولة الثانية بأن المؤسسات النووية يجب أن تتشارك مع العامّة لبناء مزيد من الثقة في الطاقة النووية. لكن بناء الثقة لا يمنح المؤسسات النووية "تفويضا مطلقا لاتخاذ قرارات بالنيابة عن العامّة"، كما كتبت سونيا شميد. سوف أذهب أبعد من ذلك وأقول إن الشراكة بين المؤسسات النووية والعامّة هي طريق ذو اتجاهين: عندما يجعل الجمهور الواعي الصناعة النووية في حالة استعداد وترقب مستمر، سوف تتحسن السلامة النووية والاستعداد للطوارئ.

من أجل تقبّل الطاقة النووية: يجب أن تختلف الاستراتيجيات

أعترف بصحة الاتهام الموجّه من زميلي في هذه المائدة المستديرة ستيفن ستار بأننا لا نرى أن هناك حاجة للقضاء على الطاقة النووية. فقد قال ستار إنني وسونيا شميد ومانبريت سيثي "قد نقترح سياسات جديدة أو إصلاحات تقنية للصناعة النووية، لكننا لن ندعوا إلى إلغاء هذه الصناعة". هذا صحيح تماما— فأنا لا أدعو إلى إلغاء هذه الصناعة التي يمكن أن تحسن بشكل كبير إمدادات الكهرباء في الدول النامية، حيث يوجد ملايين من الناس محكوم عليهم بالفقر إذا بقيت الطاقة اللازمة للتصنيع غير متوفرة.

الدول التي تشرع في برامج الطاقة النووية لديها عموما أسباب قوية لفعل ذلك— من بينها عدم وجود بدائل جيدة لتلبية احتياجاتها من الكهرباء. ويمكن أن تشمل الأسباب أيضا الثقة في سلامة المفاعلات النووية الحالية والثقة في أنه سوف تتوفر مفاعلات أكثر أمانا على المدى قريب. في معظم الحالات، عندما يدرك عامّة الناس الأسباب الكامنة وراء الحصول على الطاقة النووية، فسوف يدعمون قرار صانعي السياسات. ولذا فمن المهم للغاية أن تستوعب العامّة الجهود الجارية لتحسين سلامة المفاعلات، والتقدم الذي تم إحرازه في مجال السلامة منذ كارثة تشيرنوبيل؛ والخطوات التي اتُخذت منذ حادثة فوكوشيما لتجنب وقوع كارثة مماثلة في المستقبل.

غير أن الدول تُظهر مستويات متباينة للغاية فيما يتعلق بالتعليم والتقدم التكنولوجي، وبالتالي سوف تختلف استراتيجيات التواصل مع العامّة بشأن الطاقة النووية من بلد إلى آخر. على سبيل المثال، في الدول ذات القطاعات النووية الراسخة، توفر الصناعة النووية وظائف يحرص الناس ألا يفقدونها. لذا يمكن أن يشرح الموظفون، إذا كان هناك عدد كافٍ منهم، فوائد التقنية النووية للآخرين ضمن بيئاتهم الاجتماعية مما يحدث فرقا كبيرا في القبول العام. لكن في البلدان الأقل نموا، قد يكون الوضع مختلفا تماما. إذ يتطلب ذلك مستوى معين من التعليم لفهم التكنولوجيا وميزات السلامة النووية، لذلك في البلدان التي يكون سكانها أقل تعليما— يشمل ذلك عديد من دول قارتي الأفريقية— ينبغي أن يركز التواصل مع العامّة على موارد الطاقة المحلية وعدم قدرتها على توفير الكهرباء الكافية للتصنيع. إذا أدرك عامة الناس أن التصنيع لا يمكن أن يتقدم بدون الطاقة النووية، فسوف يدعمون الطاقة النووية على الرغم من احتمالية وقوع حوادث نووية— بنفس الطريقة التي يسافر بها الأشخاص جوا لأن الطائرات فقط هى التي يمكنها أن توفر الانتقال السريع بين القارات، على الرغم من أنه لا يمكن تجنب حوادث تحطم الطائرات تماما.

ينبغي على الأمم التي تسعى للحصول على الطاقة النووية لتحقيق أهدافها الإنمائية أن تتشارك عمليات صنع القرار مع الدول الأخرى التي توجد في أوضاع مماثلة. وفي الوقت نفسه، يجب أن تكون الهيئات التنظيمية النووية شفافة في تفاعلها مع العامّة. هذه الوكالات هى حلقة الوصل بين الصناعة النووية وعامّة الناس. فيجب أن تثبت دائما استقلالها وقدرتها على تنظيم الطاقة النووية بشكل مناسب.

حتى لو كانت هناك دول تتراجع عن الطاقة النووية، مثلما تفعل ألمانيا حاليا، فمن المرجح أن تزداد أعداد الدول المشغلة لقطاعات الطاقة النووية. سوف يزداد كذلك العدد الإجمالي للمفاعلات العاملة. وهذا ببساطة يرجع إلى أن العديد من الدول تعتبر الطاقة النووية عنصرا ضروريا موثوق به من أجل مزيجها لتوليد الكهرباء في المستقبل.

الخبراء والعامّة والفروق الدقيقة في التأهب للكوارث

لطالما تحيّر المهندسون وعلماء النفس وعلماء الاجتماع في فهم الاختلافات المتعلقة بتصور المخاطر— وبصفة خاصة، لكن ليس على وجه الحصر، عندما يتعلق الأمر بالقضايا النووية. لماذا يخاف أناس مختلفون من أشياء مختلفة؟ ولماذا يتجاهلون في كثير من الأحيان الحسابات العلمية المتعلقة بالاحتمالات والوفيات؟

أشارت مانبريت سيتي، في الجولة الثانية، إلى أن الخبراء يميلون لدعم الطاقة النووية في حين يجنح غير الخبراء— الأشخاص العاديون— إلى معارضتها. وجادلت سيثي بأن عدم ثقة العامّة في الطاقة النووية يرجع إلى افتقارهم للمعرفة، التي هى "نتاج للتواصل غير الكافي معهم" من قبل الخبراء. يمثل هذا الموقف نقطة توتر معتادة ومتكررة في تقييم تصور المخاطر المثير للجدل. لكنه يتجاهل عقودا من أبحاث العلوم الاجتماعية التي درست بدقة معارف الخبراء مقابل معارف الناس العاديين ومفهوم الثقة و"نموذج نقص المعلومات" المتعلق بتوصيل العلوم إلى العامّة.  

لا يعتبر التمييز بين الخبراء والأشخاص العاديين مفيدا بشكل خاص— إلا إذا ميّز المرء بدقة بين سمة وميزة ومستوى خبرة الأشخاص المعنيين. أحد الأمثلة التقليدية على ذلك هم مربو الأغنام في شمال غرب انجلترا الذين أجرى عليهم بريان وين، أستاذ الدراسات العلمية في جامعة لانكستر، بعض الدراسات في أعقاب كارثة تشيرنوبيل. حيث وجد وين أن باستطاعة مربي الأغنام، نظراً لمعرفتهم العميقة بسلوك الرعي وإلمامهم بآثار الحوادث السابقة في مفاعل سيلافيلد لإعادة المعالجة الواقع بالقرب منهم، القيام بتنبؤات أكثر دقة وصلة بالواقع مقارنة بالعلماء الذين ركزوا فقط على قدرة التربة المحلية على تخفيف التلوث الإشعاعي.

مشكلة الخبرة، إذن، هى مشكلة معقدة. إذ يعد كل شخص خبيرا في بعض المجالات وشخصا عاديا في العديد من المجالات الأخرى. وبالإضافة إلى ذلك، يتجاهل التمييز الواضح بين الأشخاص العاديين والخبراء قدرة الناس على التعلم، إذ إن هناك أدلة كثيرة تثبت أن الأشخاص العاديين يمكنهم تثقيف أنفسهم بشكل فعال في القضايا التي تهمهم، بدءًا من المشاكل الصحية وانتهاءً بالطاقة النووية. عندما يصف الخبراء النوويون اعتراضات الأشخاص العاديين بأنها اعتراضات ناجمة عن "جهل"، فهم يضيعون بذلك وجهات نظر قيمة لمشاكل محتملة في مجال الطاقة النووية، فضلا عن حلول واعدة.

لا يوجد تفويض مطلق. لقد أكدّ كل من سيثي وأوجستين سيمو على أهمية ثقة العامّة بالنسبة للطاقة النووية. واقترحا أن يقوم العلماء ومسئولو الصناعة النووية بالعمل على استعادة تلك الثقة— وذلك عن طريق تثقيف الناس العاديين الذين لا تتوفر لديهم معلومات كافية عن ميزات الأمان الجديدة والمتقدمة أو من خلال تقديم معلومات واضحة ومبسطة للعامّة عن عواقب الكوارث النووية. تتوافق مقترحات سيثي وسيمو مع ما حاولت أجيال من المبلغين المهنيين عن المخاطر القيام به على نحو متزايد— وهو (وأنا هنا أعيد صياغة ملخص ما قام به العالم باروك فيشهوف بجامعة كارنيجي ميلون بشأن سبب فشل العديد من جهود الإبلاغ عن المخاطر) القيام بـ"تقديم الأرقام إلى العامّة، وشرح ما تعنيه هذه الأرقام، والتعامل معهم بلطف".

المشكلة مع هذا النهج هو ذات شقين. أولا، أن المعلومات المتعلقة بحالات الطوارئ النووية وآثارها ليست مؤكدة بشكل أساسي. إذ لا يمكن ضغط "الأرقام" في رسالة واحدة متسقة—حيث يجب الأخذ في الاعتبار العديد من العوامل القرينية والطارئة. ثانيا، هناك خطأ أساسي في مفهومنا لثقة العامّة وهو أن نفترض أنه بمجرد أن يتم بناء هذه الثقة، يتم منح تفويض مطلق لاتخاذ قرارات نيابة عن العامّة. لكن على العكس، فالثقة هي علاقة ديناميكية تنطوي على حوار مستمر يتسم بالاحترام بين الأفراد والمنظمات.

التواصل الفعال مع الأفراد والمجتمعات التي يحتمل تضررها مهم للغاية بالنسبة للاستعداد للطوارئ النووية والاستجابة لها. لكن النماذج المتبعة في الإبلاغ عن المخاطر قد تكون في حاجة إلى مراجعة شاملة. ماذا لو اعتبرنا عامة الناس الانتقاديين والمرتابين ميزةً بدلا من كونهم عائقا؟ ماذا لو وضعت الصناعة النووية مزيدا من الثقة في قدرة الأشخاص العاديين لمعرفة المزيد عن الأنظمة المعقدة وتفسير حالات عدم التيقن بشكل مناسب؟ ماذا لو حاول كلا الجانبين في هذا النقاش المستقطب احترام مخاوف الآخر بدلا من اعتبارها غير عقلانية على الفور؟ الشئ المؤكد هنا: هو أن قدرات التأهب للطوارئ النووية والاستجابة لها سوف تستفيد إذا تم تضمين هذه الفروق الدقيقة في المحادثات المتعلقة بها بشكل أكبر.



Topics: Nuclear Energy

 

Share: [addthis tool="addthis_inline_share_toolbox_w1sw"]