The authoritative guide to ensuring science and technology make life on Earth better, not worse.

هل فات أوان منع انتشار الصواريخ!؟

شرع المجتمع الدولي أو شريحة منه في وضع مجموعة من الترتيبات من شأنها تقويض تدفق الصواريخ وتكنولوجياتها إلى الدول (والجهات الفاعلة غير الحكومية) التي تفتقر إليها. حققت تلك الترتيبات بعض النجاحات إلا أنها كشفت في الوقت ذاته عن مساويء خطيرة. فلا تتساوي جميع الدول الممولة في درجة التزامها بمنع انتشار القذائف. ويلجأ القائمون على عمليات انتشار الصواريخ بإصرار - حال عدم استطاعتهم الحصول على تكنولوجيا الصواريخ بطرق أخرى أو حال عدم رضاهم عن تلك الوسائل إلى محاكاة الصواريخ الموجودة أو اللجوء في نهاية الأمر إلى إنتاج تكنولوجيا محلية. ويتضح من جميع ما سبق أن تكنولوجيا الصواريخ قائمة بالفعل منذ عشرات السنين. فيما يلي، عرض لنقاش دار بين ثلاثة كُتَّاب من الهند واليابان وتركيا حول التساؤلات التالية: هل بالإمكان تقويض عملية انتشارتكنولوجيا الصواريخ؟ وإذا كان الجواب بنعم، فالسؤال هنا-  كيف؟ وإذا كان الجواب بلا، فالسؤال هنا-  ما هو الأسلوب الأمثل للتناول الدولي لواقع انتشار الصواريخ؟

تابعونا على الفيس بوك:

Bulletin of the Atomic Scientists: اللغة العربية

تابعونا على تويتر:

@Bulletin_Arabic

 

Round 1

السبل نحو إحياء عمليات منع انتشار الصواريخ

خرج عفريت تكنولوجيا الصواريخ من الزجاجة وما زال خارجها حتى الآن ولم يعد أمر عودته إليها هينًا بل صار أمرًا محالا. تمتلك الآن بالفعل ما يزيد عن أربع وعشرين دولة القدرة العلمية والتكنولوجية والصناعية التي تؤهلهم لانتاج صواريخ بالستية أو صواريخ كروز أو كليهما معا. ويرجع تاريخ التكنولوجيا الدائر حولها الجدل إلى ما يزيد عن سبعين عاما، هذا كما أصبحت للعديد من التكنولوجيات والمعرفة والمواد المتعلقة بالصواريخ استخدامات مزدوجة ما يعني أن تطبيقاتها المدنية والتجارية وانتشارها اصبح مشروعاً. وعليه فقد تلاشت بمرور الزمن الجهود المبذولة لتقويض عمليات انتشار الصواريخ.

يَصْدُق هذا القول على الرقابة على الصادرات بصفة خاصة، حيث عمدت نماذج متعددة من الترتيبات إلى الحد من تدفق الصواريخ مكتملة الصنع والتكنولوجيات والمواد المرتبطة بها إلى الدول التي لا تمتلك بالفعل أي منها. تقلل التجارة العالمية الآخذة في التوسع على الدوام من فعالية الرقابة على التكنولوجيا والصادرات حينا بعد حين، وهذا ما تحققه كذلك الأسفار السهلة منخفضة التكلفة عبر الحدود، وهذا يفسر التقدم المذهل في تخزين المعلومات ونشرها والتي نلحظ توافرها في تلك التطبيقات اليومية  كالانترنت على سبيل المثال.

ومما زاد الأمر تعقيدًا، أن بعض الدول التي تظهر بمظهر "الفتى الطيب" في مشهد منع الانتشار تعمل على قدم وساق في مجال تطوير الصواريخ المزودة برؤوس تقليدية سواء كانت صواريخ بالستية ذات مدى قصير نوعا ما أو صواريخ كروز ذات مدى طويل نوعا ما وتلك الدول هي كوريا الجنوبية وتركيا وقد تنضم دول أخرى إلى القائمة عما قريب.

لماذا تسعى تلك الدول نحو امتلاك التكنولوجيات؟ لو أعملنا الفكر قليلا لأدركنا أن الصواريخ البالستية لن تفيد ما لم تقترن برؤوس حربية نووية، بمعنى أنها لن توفر بديلا تعبويا نافعا يغني عن القوة الجوية. سوف تفضل أية دولة لا يساومها حلم امتلاك السلاح النووي استخدام الطائرات المقاتلة خاصة في ظل توافر الموارد المالية والوضع السياسي اللازمين لحصولها على العناصر المتطورة اللازمة للقوة الجوية. غير أن تلك الحقيقة تجافي الواقع تمامًا، فما السبب وراء هذا التناقض؟

يكشف السخط من دول الجوار المنافسين عن جزء من السبب في سول وأنقرة، إذ لم تنفك كوريا الشمالية وايران وروسيا عن  تطويرها الدائم للصواريخ وامتلائكها لترسانات صواريخ متنوعة دائمة التوسع، وهناك سبب آخر يحمل نفس القدر من الأهمية إن لم يكن أكثر من سابقه أهمية وهو مسألة التقدم في عدد من التكنولوجيات التي تساعد على تطوير الصواريخ. يدخل ضمن تلك التكنولوجيات تحليل وحوسبة المعلومات وتصغير الالكترونيات والملاحة والمواد المتطورة. ويساعد التقدم السريع في تلك المجالات على خلق جيل جديد من صواريخ كروز ومن الصواريخ البالستية التعبوية (ذات المدى القصير) التي تتمتع بدقة وكفاءة وقدرة تحمل عالية تفوق بها أسلافها من جيل سكود الذي لم يحظ بشهرة كبيرة. أصبحت الصواريخ البالستية قصيرة المدى – بما تحظى به من دقة يتم حسابها بعدد الأمتار- أدوات فاعلة في استخراج أهداف شديدة الخطورة  ومحصنة بشكل جيد داخل إقليم العدو. يصبح التأثير على الهدف من لحظة إطلاق  تلك الصواريخ أمرًا مضمونًا حقًا ومن الصعب أن يسري القول ذاته على طائرات الهجوم.

وهنا سؤال يطرح نفسه، إذا كان التقدم التكنولوجي يحول الصواريخ البالستية وصواريخ كروز إلى مقدرات نافعة ذات تكلفة ميسورة  في الحروب التقليدية وإذا كانت النتيجة زيادة كبيرة في الطلب عليها، فهل هذا يعنى أن عصر الرقابة على الصادرات والتكنولوجيا قد ولى؟ وهل حان الأوان كي لا تساورنا المخاوف بشأن تلك الرقابة على الإطلاق؟

لا، ليس من الحكمة التخلي عن أعمال الرقابة.

لا زالت الرقابة على الصادرات والتكنولوجيا تزيد الأمر صعوبة على ناشري الأسلحة الحاليين والمحتملين ، حيث تتسبب  في رفع التكلفة وإطالة أمد التطوير كما أنها تقضي على العوائق السياسية والسيكولوجية.، غير أن أعمال الرقابة الحالية التي يرجع تاريخ وضعها إلى ما يزيد عن ثلاثين عاما والداخلة ضمن نطاق نظام مراقبة تكنولوجيا الصواريخ بحاجة إلى إعادة تمحيص وتعديل. لا تتماشى القيود العامة التي يضعها النظام مع التطورات الجديدة في المجال وعليه فقد ذهب تأثيرها أدراج الرياح، ولهذا فإن المنهج الأكثر فعالية لن يَتَأتَّى إلا بتركيز أعمال الرقابة على الأصناف والقطاعات الأكثر خطورة على انتشار الصواريخ.

تستطيع أن  تركز أعمال الرقابة على سبيل المثال على الصواريخ طويلة المدى فكلما زاد مدى الصاروخ، قل اعتمادها على المعرفة والمواد ذات الاستخدام المزدوج والمتوافرة بقدر كبير، ولهذا فإن تطوير الصواريخ طويلة المدى يلقي على كاهل القائمين على عمليات الانتشار عددا من التحديات التكنولوجية والتقنية كإلزامهم بتزويد الصواريخ بمرحلة ثانية أو حتى ثالثة،وعلى الجانب الآخر فإنه يجب على القائمين على عمليات الانتشار أن يتعلموا كيفية التعامل مع الضغط والحرارة  الشديدين المترتبين على الدخول إلى الغلاف الجوي للأرض. وتثقل تلك التحديات كاهل القائمين على عمليات الانتشار بمزيد من المخاطر كما ترهقهم بتكاليف باهظة، هذا إضافة إلى مطالبتهم بالحصول على مجموعة متنوعة من الأصناف والتكنولوجيات المتخصصة كالمواد الغريبة المستخدمة للدخول مجدداً في في الغلاف الجوي ومكونات الوقود الدافع والمعرفة الخاصة بالتحكم في الصواريخ متعددة المراحل وعملية الانفصال. ويمكن للرقابة على الصادرات والتكنولوجيا أن تحدث تأثيرها العظيم إذا ما ركزت على الصواريخ طويلة المدى التي تثقل بالفعل كاهل القائمين على عمليات الانتشار بأكبر التحديات.

يجب على الرغم من ذلك ألا تكون الرقابة على الصادرات السبيل الوحيد للتعامل مع انتشار الصواريخ ،ومن بين السبل النافعة الأخرى التي يمكن اتباعها التقليل –يليه التخلص النهائي النموذجي- من جميع اختبارات الصواريخ. تتطلب عملية تنقيح تصميمات الصواريخ وضمان مدى الاعتماد عليها إجراء العديد من الاختبارات ولهذا وفيما يخص القائمين على عمليات الانتشار، تمثل الحاجة إلى اختبارات إطلاق شاملة نقطة ضعف، لأنه في حالة عدم القدرة على إجراء اختبارات سوف تتخلف عملياتهم الخاصة  بتطوير الصواريخ وانتشارها، الأمر الذي قد يترتب عليها منعها كليةً، علمًا بأن هذا الأمر ينطبق بصفة خاصة على الصواريخ طويلة المدى. علاوة على ما سبق، فإن الحد من إجراء اختبارات الصواريخ البالستية طويلة المدى يضيف ميزة أخرى ألا وهي: زيادة الاحتمال في أن تصبح  تلك الصواريخ المرشح الأقوى لحمل الرؤوس الحربية النووية. يجب أن يحاول القائمون الجدد وغير الجددعلى عمليات الانتشار التأكيد على القدرة الاعتمادية لصواريخهم وإلا لن يكون هناك أدنى فرق بين صاروخ معيب أُطلِقَ وقت الحرب وبين رأس حربي نووي مُستنفَد. سوف تُحدِث كذلك الصاروخ المعيب الحامل لرأس حربي نووي مخاطر لا حصر لها تهدد السلامة ويرجع سبب ذلك إلى المادة الانشطارية الكائنة بها.

أما ما يدعوا للسرور في هذا الأمر فهو أن الأساس اللازم للبدء في حظر الاختبارات قائم بالفعل ويتمثل في:  آلية ترعاها الأمم المتحدة تُعرف بمدونة لاهاي لقواعد السلوك لمنع انتشار الصواريخ البالستية ويتضمن هذا الاتفاق التطوعي غير الملزم الذي تبنته عدد من الدول في عام 2002 وصل عددها الآن إلى ما يزيد عن مائة وخمس وثلاثين دولة،  تقديم  تقارير سنوية حول اختبارات الصواريخ الباليستية،كما يتضمن الأحكام المتعلقة  بالإخطار قبل الإطلاق. ويمكن تعزيز فعالية المدونة أثرها بعدة طرق مختلفة منها على سبيل المثال زيادة قاعدة الأعضاء بالمدونة وتعزيز آليات الامتثال وأخيرًا إضافة صواريخ كروز والمركبات التي تفوق سرعتها سرعة الصوت وأيضا الدفاع الصاروخي إلى نطاق المدونة. يمكن كذلك مراجعة المدونة لإدراج الإجراءات المتعلقة بالشفافية وبناء الثقة وإدارة الأزمة وهي إجراءات نفذتها بالفعل بعض الدول من خلال اتفاقات ثنائية.

نستنتج في نهاية الأمر أنه من الممكن تقويض عمليات الانتشار الأفقي للصواريخ (ويُقصَد بها الصواريخ المنتشرة في عدد كبير من الدول) عن طريق الدفاع الصاروخي الآخذ في الاكتمال بشكل سريع. ولنعلم جيدا أن أنظمة الدفاع الصاروخي مكلفة للغاية ولا تتوافر إلا للدول الثرية المتقدمة تكنولوجيا فقط، إضافة إلى أن مظلات الدفاع الصاروخي التي تقدمها تلك الدول لن تهدىء من روع الجميع، ولهذا فإنه من الممكن تعديل مدونة لاهاي الدولية لقواعد السلوك كي تقدم ضمانات تفيد بأن الدول غير الحائزة للصواريخ والواقعة تحت تهديدها سوف تتلقى تلقائيا مساعدة بالدفاع الصاروخي من أفراد المجتمع الدولي الراضين بذلك والقادرين عليه. قد تكون مدونة السلوك هذه رمزية إلى حد بعيد وقد يتوقف أمر تنفيذ الوعود الواردة بها على السياق إلى حد بعيد، إلا أنها ستساعد في وضع معايير دولية ضد نشر الصواريخ واستخدامها كما أنها ستفرض جوًّا من الهدوء والسكينة لدى الدول التي فضلت عدم الدخول في عمليات تطوير الصواريخ.

الصواريخ: القوة الخفية وراء الانتشار النووي

أجرت كوريا الشمالية في شهر يناير الاختبار النووي الرابع لها مفجرة "أول قنبلة هيدروجينية" لها أو هكذا زعمت بوينغ يانغ. وأجرى الشمال منذ ذلك الحين سلسلة من اختبارات الصواريخ كان آخرها صاروخ بالستي متوسط المدى انطلق على ارتفاع عالٍ في الثاني والعشرين من يونيو (هواسونغ- 10 أو موسودان كما يطلق عليها العالم الخارجي). "نجح" هذا الاختبار بعد فشل خمس محاولات إطلاق متتالية. ويتقدم برنامج الصواريخ لكوريا الشمالية بخطى ثابتة، هذا في الوقت الذي تقوم فيه بوينغ يانغ بتقليص الرؤوس الحربية النووية بقدرٍ كافٍ من النجاح يمكنها من الارتفاع بهم إلى مستوى الصواريخ الباليستية المتنوعة من نوع المحركات موسودان. يمكن تطبيق تلك المهارة على أول صاروخ بالستي عابر للقارات للدولة من النوع KN-08 والجاري تطويره في الوقت الحالي.

أدان مجلس الأمن بالأمم المتحدة بشدة عقب اختبار الثاني والعشرين من يونيو مباشرة عمليات إطلاق الصواريخ البالستية من جانب كوريا الشمالية، وتعد تلك الإدانة الخامسة من نوعها لهذا العام. وأدرك مجلس الأمن أن "هذه الأعمال المتكررة تنتهك بشدة الالتزامات المنصوص عليها بموجب القرارات ذات الصلة" وأدرك كذلك "أن تلك الأنشطة تسهم في تطوير أنظمة إطلاق السلاح النووي للدولة وتزيد من حدة التوتر". تبنى مجلس الأمن منذ عام 2006 خمس قرارات رئيسة من شأنها أن تفرض العقوبات على كوريا الشمالية بسبب برنامج السلاح النووي لها وتدعمها كذلك. كما أطلقت الأمم المتحدة كذلك العديد من الإدانات فيما يخص منصات  إطلاق الصواريخ  أو "الأقمار الصناعية" التي تمتلكها كوريا الشمالية.

يزيح قلق المجتمع الدولي ونقده المستميت لعميات إطلاق كوريا الشمالية للقذائف والصواريخ النقاب عن الحقيقة الأصلية-  ألا وهي حقيقة كون الصواريخ جزء لا يتجزأ من السلاح النووي، إلا أن ما يدعوا للاستغراب هو تعرض اختبارات الصواريخ لكوريا الشمالية دون غيرها لمثل تلك الانتقادات اللازعة في الوقت الذي لا تسترعي فيه الاختبارات التي تجريها الدول الأخرى بما فيها ايران مثل هذا القدر من الانتباه. لنعلم علم اليقين أن برنامج كوريا الشمالية للسلاح النووي يجعل أمر تطوير الصواريخ لدى بوينغ يانغ يبدوا أكثر خطورة، غير أن الصواريخ تعد مكونا حيوياً للسلاح النووي بكافة الدول ولهذا فإن انتشار الصواريخ أمر يستحق نفس القدر من الاهتمام وذات الجهد المبذول لمنعه تمامًا كما هو الحال مع انتشار السلاح النووي.

تُجرِي القوى النووية العظمى كالولايات المتحدة وروسيا والصين اختبارات قذائف على نحو دائم وذلك كي تتوسع في قدراتها الهجومية. تخلق تلك القوى باختباراتها تلك حالة من الشعور بعدم الأمن في ما بين الدول الأخرى. وتزعم تلك القوى النووية العظمى بإنه ما من بدٍّ وراء تلك الصواريخ المتقدمة والموجهة بدقة  سوى تحفيز الدول الأخرى على تطوير السلاح النووي، السلاح النووي الذي يؤدي في الوقت ذاته إلى تطوير الصواريخ المتقدمة!. ويزيد الأمران معا من احتمالية إحداث الدول دمار، وعليه يرى الكثير أن الردع أكثر مصداقية. علاوة على ذلك، فإنه يمكن اعتبار الصواريخ المسلحة برؤوس حربية تقليدية بمثابة بديل للسلاح النووي. استثمرت كوريا الجنوبية على سبيل المثال موارد هائلة في مجال تطوير الصواريخ البالستية وقذائف كروز وإطلاقها على مدى أبعد، وكان واضحا أن كوريا الجنوبية تهدف من وراء هذا إلى مجابهة برنامج السلاح النووي لكوريا الشمالية ومباراته. لا ينبغي -أيًّا ما كان الحال- أن يقتصر برنامج أعمال انتشار الصواريخ على تناول مسائل خلافية مثل برنامج الصواريخ لكوريا الشمالية أو تجارة الصين في الصواريخ مع الشرق الأوسط.

تعد الترتيبات المؤسسية والقانونية للتوجيه فيما يخص تجارة الصواريخ غير ملائمة للأسف، كما أنها على شفا حفرة من فقد صلتها بموضوع الصواريخ. وُضِع نظام رقابة  تكنولوجيا الصواريخ في عام 1987 كآلية تطوعية للحد من انتشار الصواريخ البالستية وأجهزة الإطلاق الأخرى بدون طياروالتي قد تُوظَّف في عمليات هجوم باستخدام أسلحة الدمار الشامل. ويضم النظام بأعضائه الخمس وثلاثين غالبية دول العالم التي تعد مُصنِّعًا أساسيا للصواريخ ومن المتوقع أن تفرض الدول الأعضاء قيودًا على صادرتها من الصواريخ (وما يتعلق بها من تكنولوجيات) ذات القدرة على إطلاق شحنة متفجرة وزنها خمسمائة كيلو جرام على بعد لا يقل عن ثلاثمائة كيلو متر أو ذات القدرة على إطلاق أي نوع من أسلحة الدمار الشامل. يعتري النظام بعض السلبيات على الرغم من دورة المعتمد في إبطاء أو إعاقة العديد من برامج الصواريخ. ولا ينطوي النظام على أي التزام بالحد من ترسانات الصواريخ القائمة أو بتحقيق نزع السلاح في مجال الصواريخ. كما لا ينطوي النظام على أية إجراءات دولية للرقابة أوالتحقق من أجل الكشف عن عمليات نقل تكنولوجيا الصواريخ وإنتاجها بين الدول وإحباطها كذلك. تتسم رقابة النظام على صادرات البضائع ذات الاستخدام المزدوج بالشدة والصرامة، الأمر الذي يعيق التعاون التكنولوجي المدني ويوقع الضررفي الوقت ذاته بالمصالح الاقتصادية لكل من الموردين والمستلمين. وتجنح عملية تنفيذ النظام إلى العشوائية ويرجع هذا إلى كونه غير ملزمًا، فقد توصلت الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية على سبيل المثال في عام 2012 إلى اتفاق برفع الحد الأقصى للمدى المسموح به لصواريخ سيول الباليستية من ثلاثمائة إلى ثمانمائة كيلو متر، وبزيادة الحد الأقصى للشحنة المتفجرة من خمسمائة كيلو جرام إلى نسبة 1.5 طن متري متخطيان بهذا وإلى حد بعيد الحدود المسموح بها بموجب النظام. ويقوض التنفيذ العشوائي من شرعية النظام، هذا في الوقت الذي تأخذ فيه أهمية النظام في التلاشي في ظل الاهتمام المتدني الذي تحظى به مسألة انتشار الصواريخ في هذه الآونة مقارنة بالاهتمامات الأمنية كالأمن النووي والإرهاب.  

كلما كان النظام ضعيفا، قلت الرقابة الفاعلة على التكنولوجيات ذات الاستخدام المزدوج والمنسحبة على الصواريخ، وفوق كل هذا فإن الصواريخ الحديثة تحتوي على العديد من التكنولوجيات المتطورة التي تظهر كذلك في تطبيقات الفضاء وفي غيرها. لن تُمارس على الأغلب الرقابة الفاعلة على تلك التكنولوجيات من جانب الكيانات التنظيمية التكميلية كمجموعة موردي المواد النوويةأ واتفاق واسينار لضوابط التصدير على الأسلحة التقليدية والبضائع والتكنولوجيات ذات الاستخدام المزدوج. لم تقدم حكومة شينزو آبي، رئيس وزراء اليابان سوى القليل لاحتواء المشكلة وذلك عندما قامت في ابريل من العام 2014 بطرح "المبادئ الثلاثة" جانبا، وهي مبادئ تفرض حظرًا على صادرات الأسلحة وعلى الرؤوس الحربية العسكرية والتكنولوجيا القائمة منذ عام 1967. وكما ذكرت من قبل في غير هذا السياق، فقد كانت اليابان بالفعل موردًا أساسيًّا للتكنولوجيات المتطورة المدنية ذات الاستخدام المزدوج والتي يمكن استخدامها كذلك في التطبيقات العسكرية حتى في الوقت الذي كانت تسري فيه المبادئ الثلاثة. لن ينتج عن مشاركة اليابان في أعمال السلاح العالمية بصفتها موردًا للتكنولوجيات العسكرية المتطورة ومكوناتها سوى تفاقم مشكلة انتشار الصواريخ.

يتكون السلاح النووي من رؤوس حربية نووية وأجهزة إطلاق، وكلاهما جزء لا يتجزأ عن الآخر. وتركت تلك الحقيقة الجوهرية -بقصد أو بغير قصد- في لغة الحوار المتعلق بنزع السلاح النووي. ولن تؤت الجهود المبذولة لمنع اانتشار السلاح النووي ثمارها طالما أنها تغض الطرف عن انتشار الصواريخ وبالطبع فإن انتشار الصواريخ هو القوة الكامنة المحرِّكة والمستترة بستار انتشار السلاح النووي. إذا كان على العالم أن يتحرر إلى الأبد من السلاح النووي، فقد آن أوان البدء في مواجهة منع انتشار الصواريخ ونزع السلاح النووي باعتبار كلاهما بعض من كل على نفس برنامج الأعمال.

لماذا يشق علينا وقف انتشار الصواريخ!

من المفارقات الكبرى أننا لن تتمكن من إحكام السيطرة على انتشار الصواريخ حتى لو تمكنا من الحد من انتشار تكنولوجيا الصواريخ، حيث تمتلك الآن ما يزيد عن ثلاثين دولة صواريخ ذات مدى يصل إلى مائة وخمسين كيلو متر أو يزيد. فقد أجرت في عام 2016 وحده عدة دول من بينها الصين والهند وايران واسرائيل وكوريا الشمالية وباكستان وروسيا والولايات المتحدة سيلا من اختبارات الصواريخ كان القصد من ورائها إما تطوير صواريخ جديدة أو تحسين القائم منها بالفعل وقد عرضت غالبية تلك الاختبارات إن لم يكن جميعها صواريخ قائمة أساسا على التكنولوجيا المحلية كاشفة بذلك الحقيقة التي هي أن منع التكنولوجيا وحدها لن يمنع تطور الصواريخ.

هناك بضعة عوامل تفسر اتجاهات عمليات الانتشار تلك، وقد ورد ذكر أولى تلك العوامل في كلمات فريق الخبراء الحكوميين التابع للأمم المتحدة ونصها "ما زلنا نفتقد المعيار أو المعاهدة أو الاتفاق الدولي الذي ينظم عملية تطور الصواريخ أواختباراتها أوإنتاجها أوحيازتها أوامتلاكها أونقلها أونشرها أو استخدامها." علينا أن ندرك يقينًا أن القلق إزاء الصواريخ أمر متفق عليه خاصة فيما يتعلق بالصواريخ ذات القدرة على حمل السلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل الأخرى، إلا أنه ليس هناك اتفاق كامل حول كيفية مواجهة تحدي الصواريخ ذات القدرة على حمل أسلحة الدمار الشامل. وعلى أحسن الفروض فقد أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قرارات تخص دول بعينها فيما يتعلق بحالات انتشار الصواريخ التي تمثل تهديدا للسلام والأمن الدولييْن،ومنها على سبيل المثال ما يتعلق بعمليات تضطلع بها ايران وكوريا الشمالية.

يتمثل العامل الثاني في أن النشر العام للمعلومات والتكنولوجيا من الموردين الأصليين يعني في الغالب أن أية دولة تأخذ قرارأ بحيازة صواريخ ذات قدرة على حمل أسلحة الدمار شامل سوف تنحج في ذلك  بغض النظر عن قوتها الاقتصادتية وقدرتها التكنولوجية، وبالرغم من كل الجهود التي يبذلها المجتمع الدولي لمنع ذلك. قد يتسبب فرض العقوبات أو وضع قيود على عمليات نقل التكنولوجيا في تأخر سير برنامج ما للصواريخ إلا أنه من غير المحتمل أن يتسببا في إيقافه إذا ما كانت الدولة عازمة على ذلك أشد العزم.

ينجلي ثالث تلك العوامل إذا ما أدركنا أنه حتى في حال اضطرار غالبية دول الانتشار إلى استجداء التكنولوجيا والمواد أو استعارتهما أو سرقتهما في المراحل الأولى من برامج صواريخها ذات القدرة على حمل أسلحة دمارشامل، إلا أن تلك الدول سوف تصل في نهاية الأمر إلى تكوين قدرات محلية خاصة بها، الأمر الذي يترتب عليه النأي بنفسها عن أنظمة العقوبات التي تسعى إلى منع تصدير التكنولوجيا المتعلقة بالأسلحة ذات الاستخدام المزدوج.  

طريقان. يصعب مواجهة عمليات انتشار الصواريخ ويرجع أحد أسباب ذلك إلى التباين النوعي بين القائمين على عمليات الانتشار وبين دوافع وقدرات عمليات الانتشار وبين الصواريخ ذاتها. تتنوع الصواريخ المنتشرة في تلك الآونة وتختلف في أنواعها من الصواريخ المحمولة التي تطلق من على الكتف والمضادة للدروع والتي يصل مداها إلى مئات الأمتار إلى الصواريخ التي يصل وزن الواحدة منها إلى ما يقرب من 100,000 كيلو جرام وقت الإطلاق والقادرة على حمل رؤوس نووية متنوعة وذات مدى قد يتعدى عشرة آلااف كيلو متر(والقادرة أيضا على الوصول إلى مدى يزيد عن 10000 كيلو متر). تمتلك غالبية الدول تقريبا صواريخ مع تفاوت طبيعة الامتلاك تبعا للأصناف الكمية والنوعية. تخطى الأمر الحدود في السنوات الأخيرة فقد أصبحت الجماعات الارهابية والكيانات المسلحة غير الحكومية تمتلك صواريخ محمولة ذات مدى يقل عن مائة وخمسين كيلو مترا بل وتستخدمها كذلك، الأمر الذي مكن تلك الجماعات والكيانات من تهديد أهداف مثل الطائرات المدنية.

ظهر –انطلاقا من تلك الخلفية- منهجان عامان إزاء عمليات انتشار الصواريخ،وليس ثمة تعارض بين المنهجين بل قد يحدث بينهما تداخل في أغلب الأحيان. يتمثل المنهج الأول في سلسلة من المبادرات السياسية والدبلوماسية على المستويات الثنائية والإقليمية والعالمية ويدخل ضمن تلك المبادرات معاهدة القوى النووية متوسطة المدى ونظام رقابة تكنولوجيا الصواريخ ومدونة لاهاي لقواعد السلوك لمنع انتشار الصواريخ البالستية والدورات الثلاث المتتالية لفريق الخبراء الحكوميين التابع للأمم المتحدة.

نجحت معاهدة القوى النووية متوسطة المدى التي أُبرِمت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في عام 1987 في القضاء على صواريخ كروز والصواريخ الباستية اللذان يطلقا من الأرض واللذان يتراوح مداهما بين 500 و5500 كيلومتر، إلا أن المعاهدة الآن على وشك الحل، حيث تهدد موسكو بالانسحاب منها ويرجع جزء من سبب الانسحاب إلى انسحاب واشنطن من معاهدة الصواريخ المضادة للبالستية المبرمة عام 1972. هناك بعض أوجه القصور التي ينفرد بها نظام رقابة تكنولوجيا الصواريخ، فقد فشل النظام الذي تأسس في 1987 لغرض أساسي وهو الحد من انتشار الصواريخ القادرة على إطلاق سلاح نووي في جذب الانتباه العالمي ويرجع سبب الإخفاق إلى نقطتي ضعف جوهريتيْن أولاهما تقيد نطاق النظام في بادئ  الأمر بالصواريخ البالستية (ثم دخل بعد ذلك في نطاقه أجهزة الإطلاق بدون طيار) القادرة على إطلاق أسلحة دمار شامل أو على حمل شحنة متفجرة وزنها 500 كيلو جرام  لمسافة قدرها 300  كيلو متر في حين تم تجاهل صواريخ كروز المسلحة بشكل تقليدي. يرجع السبب الثاني للإخفاق إلى تركيز النظام على الانتشار الأفقي (انتشار الصواريخ بالدول حديثة العهد بها) أكثر من تركيزه على الانتشار الرأسي (التحسين الكمي والنوعي في الصواريخ من جانب الدول المالكة بالفعل للصواريخ).

يتجاوب الأعضاء بالنظام بعض الشيء مع أوجه القصور تلك،وكان باكورة هذا التجاوب مدونة لاهاي لقواعد السلوك والتي أصبحت سارية النفاذ في العام 2002، وعلى خلاف نظام مراقبة تكنولوجيا الصواريخ لم تسع المدونة إلى منع الدول من حيازة الصواريخ الباليستية القادرة على حمل أسلحة دمار شامل أو امتلاكها ولكنها سعت إلى الارتقاء بالسلوك المسئول وحسب وذلك عن طريق إجراءات بناء الثقة والشفافية فيما يتعلق بالصواريخ البالستية (وليس صواريخ كروز). وفي الوقت الذي وقعت فيه مائة وثمانٍ وثلاثون دولة على المدونة، فقد امتنعت العديد من الدول الرئيسة المالكة لصواريخ قادرة على حمل أسلحة دمار شامل عن التوقيع وكان من بين تلك الدول الصين وكوريا الشمالية وايران واسرائيل وباكستان.

يشمل المنهج الأساسي الثاني فيما يخص انتشار الصواريخ المبادرات العسكرية والتكنولوجية والتي كان منها على سبيل المثال غزو العراق عام 2003 (والذي كان من بين أهدافه القضاء على برامج الصواريخ والبرامج النووية للعراق) وتطوير الدفاعات الصاروخية.

لم يكن المقصد حقا من وراء الغزو العراقي نزع سلاح العراق وحسب وإنما كان أيضًا لإثناء الدول الأخرى خاصة ايران وكوريا الشمالية عن مواصلة اللهث وراء القدرات الصاروخية والنووية، بيد أن إيران أبعد ما يكون عن ترك برنامجها المثير للجدل إذ أنها ضاعفت جهودها لبناء صواريخ قادرة على إطلاق رأس حربي وزنه واحد طن متري لمسافة تزيد على 2.000 كيلو متر، كما بدأت كوريا الشمالية في الوقت ذاته سلسلة من اختبارات الصواريخ ذات القدرة على حمل أسلحة دمار شامل وهي الاختبارات التي واصلت إجراءها رغم العقوبات الدولية المتزايدة الشدة. لا زال صدى الآثار غير المقصودة لحرب عام 2003 يتردد لفترة تزيد عن عشر سنوات من تاريخ اشتعالها، مُزيدًا بذلك من الرغبة في ألا يتكرر انتهاج مثل هذا النهج مرة أخرى في المستقبل القريب.

تتقدم  في الوقت ذاته وبخطى سريعة  برامج الدفاع الصاروخي التي تسعى إلى تطوير القدرة على الكشف عن الصواريخ البالستية واعتراضها وتدميرها قبل أن تخترق أهدافها  كما أنها تهدد في الوقت الحالي بزعزعة الاستقرار الاستراتيجي الكائن بين الولايات المتحدة وروسيا والصين. بدأت روسيا والصين في مشاريعيهما الخاصة للدفاع الصاروخي في الوقت الذي تستنكران فيه برامج الولايات المتحدة. ومن المحتمل أن تقوم دول أخرى من بينها الهند واسرائيل واليابان وكوريا الجنوبية بنشر أنظمة دفاع صاروخي أو تطويرها في المستقبل القريب كرد فعل على انتشار الصواريخ. وعلى الرغم من عدم ثبوت فعالية تلك الأنظمة في العديد من الحالات إلا أنه عادة ما يُنظَر إليها على أنها حل جزئي للتهديد الناتج عن الصواريخ.

تضاءلت إلى حد ما كفاءة المبادرات السياسية والدبلوماسية لمنع انتشار الصواريخ وينطبق القول ذاته على الأنشطة العسكرية والدفاع الصاروخي،إلا أنه ما زال الاحتمال قائمًا بأن يواصل كلا المنهجين بقاءهما. يظل وجود المبادرات السياسية والدبلوماسية جوهريا لوضع المعايير والأدوات التي قد تقوض عمليات الانتشار، كما انها تمثل المدخل الأساسي نحو دعم السلوك المسئول بين الدول الحائزة بالفعل للصواريخ الاستراتيجية ويظل الاعتقاد بأن تحظى تلك المبادرات يوما ما باحترام عالمي فرصة تلوح بالأفق.

من غير المحتمل أن تلقى الأنشطة العسكرية والدفاع الصاروخي ترحيبا كبيرًا متواصلًا خاصة الدفاع الصاروخي الذي يتاح فقط للدول التي بإمكانها تطوير قدرات دفاعية صاروخية  بنفسها أو الاستظلال بمظلة دولة أخرى تمتلك تلك القدرات ،إلا أنه وفي حال ما لو كان الدفاع الصاروخي يمثل سبيلا من سبل مواجهة انتشار الصواريخ فإنه من غير المرجح أن يفوض عمليات الانتشار، إذ أنه وعلى العكس من ذلك تشير جميع الدلائل إلى أن الدفاع الصاروخي سوف ينتج عنه حينئذ مزيد من الانتشار الرأسي للصواريخ حيث تحاول الدول دحض أنظمة الدفاع الصاروخي بأعداد هائلة من الصواريخ أو من الإجراءات المضادة الأخرى.

Round 2

إلى أي مدى يؤثر إلقاء مزيد من الضوء على الطائرات بدون طيار سلبًا على أنظمة الرقابة على الصواريخ

أوضحت ماساكو إيكيغامي في الجولة الأولى أنه من الممكن أن تعوق أنظمة الرقابة على الصادرات التعاون والتجارة في مجال التكنولوجيا المدنية، وذلك حال تطبيقها على نحو صارم وجاد، كما أنه من الممكن أن تعوق كذلك المصالح الاقتصادية للممولين والمستلمين على حد سواء. وتعد أيضا عملية التلاعب بأنظمة الرقابة على الصادرات والتي تنتهجها الدول المتقدمة تكنولوجيا في بعض الأحيان من أجل الحفاظ على مصالحها التكنولوجية والاستراتيجية من المشاكل ذات الصلة بتلك القضية كذلك. ويلقي مثل هذا السلوك بظلاله على فعالية أنظمةالرقابة على الصادرات وشرعيتها.

تظهر أحد أنماط هذا التلاعب في مجال التكنولوجيا الخاصة بالطائرات بدون طيار، ولتوضيح ذلك نقول أن أنظمة الرقابة على الصادرات التي وُضِعت في الأساس بغرض وقف انتشار الصواريخ ذات القدرة على إطلاق أسلحة دمار شامل تقوض في الوقت الحالي الصفقات الدولية التي يدخل ضمنها الطائرات بدون طيار. وتعد الولايات المتحدة الدولة الأولى التي تسلك تلك الممارسات وتعمل على تعزيزها، ثم تبعها على الطريق حلفاء واشنطن الأوروبيين واسرائيل، ويرجع السبب وراء ذلك دون شك إلى الضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة.

تبدأ أحداث تلك القصة في أوائل فترة التسعينيات عندما شرع نظام رقابة تكنولوجيا الصواريخ الذي كان معنيا فقط حتى ذلك التاريخ بالرقابة على الصواريخ البالستية في ضم الطائرات بدون طيار (وصواريخ كروز كذلك) ضمن نظام الرقابة. وفي تلك الآونة، كانت الطائرات بدون طيار الضخمة مثل طائرات بريداتور الأمريكية تستهل الطلعة الأولى لها. وقد ساور بعض المراقبين القلق من إمكانية استخدام الطائرات بدون طيار عالية الأداء في إطلاق اسلحة دمار شامل، وهذا ما استدعى وضع أنظمة رقابة على الطائرات بدون طيار ذات القدرة على إطلاق شحنة متفجرة يصل وزنها إلى خمسمائة كيلو جرام لمسافة تصل إلى ثلاثمائة كيلو متر، وهو نفس القدر المحدد للصواريخ البالستية ذات القدرة النووية.

انتشرت منذ ذلك التاريخ الاستخدامات العسكرية للطائرات بدون طيار انتشارًا واسعًا. وفي وقتنا هذا،أصبح هذا النوع من الطائرات أساسًا من أسس المراقبة الصارمة. كما بدأت الطائرات بدون طيار المسلحة بقنابل وصواريخ تقليدية شديدة الانفجار في الظهور في ساحات المعارك الحديثة، ولهذا فقد تزايد الاهتمام بها في جميع أنحاء العالم، رغم أن المعرفة بالأنظمة الفرعية والبراعة فيها لا تتوافر إلا لدى عدد محدود من الدول،إضافة إلى الخبرة التشغيلية اللازمة لتصنيع طائرات بدون طيار ذات قدرة اعتمادية وأداء عال ونشرها (ثم الطائرات بدون طيار المسلحة فيما بعد). ولقد أحدثت تلك الرقابة الاحتكارية خللا في تنفيذ أنظمة الرقابة على الصادرات، بمعنى أن الأنظمة الرقابية التي كانت تهدف بالأساس إلى وقف انتشار الصواريخ البالستية ذات القدرة على إطلاق أسلحة دمار شامل أصبحت تُستخدَم في وقف انتشار التكنولوجيا الخاصة بالطائرات بدون طيار غير القادرة على إطلاق أسلحة دمار شامل والقادرة فقط على حمل ذخائر شديدة الانفجار. وفي خضم تلك الأحداث، نظرت الدول التي عنيت برفض التكنولوجيا إلى نظام رقابة تكنولوجيا الصواريخ على أنه لا يمثل أكثر من مجرد تبرير لأفعالهم. 

تأتي المفارقة حين نعرف أن الطائرات بدون  طيار من نوع بريداتور أو ريبر غير مناسبة على نحو كاف لإطلاق أسلحة دمار شامل وذلك على عكس ما هو عليه الحال بالنسبة للصواريخ البالستية وصواريخ كروز. في الواقع وحين يتعلق الأمر بالقدرة على إطلاق أسلحة دمار شامل، يمكن مقارنة الطائرات بدون طيار بالطائرات المقاتلة المأهولة، إلا أن الطائرات المأهولة تزيد درجة قدرتها وفعاليتها على نحو ملحوظ عن الطائرات بدون طيار. ورغم ذلك لا ترى أنظمة الرقابة على الصادرات صلة بين الطائرات المأهولة وأسلحة الدمار الشامل. والسؤال هنا لماذا نضع أنظمة الرقابة الصارمة تلك على الطائرات بدون طيار؟
يصبح الخلل أكثر وضوحا إذا أنعمنا النظر في الأنظمة الفرعية للطائرات بدون طيار، ومنها على سبيل المثال ليزر التصويب الذي يستخدم لإرشاد القنابل الموجهة بالليزر لإصابة أهدافها. وعليه فقد أصبح من السهل نوعا عند وجود نية صناعة طائرات مأهولة شراء أجهزة استشعار كهربية ضوئية تتناسب مع ليزر التصويب.ويختلف الحال إذا كانت المنصة المقصودة طائرة بدون طيار، حيث يفقد حينها ليزر التصويب ميزته. وينطبق القول ذاته على الطائرات بدون طيار غير القادرة على حمل أسلحة والطائرات بدون طيار التي يقل مداها وحمولتها عن الحدود التي يحددها نظام رقابة تكنولوجيا الصواريخ. يعني هذا في واقع الأمر أن الطائرات المأهولة مسموح لها بإطلاق الذخائر المدمرة وتوجيهها، في حين أن الأمر ليس كذلك بالنسبة للطائرات بدون طيار. يمكن للطائرات المأهولة غير المسلحة حتي ولو كانت خفيفة جدا أن تنير الأهداف باستخدام ليزر التصويب الموضوع على متنها، وبالتالي يساعد على إطلاق الذخائر من منصات أخرى لضرب الأهداف، وفي المقابل فإن الطائرات بدون طيار مسلحة كانت أم غير مسلحة غير مسموح لها بتنفيذ نفس المهمة. يزيح هذا الأمر الستار ليكشف الانحراف الكبير عن أهداف نظام رقابة تكنولوجيا الصواريخ.

تُعوَّق الجهود المبذولة لوقف انتشار الصواريخ فقط إذا أسئ استخدام النظام بإقحامه فيما يخص الرقابة على التكنولوجيا المعنيةبالطائرات بدون طيار غير القادرة على إطلاق أسلحة دمار شامل أو غير المناسبة لإطلاقها. حيث تقدم أنظمة الرقابة على هذا النوع من الطائرات نموذجا صارخا للتأثير السلبي الذي تحدثه عمليات الرقابة الصارمة أو الشاملة أو البالية على أنظمة الرقابة على الصادرات وعلى مدى فعاليتها. يزيد على ماسبق، أن نموذج الطائرة بدون طيار يلقي الضوء على العواقب الوخيمة لإقحام برامج الأعمال غير المعروفة للدول في أنظمة الرقابة على الصادرات ذات الصلةبالصواريخ والتي تهدف -أولا وأخيرا- إلى تقويض انتشار الصواريخ ذات القدرة على إطلاق أسلحة دمار شامل.

سبل وقف مسرح الحرب النووية

أكد زميلاي واغورو بال سينغ سيدو وسيتكي إيغيلي على أهمية وضع معايير دولية لمنع انتشار الصواريخ ومن تلك المعايير على سبيل المثال توسيع نطاق مدونة لاهاي لقواعد السلوك لمنع انتشار الصواريخ البالستية وتعزيزها. ولكن وكي تثبت تلك المعايير فعاليتها، يجب تطبيقها على جميع الأطراف دون تمييزفإذا ما فُرضِت المعايير والأنظمة على طرف دون الآخر كما هو الحال مع نظام رقابة تكنولوجيا الصواريخ، فلن تسهم تلك المعايير أو الأنظمة في التقليل من شعور انعدام الأمن الناتج عن عمليات الانتشار. وينطبق القول ذاته على الصكوك القائمة على معايير مزدوجة كمعاهدة منع الانتشار النووي فالمعايير المزدوجة لا تخفف أبدا من وطأة الشعور بانعدام الأمن، بل إنها تستدعى في الوقت ذاته المزيد من عمليات الانتشار.

تستحق دوافع الدول القائمة على عمليات الانتشار الالتفات إليها التفاتًا كبيرًا عما هي عليه الآن دون شك. فمن بين إحدى وثلاثين دولة تمتلك صواريخ بالستية ، لا تزال تسع دول مسلحة نوويا من بينهم تواصل تعزيز قدراتها الصاروخية باعتبارها عاملًا من عوامل ترساناتهم النووية. تمتلك باقي الدول وعددهم اثنا وعشرين دولة صواريخا بالستية باعتبارها ميراث من الحرب الباردة أو بسبب وقوعهم تحت وطأة توتر اقليمي صارخ يوجد من بين أطرافه دولة واحدة على الأقل مسلحة نوويًا.

تورطت منطقة شرق آسيا على سبيل المثال في حلقة مفرغة من عمليات انتشار الصواريخ، بينما أكملت كوريا الجنوبية والشمال المسلح نوويًا طريقهما نحو حيازة صواريخ بالستية وتطويرها منذ فترة السبعينيات. حدث مؤخرا كرد فعل على إجراء الاختبار النووي الرابع لكوريا الشمالية واختبار الصواريخ متوسطة المدى أن وافقت سيول على نشر نظام دفاع صاروخي أمريكي يعرف بنظام ثاد (دفاع جوي صاروخي أرض جو). وبدأت اليابان مع الولايات المتحدة عملية التطوير المشترك لنظام دفاع الصواريخ البالستية عقب إجراء كوريا الشمالية اختبار 1998 لصواريخ تايبودونغ. كما عمدت تايوان كرد فعل من طرفها على عمليات الانتشار الموسعة للصواريخ البالستية قصيرة ومتوسطة المدى من جانب الصين المسلحة نوويا إلى تطوير صواريخ بالستية متوسطة المدى قادرة على ضرب أهداف ذات أهمية كبيرة كشنغهاي على سبيل المثال.

تشعر بطبيعة الحال دول كتلك المتورطة في الاوضاع المتوترة والتي تواجه خصوم مسلحة بصواريخ بالستية بالتهديد المحيط بها (خاصة إذا كانت صواريخ الخصم من النوع المسلح برؤوس حربية نووية)، ولهذ تسعى تلك الدول إلى حيازة صواريخ بالستية تكون ملكًا لها، وتقصد من وراء هذا أن يكون لديها قدرة شبه مؤكدة على الانتقام حال وقوع هجوم صاروخي عليها، كما تهدف أيضا إلى دحر أي تدخلات قد تحدث على الأرض. وفي هذا الشأن أيضا، تمتلك تلك الدول صواريخ بالستية كي تدافع عن نفسها ضد أي استخدام لأسلحة الإرهاب، وهو الوصف الذي ينطبق تمام الانطباق على الصواريخ المسلحة برؤوس حربية نووية. 
ومما يزيد الأمر سوءًا أن الدول المسلحة نوويا تعمل الآن على تطوير أسلحة نووية "ذكية" تكون أكثر دقة وتأثير ذو نطاق ضيق ومن ثم أكثر "استخداما". ويعد هذا التوجه خطرًا للغاية، فإذا ما نُشِر السلاح النووي "الذكي" مصحوبا بالصواريخ البالستية قصيرة ومتوسطة المدى في خضم الصراع الإقليمي الحاد، فإنه بإمكاننا أن نتصور أننا بصدد تعزيز أزمة صواريخ كوبية معاصرة. ولهذا فنحن بحاجة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة وتبني رؤى جديدة من أجل مواجهة الخطر الفعلي حقًّا بظهور مسرح الحرب النووية.  

لقد قوضت آليات مثل نظام مراقبة تكنولوجيا الصواريخ واتفاق ويسينار من انتشار الصواريخ البالستية وأخرت أمد وجودها، إلا أنها لم تحقق نجاحًا في وقف دول بعينها قائمة على عمليات الانتشار خاصة تلك الدول غيرالأعضاء بالنظام كالصين وكوريا الشمالية واسرائيل والهند وباكستان، ولهذا فإن أي رؤية قائمة على وجهة النظر الفنية والمؤسسية فقط إزاء انتشار الصواريخ محكوم عليها بالفشل، فنحن بحاجة إلى رؤية سياسية أي رؤية تواجه دوافع الدول القائمة على عمليات الانتشار فيما يخص هذا الأمر.

مضى ما يقرب من ثلاثين عاما على إبرام الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة لمعاهدة القوى النووية متوسطة المدى ومن السهل علينا أن ننسى كيف كان مدى التأثير المأساوي للمعاهدة. فلقد نجحت المفاوضات المتعلقة بإبرام المعاهدة لأنها استبدلت روح المواجهة التي كانت سائدة في العقود السابقة بروح الثقة المتبادلة. وقد ساعدت الثقة في إجراء تحقق شامل وتفتييش موقعي وتقليل فعلي للسلاح النووي كما أنها قضت في الأساس على الحرب الباردة. وحدث في غضون أعوام قليلة أن انهار جدار برلين وسقط الاتحاد السوفيتي. ومما يثير الجدل أن المعاهدة كان لها دورًا أساسيًّا في جميع ما حدث.

ما نحن بحاجة إليه الآن وعلى نحو عاجل هو إبرام معاهدة على نمط معاهدة القوي النووية متوسطة المدى يكون المقصد منها القضاء على التهديدات المزدوجة للصواريخ والسلاح النووي غير الاستراتيجي، ولنعلم علم اليقين أن المفاوضات حول تلك المعاهدة سوف تكون بمثابة درب من دروب التحدي، كما أنها ستفتقر إلى العديد من المميزات التي حظيت بها مفاوضات إبرام معاهدة القوى النووية متوسطة المدى، ومن تلك المميزات على سبيل المثال التوازن الوثيق بين القوى النووية الأمريكية والسوفيتية ووجود حركة قوية مضادة للسلاح النووي في أوروبا وقت انعقاد المفاوضات. أما على الجانب الآخر، فإن العالم يختلف اليوم اختلافًا كبيرًا ولا يرجع سبب الاختلاف إلى وجود الكثير من المواجهات الصاروخية غير المتماثلة وحسب. لقد مهدت الرؤية السياسية الجريئة الأرض لمعاهدة القوى النووية متوسطة المدى دون شك هذا بجانب الاستعداد للقضاء على جميع فئات السلاح في وقت واحد. يمكننا وضع نهاية لوجود السلاح النووي غير الاستراتيجي وللصواريخ التي تحمله من على ظهر الأرض تمامًا كما حدث مع السلاح النووي متوسط المدي الأمريكي والسوفيتي وذلك  إذا ما اتسمت رؤانا بجرأة تضاهي تلك التي صاحبت إبرام معاهدة القوى النووية متوسطة المدى.

انتشار الصواريخ – وبعض الحلول الممكنة

من المسلم به أن الصواريخ تفرض تحديات هائلة أمام الأمن والسلام الدولييْن، إلا أنه من الصعب الاتفاق على آلية لمواجهة تلك التحديات.

تفرض الصواريخ ثلاث مجموعات من التحديات على الأقل، وذلك وفقًا لما اتفقا عليه وأورداه في صياغةٍ بليغة  زميلاي بالمائدة المستديرة ماساكو إيكيغامي وسيتكي إيغيلي. وتتمثل أولى تلك التحديات في أن الاستخدام الفعلي للصواريخ المزودة برؤوس نووية من شأنه أن يدمر الأمن والسلام الدولييْن، وأن أي تهديد باستخدام الصواريخ المزودة برؤوس نووية سوف يؤثر سلبًا وعلى نحو خطير على الاستقرار، وأن الاستخدام الفعلي للصواريخ التقليدية المتقدمة الموجهة بدقة يمثل تهديدًا كذلك خاصةً بالنسبة للدول التي تستهدفها مثل تلك الهجمات. ويتمثل ثاني تلك التحديات في عدم حظر الصواريخ وعدم استنكار عمليات انتشار الصواريخ على الإطلاق إلا في بعض الحالات الاستثنائية المعروفة. أما ثالث تلك التحديات فيرجع إلى عدم ملاءمة أو فعالية الترتيبات القائمة الخاصة بضبط تكنولوجيا الصواريخ وتجارتها خاصة نظام مراقبة تكنولوجيا الصواريخ.   

ما هي الحلول الممكنة في سياق ما سبق ذكره؟

تركز إيكيغامي على الروابط التي تصل بين الصواريخ والسلاح النووي وتؤكد على أن "منع انتشار الصواريخ ونزع السلاح النووي (يجب مواجهتهما) كجزءان متكاملان لا ينفصل أي منهما عن الآخر على نفس برنامج العمل". يوجد بالفعل علاقة مباشرة بين الصواريخ والسلاح النووي إذ تمتلك جميع الدول التسع الحائزة للسلاح النووي صواريخا كما تمتلك جميعها صواريخ بالستية مسلحة نوويا أو قادرة على حمل سلاح نووي، هذا كما تمتلك غالبية تلك الدول في الوقت الحالي صواريخ كروز ذات قدرة على حمل سلاح نووي أو تسعى لامتلاكها، ولكن ليست كل الدول التي تمتلك صواريخ بالستية أو صواريخ كروز تمتلك سلاحا نوويا. ترغب بالطبع العديد من الدول التي تفتقر إلى السلاح النووي خاصة في ضوء الدقة والخطورة المتزايدة للصواريخ المسلحة تقليديا إلى حيازة صواريخ طويلة المدى. ويطرح هذا الوضع تساؤلًا يصعب الرد عليه وهو: إذا كانت دولة ما تمتلك صواريخًا خاصة الصواريخ البالستية، هل ستطمح وقتها إلى حيازة سلاح نووي؟  سيكون الرد على هذا التساؤل ب"ربما" تحديدًا. وعلينا أن نعلم علم اليقين أن دولًا ككوريا الشمالية والعراق وليبيا وايران وهي دول تمتلك صواريخا سعت أيضا إلى امتلاك سلاح نووي (وقد كانت تلك الدول كافة من الموقعين على معاهدة منع انتشار السلاح النووي وقتما بدأت كل دولة دولة منهم السعي لامتلاك سلاح نووي)، ولكن وعلى الجانب الآخر، هل من المحتمل أن تحقق أرمينيا المالكة للصواريخ البالستية قفزة نحو حيازة السلاح النووي؟

نستنتج مما سبق أنه أيا ما كان الحال فإن وضع نظام عالمي للرقابة على الصواريخ ذات القدرة على حمل سلاح نووي أو للتخلص منها نهائيًّا أمر من السهل الحديث عنه ولكن ليس من الهين تطبيقه. وما وقعت الحالات الاستثنائية التي طبقت فيها إجراءات الرقابة على الأسلحة أو إجراءات نزع السلاح على الصواريخ ذات القدرة على حمل سلاح نووي إلا نتيجة ظروف خاصة للغاية ودون الخضوع لأي معيار أو نظام عالمي ومن أمثلتها معاهدة القوى النووية متوسطة المدى أو نزع السلاح من العراق وجنوب افريقيا وليبيا تحت مظلة الأمم المتحدة. كما تخيم في الوقت ذاته سحب الاخفاق على أسلوب التعامل حالة بحالة الخاص بعمليات انتشار الصواريخ التي تخص كوريا الشمالية وايران وهذا على الرغم من الاضطلاع الدائم  لمجلس الأمن بالأمم المتحدة بالأمر.

يبدوا أن اقتراح ايغيلي بالتركيز على الصواريخ طويلة المدى عند الشروع في وضع نظام للرقابة على الصادرات والتكنولوجيا لن يؤتي ثماره كذلك، ويرجع ذلك بداهةً إلى أن التكنولوجيات النووية المدنية والعسكرية تخطت بقدر بعيد للغاية الصواريخ متعددة المراحل كما أن مركبات الإطلاق متعددة المراحل المدنية الفضائية حظيت بذات الأمر بقدر هائل، وعليه فإنه من الوارد أن تعترض الدول المالكة لبرامج إطلاق شرعية مدنية فضائية أو التي تسعى لتطوير تلك البرامج على التوقيع على مثل هذا الاقتراح، مع العلم أن بعض من تلك الدول أعضاء في نظام الرقابة على تكنولوجيا الصواريخ. وعلاوة على ما ذكر، تستشعر بعض الدول مثل اسرائيل خطرا جمًّا مصدره الصواريخ قصيرة المدى المسلحة تقليديا والكائنة بأيدي الكيانات غير الحكومية أكثر من الخطر الذي تستشعره من الصواريخ طويلة المدى.

سوف يصطدم اقتراح إيغيلي بالحد من اختبارات الصواريخ ثم القضاء عليها على نحو نموذجي بمشاكل شبيهة‘ إذ أن مثل هذا النظام سوف يتطلب التزام دولي وهو أمر مستبعد الحدوث يرجع سبب استبعاد وقوعه إلى احتمال معارضة الدول الحائزة بالفعل لصواريخ على هذا النظام، ومن تلك الدول على سبيل المثال الولايات المتحدة وروسيا والحال نفسه ينطبق على الدول المتمردة ككوريا الشمالية، تلك الدولة التي تتحدى بالفعل حظر اختبارات الصواريخ الذي فرضه مجلس الأمن بالأمم المتحدة تحديا صارخا.

علينا بدلا من السعي وراء وضع توصيات طموحة أمْر نجاحها غير وارد على الإطلاق أن ننظر في الاقتراحات الأكثر واقعية التي انبثقت عن دورة 2008 لفريق الخبراء الحكوميين التابع للأمم المتحدة حول "قضية الصواريخ من جميع جوانبها". ولنكن على يقين بأن تلك الأفكار قد تكون عرضة للانتقاد نظرًا لافتقادها لعنصر الطموح ولكنها تحظى رغم ذلك باتفاق جماعي فيما بين غالبية القوي الكبيرة الحائزة للصواريخ (قام أعضاء الفريق الثلاثة وعشرين بضم خبراء من دول أخرى من بينها الصين وايران والهند واسرائيل وروسيا والولايات المتحدة إلا أنه لم يضم خبراء من كوريا الشمالية). ودعا الفريق الدول -على سبيل المثال- إلى تحديث أنظمة رقابتهم على نقل الصواريخ والتكنولوجيا المتعلقة بها وتصديرهما، كما شجع الفريق الدول على تقديم المعلومات المتعلقة بالصواريخ من خلال آليات تقديم التقارير التابعة للأمم المتحدة. ونادى الفريق كذلك بتعزيز الأمن العالمي والإقليمي بانتهاج عدة وسائل منها على سبيل المثال التسوية السلمية للنزاعات، وشجع الدول أيضا على تبني إجراءات الشفافية وبناء الثقة الطوعية …(من أجل تعزيز) إمكانية التوقع". نعود ونكرر القول بأن تلك الأفكار تحمل القليل من الإثارة وجراءة التصور إلا أنها قد تكون بداية لا بأس به عند مواجهة المشاكل الأمنية الصعبة التي فرضتها عمليات انتشار الصواريخ.  

Round 3

انتشار الصواريخ: ابحث عن العلة!

تمثل الدول القائمة على عمليات الانتشار في أغلب الأحيان محور الاهتمام في المناقشات التي تدور بشأن الرقابة على الصادرات. ولكن ألا ينبغي بدلا من ذلك أن ينصب التركيز على مراءاة الدول التي تضع القواعد.

قالت زميلتي بالمائدة المستديرة ماساكو إيكيغامي صوابًا عندما أشارت إلى أن المعايير المزدوجة في صكوك الرقابة على الأسلحة تستدعى بالفعل تزايدا في عمليات الانتشار وذلك بسبب ما تحدثه من تفاقم لظاهرة انعدام الأمن. وقد أوضَحتُ من جانبي كيف  يساء استخدام الرقابة على الصادرات بشكل يخدم أجندات خفية، متخذا من الطائرات بدون طيار مثالا على سوء الاستخدام هذا.

تشعر الدول الأعضاء بالنادي النووي سواء كانت دولا معلن عن ملكيتها للسلاح النووي أو مالكة له بالفعل بقليل من وخز الضمير بشأن تطوير قدراتها على إطلاق السلاح النووي. وتقدم الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت مثالا معاصرا على هذا. إذ ستدخل المركبات التي تفوق سرعتها سرعة الصوت في سباق التسلح القادم الذي سيحدث دمارا وعدم استقرار بإجماع الكثيرين. إلا أن الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند وجميع الدول التي تمتلك برامج تفوق سرعتها سرعة الصوت لا تميل كثيرًا إلى فكرة الحد من قدراتها "فوق البالستية" في مجال إطلاق أسلحة الدمار الشامل. ولا شك أن مطالبة تلك الدول الحائزة للسلاح النووي بضرورة حد الدول الأخرى من أنشطتها في مجال الصواريخ البالستية وصواريخ كروز ما هو إلا محض رياء. وقد تم السماح في الوقت ذاته لبعض الدول القائمة على عمليات الانتشار والتي تمتلك سلاحا نوويا وصواريخ متقدمة بالوصول دون إعاقةٍ نوعًا ما إلى المعلومات والمعدات المتعلقة بالصواريخ ومن تلك الدول على سبيل المثال اسرائيل. وقد أصبح من الصعب في ظل تلك الأوضاع الدفاع عن أنظمة الرقابة الصارمة على الصادرات والتي فُرِضت على دولٍ عدة. 

اختيار الوسيلة المناسبة. ذكر زميلي بالمائدة المستديرة واغورو بال سينغ سيدو أنه "من الصعب مواجهة عمليات انتشار الصواريخ ومن بين أسباب تلك الصعوبة حالة التباين النوعي بين الدول القائمة على عمليات الانتشار ودوافع وإمكانات عمليات الانتشار تلك وبين الصواريخ ذاتها". وقد صدق سيدو فيما قال، إذ ما من شك أنه عندما تتباين الأوضاع الجغرافية الاستراتيجية والسياسية والتكنولوجية والمالية إلى حد بعيد، لا يمكن حينئذ أن يحرز صك واحد لمنع الانتشار نجاحا ملموسا في مواجهة جميع تحديات الانتشار. ولهذا تزيد احتمالات النجاح عند تطبيق مبدأ الفصل بين كل عنصر على حدة مقارنة بمبدأ القائمة الثابتة لمنع الانتشار. وعليه فإنه ينبغي وضع مجموعة متنوعة من الصكوك والإجراءات لتقويض عمليات الانتشار على أن يكون لكل منها تأثير وأن تكون كل منها أداة فاعلة حال تعلق الأمر بها.

حدد المشاركون بالمائدة المستديرة عددا من الاجراءات والصكوك الواعدة. فقد أشار سيدو على سبيل المثال إلى المبادرات السياسية والدبلوماسية على المستويات الثنائية والإقليمية والعالمية. ومن بين النماذج القائمة بالفعل على تلك المبادرات مدونة لاهاي لقواعد السلوك لمنع انتشار الصواريخ البالستية وعمل فريق الخبراء الحكوميين التابع للأمم المتحدة. وقد كتب سيدو قائلا أن تلك المبادئ "لا مناص عنها من أجل وضع معايير وصكوك قد تنجح في تقويض عمليات الانتشار، كما أنها تعد مدخلا رئيسًا نحو دعم السلوك المسئول بين الدول التي تمتلك بالفعل سلاحًا استراتيجيًّا." ومن جانبي، لا أوافق بأية حال على وجهة النظر تلك. إذا لا تزال تلك المبادرات تصطبغ بالصبغة المنهجية في تعهداتها ما يعني أنها تتقدم في الغالب بخطى وئيدة في إحراز نتائج ملموسة. ويتطلب نجاح تلك المبادرات أن تُظهِر غالبية إن لم يكن جميع الدول التي لها باع في مجال تكنولوجيا الصواريخ حسن النية والسلوك المسئول وهو أمر ليس بالهين. وعلى أية حال، فإنه ينبغي أن تواصل المبادرات السياسية والدبلوماسية مسيرتها، غير أنه فيما يتعلق بالدول التي ترفض الإذعان أو التعاون، فإننا لا نزال بحاجة إلى مبادئ يمكنها أن تثني تلك الدول عن عزمها أو يمكنها احتوائها أو ممارسة الضغط عليها.

يمكننا القول في ضوء ما سبق أن أنظمة الرقابة على الصادرات سوف تحظى بمكانة كبيرة في مجموعة الأدوات الخاصة بمنع انتشار الصواريخ بغض النظر عن عدم فعاليتها في بعض الأحيان. وقد ذكرت في مقالي الافتتاحي أن أنظمة الرقابة على الصادرات تعقد حياة الدول القائمة على عمليات الانتشار تعقيدًا كبيرا حينما ينصب تركيز تلك الدول على قطاعات التكنولوجيا الحساسة كالصواريخ طويلة المدى على سبيل المثال. كما أن سيدو ليس على يقين من أن التركيز على الصواريخ طويلة المدى أمرا ذا جدوى. فقد أوضح –على نحو صحيح- صعوبة التفريق بين مركبات الاطلاق الفضائية المدنية متعددة المراحل وبين الصواريخ متعددة المراحل. والمقصود هنا صعوبة التفريق وليس استحالته. يخالف بعض المحللين الاعتقاد الغالب حيث يرون أن بعض الجوانب في برامج مركبات الإطلاق الفضائية لا تتداخل مع تطوير الصواريخ البالستية. وفي واقع الأمر، يختص عدد قليل نوعًا ما من أنماط التكنولوجيا والمعدات بالصواريخ البالستية،ومن أمثلة ذلك أنواع معينة من الدوافع بجانب التكنولوجيات المعلقة بالعودة إلى المجال الجوي.

مرض عضال. تعد عملية انتشار الصواريخ مشكلة معقدة وتتمثل أبرز النواحي الداعية للقلق فيها -كما أوضحت إيكيغامي- في الصلة القوية بين الصواريخ وأسلحة الدمار الشامل.وما من شك أن عملية انتشار الصواريخ تعد عرضا يشير إلى وجود مرض مستفحل ألا وهو اهتمام الدول الشديد بأسلحة الدمار الشامل والتي تعد بدورها نتيجة للأمراض المتأصلة في العلاقات بين الدول. وكما هو الحال دائما عندما يعالج الدواء العرض دون المرض، فإن الجهود المبذولة لتقويض انتشار الصواريخ لن تأمل في تحقيق نجاحات هائلة.

لن تُوقف أنصاف الإجراءات انتشار الصواريخ

أليس بالإمكان –وفقا لما اقترحه زميلي بالمائدة المستديرة  واغورو بال سينغ سيدو- الحد من التهديدات التي فرضتها الصواريخ إذا ما تبنت الدول المسلحة نوويًا سياسات عدم البدء بالاستخدام وتوقفت عن وضع قواتها الصاروخية في حالة تأهب؟ بلى بكل تأكيد. فإذا ما حدث مثلًا وأعلنت إدارة أوباما بالفعل عن تبنيها لسياسة عدم البدء بالاستخدام التي أفادت التقارير قيامها بالنظر في أمر تفعيلها، سيقل لدى دول كالصين على سبيل المثال الحافز الذي يدفعها إلى تعزيز قدرتها النووية في الرد على الضربة الأولى. ونلاحظ أيضا كما أوضح سيدو أن الخطوات التي يقترحها سوف تتوافق مع المبادىء التي تتضمنها معاهدة القوى النووية متوسطة المدى، وهي المعاهدة التي تعد –حسب رؤيتي الشخصية- صكًّا من الممكن أن يشكل أساسًا ل"وقف (واستمرار وقف) التهديدات المزدوجة التي تفرضها الصواريخ والأسلحة النووية غير الاستراتيجية."

غير أن الخطوات التي اقترحها سيدو لن تُوقف انتشار الصواريخ. ولماذا إذن؟ دعونا نستهل حديثنا قائلين أنه على الرغم من انحسار أخطار وقوع حرب نووية مفاجئة إذا ما حدث وقف لحالة تأهب الأسلحة وتفعيل لسياسات عدم البدء بالاستخدام، إلا أن تلك الخطوات لن تحد بالضرورة من الترسانات النووية التي تعد واحدة من الدوافع الأساسية للانتشار النووي. ليس ثمة علاقة تربط بين المبدأ النووي وحالة التأهب وبين حجم الترسانات ولهذا فإنه بإمكان الدول المسلحة نوويا أن توقف حالة تأهب قواتها النووية وتنتهج سياسات عدم البدء بالاستخدام على أسس عالمية دون أن تقترب في الوقت ذاته من ترساناتها النووية. وهذا يعني أن سياسة عدم البدء بالاستخدام ووقف حالة التأهب لا تقدمان سوى القليل فيما يتعلق بالمبدأ التأسيسي الداخل ضمن معاهدة القوى النووية متوسطة المدى والقائم على قكرة الحد من الترسانات النووية أو التخلص منها تمامًا على اعتبار أن هذا هو السبيل الأمثل لمنع انتشار الصواريخ.

ويزيد على هذا أن وقف حالة التأهب والتبني واسع النطاق لسياسة عدم البدء بالاستخدام قد لا يمنع حتى الحرب النووية التي قد تنشب في المواقف المتأزمة وتدور رحاها بين تجمعات لقوى غير متناظرة إلى حد بعيد للغاية. وتمارس باكستان سياسة عدم البدء بالاستخدام باعتبارها سياسة موازنة لتفوق الهند في مجال القوى التقليدية. كما لم تفصح الصين عن نواياها فيما يتعلق بالمستقبل البعيد لسياسة عدم البدء بالاستخدام. ومن السهل علينا أن نتصور شروع تلك الدول في استخدام السلاح النووي حال تعرضها لخسارة الصراع التقليدي الكبير.  

ويجدر بنا في هذا المقام أن نستدعي ما صرحت به بكين وبيونغ يانغ عندما أجريتا أول اختبار نووي لهما إذ ادعيتا اضطرارهما لخوض المسار النووي ردًّا على تهديدات  أمريكا النووية وابتزارها. وتستدعي التهديدات النووية درجة بالغة من الشعور بانعدام الأمان في الدول التي تقع تحت وطأة التهديد وقد تسبب الشعور بانعدام الأمان في دفع بعض الدول غير النووية إلى تطوير سلاح نووي، بينما سيق البعض الآخر نحو نشر الصواريخ. ولا شك أن التهديدات والابتزازات وانعدام الأمان النفسي تمثل عناصر أساسية في مسألة انتشار الصواريخ، إذ من غير الممكن التصدي لتلك القضايا على نحو ملائم باتخاذ اجراءات فنية كالرقابة على تكنولوجيا الصواريخ أو وقف حالة التأهب أو تطبيق سياسات عدم البدء بالاستخدام.

وكان مما قال توماس شيلينغ وقت حصوله على جائزة نوبل في الإقتصاد لعام 2005 أن "حالة المقت التي تسود العالم بأسره تقريبا من السلاح النووي"  منذ عام 1945قد "غرس بذورها الصمت العالمي." ولكنه تساءل "عما إذا كان الحظر واسع الانتشار للسلاح النووي" الذي يعد "كنزا جديرا بالحفاظ عليه" سوف يدوم أم لا. فلدى عمليات انتشار الصواريخ من الإمكانات ما يؤهلها لخفض مستوى استخدام السلاح النووي.

ومن الممكن دون شك اعتبار "أزمة الصواريخ الكوبية التي شهدها القرن الحادي والعشرين" نتاجًا لانخراط دول مسلحة نوويًا في مناطق متوترة في عمليات نشر الصواريخ خاصة إذا كانت تلك الدول تفتقر إلى المقومات الأساسية لبناء الثقة. ويكشف هذا الحاجة الماسة إلى بذل جهود حثيثة لبناء الثقة في مناطق الشرق الأوسط وشمال شرق آسيا وهي مناطق تحظى بقدر كبير من الإهتمام.ألا تتذكرون معاهدة القوى النووية متوسطة المدى وكيف أن إبرامها قد تتطلب بذل جهود في بناء الثقة لعشرات السنوات في وقت بلغت فيه الحرب الباردة أوجها وكان لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا اليد الطولى في بذل تلك الجهود (وقد حظيت المنظمة مؤخرا بمصداقية كبيرة نظرا للجهود التي بذلتها في وقف الصراع بأوكرانيا). وقد يصبح الطريق ممهدا في نهاية الأمر، بعد بذل جهود حثيثة طويلة المدى في مجال بناء الثقة إقليميا، لإبرام معاهدة مماثلة لمعاهدة القوى النووية متوسطة المدى في مناطق آسيا والشرق الأوسط.

التفكير خارج الصندوق يخمد جذوة التهديدات الناجمة عن الصواريخ

من غير المتوقع أن تثمر الجهود المبذولة لوضع معايير ومواثيق دولية لمنع انتشار الصواريخ طالما أن مثل تلك الجهود تبدوا عنصرية وتفتقر إلى التزام شبه دولي. ولن تنجح المحاولات طالما أن الصواريخ، تقليدية كانت أم مسلحة بأسلحة دمار شامل، لا تزال تمثل حجر زاوية في أمن الدول.

يتفق المشاركون بتلك المائدة المستديرة إلى حد كبير فيما يتعلق بتلك النقاط، في حين ترى زميلتي ماساكو إيكيغامي في الجولة الثانية فيما يخص معاهدةٍ وُضِعَت على نمط معاهدة القوى النووية متوسطة المدى أن "هذا سوف يضع نهاية للتهديدات المزدوجة لكل من الصواريخ والأسلحة النووية غير الاستراتيجية." ومما لا شك فيه أن الرغبة في مواجهة انتشار الصواريخ تحت مظلة معاهدة أو نظام دولي ما زالت قائمة بغض النظر عن العقبات الكثيرة التي تحول دون تحقيق هذا الهدف.

كشفت إيكيغامي نفسها بكل وضوح عن بعض الأسباب التي تجعل من معاهدةٍ دولية للقوى النووية متوسطة المدى أو من اتفاقٍ يهدف إلى القضاء على الصواريخ البالستية أو حتى من التباين الإقليمي حول تلك الأفكار أمورًا تنطوي على كثيرٍ من التحديات حال محاولة تحقيقها على أرض الواقع. ورغم ذلك فإنه من الممكن عولمة المبادئ التي تمثل أسس معاهدة القوى النووية متوسطة المدى. وقد تضمنت تلك المبادئ الالتزام بالحد من المخاطر الناجمة عن الصواريخ المجهزة في وضع الاستعداد والتي يقل أمد طيرانها للغاية بجانب وجودها في حالة تأهب قصوى. كما تضمنت تلك المبادئ الإقرار بالحاجة إلى تقليل حدة التوتر وبناء الثقة. كما أنها جسدت الرغبة في مواجهة أسباب عدم الأمن بين الدول واقتلاعها من جذورها وذلك على المستويين المحلى والعالمي.

وفي ضوء ما سبق، وفيما يتعلق بالدول الحائزة لصواريخ بالستية مزودة بأسلحة دمار شامل يطرح هذا التساؤل نفسه، ألا يوجد خطوات من شأنها أن تتوافق مع تلك المبادئ وتحد من التهديدات التي فرضتها كافة أنواع الصواريخ، سواء تم اتخاذها على مستوى متعدد الأطراف أو ثنائي أو إقليمي أو عالمي؟ وجواب السؤال بلى بكل تأكيد.

تتمثل إحدى تلك الخطوات في انتهاج الدول التسع الحائزة للسلاح النووي جميعهم للسياسة النووية لعدم البدء بالاستخدام. ومن بين تلك الدول التسع، تنتهج الصين والهند بالفعل تلك السياسة. وتشير التقاريرإلى أن باراك أوباما يعكف حاليا على دراسة مسألة انتهاج الولايات المتحدة لسيلسة عدم البدء بالاستخدام قبل انتهاء مدة ولايته. ويتشكك بعض المراقبين في مسألة التحول تلك خاصة عند النظر في تداعياتها على التزامات تحالف واشنطن في شمال شرق آسيا. وعلى خلاف ما سبق، فإن سياسات عدم البدء بالاستخدام قد تمثل مساهمة فعلية في الأمن العالمي خاصة حال توقيع الدول التسع بكاملهم عليها.

ويأتي الحد من حالة التأهب لدى الدول الحائزة للصواريخ كخطوة أخرى، خاصة ما يتعلق بالصواريخ المزودة بسلاح نووي إذ يترتب على ذلك إمكانية تأجيل أمد إطلاقها. تسمح إنهاء حالة التأهب بمنح صانعي القرار مزيدًا من الوقت للتفاعل مع الأحداث ولربما قد يفضي الأمر إلى السعي  للوصول إلى حلول دبلوماسية. كما أن اتفاق وقف حالة التأهب بين الولايات المتحدة وروسيا (ويدخل فيه أيضا الصين والهند حيث تفيد التقارير عدم إبقائهم على قواهم النووية في الوقت الحالي في حالة تأهب) قد يكون دافعا لوضع نظام عالمي يضمن خروج القوى النووية لكافة الدول التسع الحائزة للسلاح النووي من حالة التأهب.

يأتي القضاء -على نحو يمكن إثباته- على الصواريخ التكتيكية ذات القدرة النووية والتي يقل مداها عن مائة وخمسين كيلو متر، خاصة في المناطق التي يقل فيها أمد الطيران على نحو كبير للغاية كفكرة أخرى للحد من التهديدات الناجمة عن الصواريخ. ولا شك أن مثل هذا النوع من الأسلحة يكون دوما في وضع الاستعداد وفي حالة تأهب قصوى ويتوقف أمر إطلاقه على أوامر قادة محليين، الأمر الذي جعلهم يمثلون مصدر خطورة وعدم استقرار شديدين. وبم أن هذا النوع من الصواريخ لا تمتلكه سوى دولتان فقط هما كوريا الشمالية وباكستان، فإنه بإمكان الدول النووية السبع الأخرى السعي فيما بينهم نحو وضع نظام عالمي "للصواريخ النووية غير التكتيكية" ليكون بمثابة نقطة انطلاق لهم.

 وقد اقترح فريق الخبراء الحكوميين التابع للأمم المتحدة في دورة 2008 عددًا آخر من الأطروحات. فقد اقترح الفريق على سبيل المثال عددًا من الجهود الخاصة تهدف إلى "تعزيز الأمن الدولي والإقليمي بما في ذلك التسوية السلمية للنزاعات". وقد تبدوا تلك الرؤية مثمرة إن طبقت في شمال شرق آسيا على وجه الخصوص، أن تلك المنطقة أصبحت في الفترة الأخيرة مسرحا جرى به أكبر عدد من اختبارات الصواريخ على مستوى العالم بأسره فضلا عن ارتفاع وتيرة التوتر بها. ولكن، ونظرا لأن تطبيق رؤية موحدة للصواريخ لن يؤتي ثماره في جميع المناطق على وجه سواء، فإنه يجب وضع إجراءات محلية لكل منطقة على حدة بحيث تتناسب تلك الإجراءات تماما مع طبيعة كل منطقة، ويجب ألا نغفل في الوقت ذاته عن الاعتبارات التاريخية والجغرافية والتكنولوجية والسياسية لتلك المنطقة.

ففي شمال شرق آسيا على سبيل المثال، لربما يكون المنتدى الذي يهدف في معظمه إلى الحد من التهديدات الناجمة عن الصواريخ هو الآلية المعلقة للمحادثات سداسية الأطراف. إذ من المحتمل أن يضم برنامج الأعمال حال استئناف المحادثات "خارطة طريق نموذجية"متعددة المراحل "لوضع نظام ٌإقليمي للحد من الصواريخ" وذلك وفقا لما اقترحه أكيرا كوروساكي الباحث بجامعة ريكيو. ولا شك أن هذا النموذج سوف يتطلب في مراحله الأولية تأسيس "منظمة إقليمية للرقابة على تكنولوجيا الصواريخ وعلى إطلاق الشراراة الأولى لإجراء اختبار/اختبارات طيران الصواريخ وعلى تبادل المعلومات حول تسليح الصواريح إضافة إلى عمليات التفتيش والفحص". ورغم ذلك فإنه يجب على الصين والولايات المتحدة كي تُستَأنف المحادثات برمتها أن يكونا طرفان فاعلان لهما أدوار دبلوماسية محورية.

ونختتم حديثنا بالتنويه على تلك النقطة ومفادها اجتماع الكتاب بتلك المائدة المستديرة حول مفهوم مشترك يتلخص في أن أفضل السبل لمواجهة انتشار الصواريخ يأتي من خلال وسائل سياسية ودبلوماسية وليس من خلال رؤى عسكرية. هذا مع استمرار الجهود التكنولوجية كالدفاع الصاروخي دون شك. ورغم ذلك تظل كفاءة الوسائل السياسية والدبلوماسية  في منع انتشار الصواريخ أو هجماتها أمرا غير مجزوم بصحته.


Share: [addthis tool="addthis_inline_share_toolbox_w1sw"]

RELATED POSTS

Receive Email
Updates