The authoritative guide to ensuring science and technology make life on Earth better, not worse.

الحد من— أو التوسع في— الدفاع الصاروخي

منذ انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية في عام 2002، لم يضع النظام الدولي لمراقبة الأسلحة قيودا على الدفاع الصاروخي. وتريد واشنطن أن تبقى الأمر على هذا النحو، حيث تصر على أنها "سوف تستمر في رفض التفاوض بشأن أي قيود يتم وضعها على الدفاعات الصاروخية البالستية للولايات المتحدة". ويعتقد كثير من الخبراء أن الدفاع الصاروخي يقوض الاستقرار الاستراتيجي؛ في حين يجادل البعض الآخر بأن الدفاع الصاروخي يمكن أن يلعب دورا في نزع السلاح النووي. فيما يلي، يناقش مؤلفون من الصين وروسيا ورومانيا ما إذا كان ينبغي أن تشمل تدابير مراقبة الأسلحة قيودا على الدفاع الصاروخي— أو ما إذا كان ينبغي تشجيع التقدم في مجال الدفاع الصاروخي لأنه قد يساهم في تحقيق نزع السلاح.

Round 1

الدفاع الصاروخي في عين الناظر

يوجد، لحسن الحظ، عدد محدود من الأدلة التجريبية على فعالية الأسلحة النووية كآليات للسياسة الخارجية. وهذا يعني أن تقييم السياسة النووية يرتكز بعمق على أساس نظري— وأن آراء المرء بشأن الدفاع الصاروخي تتأثر بشدة بالافتراضات النظرية.

لكن وجهات النظر حول الدفاع الصاروخي تعتمد أيضا على الولاءات الشخصية. أنا مواطن من رومانيا، التي تعد حليفة للولايات المتحدة من الدرجة الثانية في أوروبا، ولذا فإنني سوف أميل إلى دعم وجهات النظر التي تتفق مع مصالح رومانيا والدول التي على شاكلتها. سوف أحكم على المناهج النظرية الخاصة بالدفاع الصاروخي في ضوء آثارها على بلدي. وأعتقد أن أفضل إمكانية لفهم مناقشات الأسلحة النووية (والدفاع الصاروخي) تأتي ضمن الأطر التي تؤكد على نزع السلاح والاستقرار أو السيادة الوطنية. لكن أي منها يتوافق بشكل أفضل مع ولاءاتي الخاصة؟

دعاة نزع السلاح. يُصنف دعاة نزع السلاح إلى فئتين على الأقل—الرافضون لقدرة الأسلحة النووية على الردع والكبح، والمتقبلون لها. أنصار المعسكر الأول يرفضون فكرة أن الأسلحة النووية يمكن أن تسمح بتغليب العقلانية والاتزان. ويعتقدون بدلا من ذلك أن الأسلحة النووية لا بد وأن تتسبب في حدوث سوء التقديرات والحروب. وعلى الرغم من أنه يمكن أن تستخدم الدفاعات الصاروخية لإنفاذ الامتثال في عالم خال من الأسلحة النووية، يرى أنصار المعسكر الأول أن الدفاعات الصاروخية تقوم فقط بصرف الانتباه عن جهود القضاء على الأسلحة النووية، وتجعل العالم غير المستقر بالفعل أكثر خطورة.  

أما المعسكر الثاني فإنه يتقبل فكرة أن الأسلحة النووية تقوم بمهمة الردع، لكنه يعتقد أن هذه الميزة تتفوق عليها المخاطر المصاحبة مثل الاستخدام غير المقصود أو المخاطر المتعلقة بالأمن النووي. وعلى الرغم من أن أصحاب وجهة النظر هذه كانوا يأملون في إصلاح البنية الأمنية العالمية الراهنة من أجل تمكين نزع السلاح، فقد تخلى معظمهم عن هذا الأمل. غير أنهم يأملون الآن في أن تعترف الدول المسلحة نوويا بالمخاطر الكامنة في حيازة هذه الأسلحة والمضي قدما نحو القضاء عليها. في مثل هذا السيناريو، قد تتعاون الحكومات الواعية على إنشاء نظام دفاع صاروخي عالمي من شأنه أن يجعل الصواريخ النووية شيئا من الماضي. وبالتالي يمكن إقناع بقية المدافعين عن الأسلحة النووية بنزع سلاحهم.

للوهلة الأولى، تبدو حجج المطالبين بنزع السلاح جذابة. إذ أن أي استخدام للأسلحة النووية سيكون بالقطع له عواقب كارثية على العالم أجمع. ولكن مع اعتماد معظم دول الكوكب على الأسلحة النووية للأمن بطريقة أو بأخرى— وفي ظل غياب المناقشات الجادة لإصلاح بنية الأمن العالمي الحالية— فإن القضاء على الأسلحة النووية يبدو أمرا مستحيلا، مهما بلغت الرغبة في تحقيق هذا الهدف. لذلك يجب تقييم الدفاعات الصاروخية في ظل النظام الدولي المتنافس الموجود حاليا، وليس في ظل عالم افتراضي من الحكومات المستنيرة. ليس هناك سبب وجيه يدعو للاعتقاد بأن أي دولة سوف تتخلى عن المزايا التي حققتها بشق الأنفس في مجال تكنولوجيا الدفاع الصاروخي أو أنها سوف تزعن إلى نظام تعاوني بشكل فعلي.

دعاة الاستقرار. بينما يتسم النهج النظري لدعاة الاستقرار بتقييم الوضع الراهن والسعى للحفاظ عليه إلى الأبد. يمقت دعاة الاستقرار الصراعات بين الدول. ويجادلون بأنه في عالم مسلح نوويا، فمن الضروري، أكثر من أي وقت مضى، أن تستخدم جميع الدول القوة العسكرية فقط لضمان أمنها المادي من العدوان الخارجي. ويهدف دعاة الاستقرار إلى منع المعضلات الأمنية، وبالتالي المساعدة في تفادي الحروب. إن بعض دعاة الاستقرار يرحبون بالقضاء على الأسلحة النووية، لكنهم يقدرون التوقعات الحالية لنزع السلاح بأنها مشؤومة—ويأملون في أن تبني عملية تدريجية ستؤدي إلى النتيجة المرجوة. بينما يتقبل البعض الآخر من دعاة الاستقرار فكرة أن الأسلحة النووية تعمل على الاستقرار بوجه عام، وأنهم على استعداد للتعايش مع المخاطر الكامنة لهذه الأسلحة. لكن جميع دعاة الاستقرار لا يوافقون على التحديات التي تواجه النظام الدولي الحالي.

تعتبر الدفاعات الصاروخية، بالنسبة لدعاة الاستقرار، عديمة النفع ومحفوفة بالمخاطر. فهى عديمة النفع لأن القدرات التقليدية والنووية الساحقة للدول المهيمنة يمكن أن تردع ناشرو الأسلحة النووية من الإقدام على المغامرة. وعلى الرغم من أن القوى النووية الناشئة يمكنها تحصين أنفسها من الغزو، فإنه لا يمكنها إجبار الآخرين على الخضوع. فهى تدرك أن شن هجوم نووي سوف يستدعي إجراءات عقابية ساحقة. وفي الوقت نفسه، تعد الدفاعات الصاروخية محفوفة بالمخاطر لأنها يمكن أن تزعزع استقرار العلاقات بين القوى العظمى. إذا خشيت قوة نووية من أنه يمكن تدمير معظم صواريخها في ضربة أولية واعتراض بقية صواريخها الأخرى بواسطة الدفاعات الصاروخية، فإنها ستقوم ببناء ترسانة أكبر وتطوير قدرات دفاعية خاصة بها.

تبدو حجج دعاة الاستقرار معقولة جدا من وجهة نظر حلفاء الولايات المتحدة من الدرجة الثانية في أوروبا. فقد استفادت هذه الدول من المظلة الأمنية المنيعة للولايات المتحدة. حيث سمح السلام والقدرة على التنبؤ الناتجة عن ذلك بالنمو الاقتصادي والرخاء النسبي. إن مغامرة القوى النووية الجديدة البعيدة عن الشواطئ الأوروبية تبدو مشكلة يمكن التحكم فيها لدول مثل رومانيا. كما يبدو لها أن التهديد يأتي من الصراع بين القوى الكبرى. في الحقيقة، تتعلق بعض التوترات بين الولايات المتحدة وروسيا بالدفاع الصاروخي. لكن الدفاع الصاروخي قد يكون مجرد عرض ظاهري لخلافات كبيرة بين الدولتين. إذا كان هذا هو الحال، فلن يحقق حظر الدفاع الصاروخي سوى القليل. إذ سوف تندلع التوترات بين الولايات المتحدة وروسيا في بعض الميادين الأخرى.

المصالح العليا. من ناحية أخرى، يركز المؤمنون بسيادة الأجناس على تعزيز رفاهية دولهم بكل الوسائل المتاحة. فهم يرون العالم كشيء يجب تأمينه من أجل تحقيق مصالحهم. فالاستقرار يعتبر قيمة إذا كان الوضع الراهن يصب في مصلحتهم— لكن إن لم يكن كذلك، فيمكن تعديل الظروف من خلال استخدام القوة. وعلى الرغم من أن صندوق القوة يحتوي على العديد من الأدوات، فإن القدرة على تهديد الآخرين تعد الأداة الأهم. إن التلاعب بالقوة العسكرية في بيئة نووية أمر خطير بالتأكيد، ودوامة التصعيد احتمال وارد دائما. لكن المؤمنين بسيادة الأجناس لا يبالون إذا تركوا شيئا للصدفة.

لذا فإن الدفاعات الصاروخية تعد مفيدة بالنسبة للمؤمنين بسيادة الأجناس. بالطبع، يمكن للدول الأقوى عادة أن تردع الدول النووية الأضعف من الاقدام على سلوك متهور. لكن إذا اصطدمت تفضيلات الدول المهيمنة مع المصالح الأساسية للدول الأضعف، فالنتيجة هي وجود عدم توازن في الأنصبة التي قد تمنع الدول القوية من إمداد الدول الضعيفة بتسليح قوي. هنا، يمكن لنظام دفاع صاروخي يعمل بشكل جيد ومعقول أن يوفر الترياق لهذه المشكلة. فإنه سيحيط قدرة الدولة الضعيفة لضرب الدولة القوية بالغموض وسوف يعزز من السيطرة القسرية للدولة القوية— يضاف إلى قدرة الدولة الأقوى على شن عقاب جسيم. على الرغم من أن الدفاع الصاروخي قد يقلق القوى العظمى الأخرى، فيمكنه أيضا إجبارهم على تحويل مواردهم النادرة لحماية روادعهم النووية. وهذا سيضعف قوتهم في مجالات أخرى.

تبدو حجج المؤمنين بسيادة الأجناس لا تستحق الدعم (ربما باستثناء مواطني الدول التي تؤمن بسيادة الأجناس). ومع ذلك، من وجهة نظر رومانية، يعد النظام الدولي الحالي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة إيجابي للغاية. ومع ذلك، يبدو الأمر كرهان متهور أن نفترض أن النظام الدولي الحالي— الذي يصب في مصالحي الخاصة— يمكن الحفاظ عليه إلى الأبد بدون صراع. إن إعادة تعديل الاقتصاد العالمي جارية، وسوف تطالب القوى الصاعدة قريبا بمكانتها البارزة. إذن، ما هي أفضل طريقة لضمان أن يتم أي تحول بمنأى عن النظام الحالي ببطيء وبدون عراقيل؟ هل الاعتماد على القوة العسكرية سوف يمكن لمثل هذا التحول، أو أنه لن يؤدي إلا إلى الحرب والدمار؟ هذا هو جوهر المسألة.

إن نشر الدفاع الصاروخي الحالي للولايات المتحدة محدود وضعيف. ومع ذلك فإنه يخدم مصالح حلفاء الولايات المتحدة بشكل جيد. فهو يمثل خط دفاع أول أمريكي، بحيث يطمئن النخب في كثير من الدول أن واشنطن تقوم بحراسة أمنهم. ولا يزال من الصعب معرفة ما إذا كان نشر نظم دفاعات كاملة سوف يعزز من مصالح حلفاء الولايات المتحدة أو يضر بها. ورغم ذلك، وبالنظر إلى الأداء الضعيف للدفاع الصاروخي الامريكي في العديد من التجارب الأخيرة، فإن مثل هذه الدفاعات الكاملة قد لا تتحقق أبدا.

تجنب سباقات تسلح جديدة

هل يجب أن تتضمن تدابير مراقبة الأسلحة قيودا على الدفاع الصاروخي؟ كانت هناك تدابير في السابق—بموجب معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية لعام 1972. إذ تضمنت المعاهدة قيودا على الدفاع الاستراتيجي للصواريخ البالستية فقط، وليس على الدفاع الإقليمي للصواريخ البالستية أو على مسرح العمليات؛ وبرغم من ذلك ساهمت في الاستقرار الاستراتيجي. عندما انسحبت الولايات المتحدة من المعاهدة في عام 2002 وبدأت في عام 2004 في نشر قدرات دفاعها الصاروخي التي لم يكن مسموحا بها قبل الانسحاب، زادت احتمالات ظهور سباق تسلح نووي جديد.

وقد شرعت روسيا، منذ انتهاء المعاهدة، في تحديث شامل لنظامها الدفاعي (أيه-135) ضد الصواريخ الباليستية، إذ يفترض أن يكون الهدف من ذلك هو إضافة مراحل أخرى لبنية النظام. لكن النظام الروسي قادر على العمل في محيط موسكو فقط، وعلى الرغم من قدرته على اعتراض صاروخ باليستي واحد أو ربما عدة صواريخ، فإنه سيكون غير فعال في صد هجوم صاروخي هائل. إن روسيا، على عكس الولايات المتحدة، ليس لديها خطط لتوسيع نظام دفاعها الصاروخي في جميع أنحاء العالم.

لقد بدأت الولايات المتحدة بالفعل في نشر العناصر الأساسية لما قد يصبح مستقبلا نظام دفاع صاروخي عالمي. ويشمل ذلك مجموعة وسائل متنوعة لاعتراض الصواريخ البالستية عابرة للقارات والصواريخ البالستية التي تطلق من الغواصات، وصواريخ كروز بعيدة المدى التي تطلق من الجو—فضلا عن الصواريخ الباليستية متوسطة وقصيرة المدى. لا تزال قدرات النظام الأمريكي محدودة. لكن إذا تم زيادة عدد الصواريخ الاعتراضية وتعزيز أدائها، سوف تنشأ تحديات كبيرة أمام تحقيق الاستقرار والأمن الدوليين.

إن القوى الإقليمية، لا سيما روسيا والصين، قلقة بشدة من خطط الولايات المتحدة لنشر عناصر من أنظمة دفاعها الصاروخي في مواقع حول العالم. على سبيل المثال، هددت خطط جورج دبيلو بوش لإنشاء "موقع ثالث" في بولندا وجمهورية التشيك بخلق أزمة في العلاقات الأمريكية-الروسية. وتم تفادي الأزمة عندما تخلت إدارة أوباما عن خطط بوش في عام 2009، حين عدلت عن ذلك إلى تبني بما يعرف بـ"النهج التكيفي التدريجي"—وهو في الأساس عبارة عن مواجهة التهديدات الصاروخية المعروفة من خلال الوسائل المتاحة بينما يتم العمل أيضا على تطوير تقنيات جديدة لمواجهة التهديدات التي قد تنشأ في المستقبل. ومع ذلك، تعتقد موسكو أن عناصر نظام الدفاع الصاروخي الأمريكي المتمركزة في أوروبا موجهة ضد روسيا، رغم نفي واشنطن ذلك. ولم يتم تخفيف مخاوف روسيا في ظل تقارير حديثة حول دعوة بعض دول حلف الناتو بتوجيه نظام الدفاع الصاروخي الأوروبي ضد موسكو بشكل رسمي.

يبدو أن الولايات المتحدة قد تقدم أيضا على إنشاء نظام دفاع صاروخي إقليمي في آسيا— النهج التكيفي التدريجي في آسيا والمحيط الهادئ—الأمر الذي سيؤدي إلى تعاون اليابان وكوريا الجنوبية ودول أخرى في المنطقة. سيكون نظاما مكونا من مرحلتين، حيث تشمل المرحلة الأولى السفن القتالية البحرية المسلحة لاعتراض الصواريخ الباليستية في مرحلة الإطلاق، أو في مرحلة مبكرة من تحليقها خلال مسارها. بينما تشكل النظم المتمركزة براً المرحلة الثانية. رسميا، سوف يحمي هذا النظام الولايات المتحدة وقوات حلفائها والمنشآت العسكرية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ من الصواريخ الباليستية التي قد تطلقها دول مثل كوريا الشمالية. لكن الصين تنظر إلى مثل هذه الخطط بعين القلق، ولن يكون من المفاجئ إذا اتخذت بكين تدابير مضادة ضد نشر مثل هذا النظام. في ظل مثل هذا السيناريو، سيختل التوازن الاستراتيجي في المنطقة وستُعرقل الجهود المبذولة لتحقيق تخفيضات في الأسلحة، كما ستزيد احتمالات ظهور سباق التسلح.

لكن الخطر الأكبر المرتبط بالدفاع الأمريكي ضد الصواريخ الباليستية سيأتي من نشر قدرات دفاعية مرتكزة في الفضاء. إذا اتخذت واشنطن قرارا سياسيا بنشر أسلحة مرتكزة في الفضاء لاعتراض الصواريخ الباليستية، فإن عسكرة الفضاء الخارجي سيصبح أمرا حتميا. وسيضطر حينها المجتمع الدولي للتوقف عن الامتثال لمعاهدة الفضاء الخارجي. وسيؤدي سباق التسلح في الفضاء إلى عواقب لا يمكن التنبؤ بها، كما سيقوض أسس الاستقرار الاستراتيجي.

بدائل قليلة. باعتبار كل ما سبق، فمن الضروري أن توضع قيود على دفاعات الصواريخ الباليستية في إطار النظام الدولي لمراقبة الأسلحة. إذن، ما هي البدائل المتاحة لهذا النهج؟ اثنان فقط. أولا، يمكن أن يتحول الدفاع الصاروخي إلى مشروع تعاوني—وهو ما قامت روسيا باقتراحه مرارا على الولايات المتحدة، لكن دون جدوى. ثانيا، يمكن أن تدخل القوى النووية في سباق تسلح جديد. ويجادل الخبراء الروس، ردا على نشر الولايات المتحدة لنظام الدفاع الصاروخي العالمي، بأنه يجب أن تنسحب موسكو من معاهدة الأسلحة النووية المتوسطة المدى واستئناف إنتاج صواريخ باليستية وصواريخ كروز متوسطة وقصيرة المدى. (في الوقت نفسه، تزعم حكومة الولايات المتحدة أن روسيا قد انتهكت بالفعل تلك المعاهدة.)

إن منع انتشار الأسلحة النووية هو أحد الأولويات الرئيسية على جدول أعمال الأمن الدولي. كما يحتل أيضا مرتبة عالية في جداول أعمال العديد من الدول المنفردة. لكن سيكون من الصعب فرض نظام حظر الانتشار النووي الدولي إذا كان سيؤدي التطوير غير المقيد لأنظمة الدفاع الصاروخي إلى دخول الدول الحائزة للأسلحة النووية في سباق تسلح جديد من تلقاء أنفسها. والخطوة العملية الأولى لتجنب هذه النتيجة هى معالجة الدفاع الصاروخي في المرحلة المقبلة من المفاوضات الأمريكية-الروسية حول الحد من التسلح.

لا استقرار بدون قيود على الدفاع الصاروخي

بدأ المحللون بمناقشة الدفاع الصاروخي وتأثيره المحتمل على الاستقرار الاستراتيجي منذ عام 1960، و لا تزال الرؤية الأساسية التي ظهرت منذ عقود تتعلق بوقتنا الحاضر. إذا كان بإمكان دولة مسلحة نوويا تطوير نظام دفاع صاروخي قادر على تحييد قدرة دولة أخرى على شن ضربة نووية انتقامية، فسوف تزداد حوافز الدولة الأولى للقيام بالضربة النووية الأولى.  

إن هذا من شأنه تقويض الاستقرار الاستراتيجي— لذلك يجب أن تمتنع الدول المسلحة نوويا عن بناء أنظمة دفاع صاروخية تغطي كامل أراضيها ومناطقها السكانية. في الواقع، تحظر معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية عام 1972، وهى حجر الزاوية في الحد من التسلح خلال الحرب الباردة، نشر أنظمة الصواريخ الباليستية باستثناء محيط العواصم الوطنية ومحيط صوامع إطلاق الصواريخ الباليستية العابرة للقارات. لكن للأسف، فقد انسحبت الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية في عام 2002 وبدأت في نشر نظام دفاعها الصاروخي في 2004. وقد أثار ذلك مخاوف بالغة لدى كل من الصين وروسيا.

إن تلك المخاوف ليست نابعة بشكل كبير من البنية الحالية للدفاع الصاروخي الباليستي للولايات المتحدة، فهى صغيرة الحجم وليست فعالة جدا، لكنها نابعة مما قد يصبح عليه الدفاع الصاروخي الامريكي في المستقبل. اليوم، تمتلك الولايات المتحدة 30 صاروخا اعتراضيا أرضيا في آلاسكا وكاليفورنيا. ومن المقرر أن يزيد هذا العدد إلى 44 بحلول عام 2017، لكن حتى نظام بهذا الحجم لن يكون قادرا على تحييد هجوم انتقامي روسي. ولن يكون قادرا أيضا على تحييد الردع النووي للصين. لكن هذا قد يتغير اذا أظهر النظام فعالية أكبر— وهو ما تعمل الولايات المتحدة باجتهاد على تحقيقه.

إن التحدي الأكبر الذي يواجه أنظمة الدفاع الصاروخي متوسطة المدى هو التمييز بين الرؤوس الحربية الحقيقية والشراك الخداعية. ولمواجهة هذا التحدي، تقوم الولايات المتحدة بنشر رادار "إكس-باند" في اليابان كما يحتمل نشره في كوريا الجنوبية.  كما تقوم الولايات المتحدة ببناء رادار جديد أرضي من نوعية "إكس- باند". وتقوم كذلك بتطوير "مركبة قتل" جديدة— وهى ذلك الجزء من الصاروخ الاعتراضي الذي يدمر في الواقع الصاروخ المستهدف— من شأنها أن تكون قادرة على نقل الصور. وهذا سوف يساعد الولايات المتحدة على تنفيذ طريقة اطلاق نار تعرف باسم (أطلق-راقب- أطلق)، الذي ينطوي على اطلاق صاروخ اعتراضي، والانتظار لمعرفة ما اذا كان قد دمر هدفه، ثم الإطلاق مرة أخرى إذا لزم الأمر. إذا تمكنت الولايات المتحدة من تحسين قدراتها على التمييز بما فيه الكفاية من خلال تدابير مثل هذه، فإن تحييد الردع النووي الصيني والروسي سوف يكون ببساطة مسألة نشر عدد كاف من الصواريخ الاعتراضية.

تؤكد الولايات المتحدة على أن الهدف من نظامها القومي للدفاع الصاروخي الباليستي هو مجرد حمايتها ضد تهديدات قادمة من كوريا الشمالية وإيران، وليس من الصين أو روسيا. لكن إذا كان هدف النظام محدود حقا، على واشنطن أن تتقبل قيودا على دفاعاتها الصاروخية. لكنها ترفض القيام بذلك. وقد طالبت روسيا أن تقدم الولايات المتحدة ضمانات قانونية بأن صواريخها الاعتراضية لن تستهدف الصواريخ الاستراتيجية الروسية. وقد طالبت بضمانات عسكرية- تقنية بأن أي نظام دفاع صاروخي في أوروبا لن يتمكن من تحييد الصواريخ الاستراتيجية الروسية. واقترحت أن يتم إنشاء نظام يسمح للناتو وروسيا بممارسة سيطرة مشتركة على إطلاق الصواريخ الاعتراضية. لكن الولايات المتحدة عارضت كل هذه المقترحات، ويبدو أنه من غير المحتمل أن تتوصل روسيا والولايات المتحدة الى اتفاق بشأن الدفاع الصاروخي في المستقبل القريب. بالنسبة إلى روسيا والصين، فإن رفض واشنطن قبول قيود على دفاعها الصاروخي يوحي بأن النظام يحمل إمكانات كامنة لتحييد الردع النووي لروسيا والصين. كما يوحي أيضا بأن إدارة أوباما تريد أن تقدم للإدارات المستقبلية المرونة اللازمة لاستخدام هذه الإمكانات.

سياسة متناقضة. التزام الولايات المتحدة بدفاع الصواريخ البالستية غير المحدد سوف يعيق عملية نزع السلاح العالمية، وربما يؤدي الى تجدد سباق التسلح النووي. لا سيما أنه سيكون من الصعب جدا اقناع روسيا بأنه يمكن المحافظة على الاستقرار الاستراتيجي من خلال خفض الترسانات النووية إلى مستويات متدنية، طالما أنه سيظل من غير الممكن التنبؤ بمستقبل الدفاع الصاروخي. إن موسكو متشككة بالفعل بشأن التخفيضات النووية بسبب قدرة الولايات المتحدة على شن ضربات تقليدية دقيقة، فضلا عن التزام واشنطن بالتعزيز النوعي لقوتها النووية الهجومية في الوقت الذي تقوم فيه بالتخفيض الكمي لترسانتها.

أما من وجهة نظر الصين، فإن الأمور تبدو أكثر سوءا. إذ يمكن تحييد ترسانة الصين النووية المتواضعة بواسطة أي نظام دفاع صاروخي باليستي أمريكي صغير— طالما كان النظام فعالا على نحو كافٍ. وإذا ما تيقن قادة الصين من أن نظام الدفاع الصاروخي الأمريكي بإمكانه تحييد الردع النووي لبكين، فإنهم قد يقررون أيضا بناء مزيد من الأسلحة النووية لاستعادة الاستقرار الاستراتيجي. وستكون النتيجة سباق تسلح للدفاع والهجوم.

تنتهج إدارة أوباما سياسة نووية متناقضة. فمن جهة، تصر الإدارة على أنها " سوف تستمر في رفض التفاوض بشأن أي قيود يتم وضعها على الدفاعات الصاروخية البالستية للولايات المتحدة". ومن جهة أخرى، فإنها تعبر عن رغبتها في الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي مع الصين وروسيا، وإجراء مزيد من التخفيضات في المخزونات النووية، والعمل نحو إيجاد عالم خالٍ من الأسلحة النووية. المفارقة هنا هي أن رفض واشنطن قبول قيود على دفاعها الصاروخي يجعل الأهداف الأخرى للإدارة غير قابلة للتحقيق. إن الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي وإحراز تقدم نحو نزع السلاح كلاهما يتطلب من الولايات المتحدة قبول قيود على دفاعاتها الصاروخية— كما يتطلب منها أيضا إثبات أن دفاعاتها الصاروخية قادرة على مواجهة التهديدات القادمة من كوريا الشمالية وإيران فقط، وليست القادمة من الصين وروسيا.

يجب أن تتضمن التدابير المستقبلية لمراقبة الأسلحة قيودا على الدفاع الصاروخي. ونظرا للمخاوف الأمريكية من التهديدات الصاروخية من دول مثل إيران وكوريا الشمالية، فإن إحياء معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية ومحاولة "عدم ابتكار" الولايات المتحدة نظاما وطنيا للدفاع الصاروخي تبدو أمورا غير عملية. لكن القيود المفروضة على القدرات الدفاعية الاستراتيجية يجب أن تكون متضمنة في أي اتفاقات مستقبلية بشأن الأسلحة الهجومية الاستراتيجية. إذا تفاوضت روسيا والولايات المتحدة حول مزيد من المعاهدات للحد من الترسانات النووية، يجب أن تكون القيود على الدفاع الصاروخي أحد عناصر هذه المفاوضات. وإذا كانت الولايات المتحدة تتوقع ألا تقوم الصين بتوسيع ترسانتها النووية، فيجب أن تعطي الصين تأكيدات بأن فعالية نظام الدفاع الصاروخي ستبقى في مستوى متواضع— يكون قويا بما فيه الكفاية لمواجهة الصواريخ الباليستية العابرة للقارات البسيطة التي قد تطلقها كوريا الشمالية أو إيران، لكنه لن يكون قادرا على اعتراض صواريخ الصين المتطورة. كخطوة أولى، يجب أن تعرب الولايات المتحدة عن إرادة سياسية لقبول قيود على دفاعها الصاروخي. هذا هو شرط مسبق لأي حوار جاد للمضي قدما تجاه الحد من التسلح.  

Round 2

الاستقرار الاستراتيجي والحد من التسلح ليسا مقدّسين

إن تأييد حجج الدفاع الصاروخي لزميلىّ في هذه المائدة المستديرة، ريكيانج وو وتاتيانا أنيشكينا، يعد اعتقادا أساسيا في فعالية الردع النووي واهتماما أساسيا بالحفاظ على الوضع النووي الراهن . فكلاهما يأمل في الحفاظ على وضع يقوم فيه التدمير المؤكد المتبادل، والمعروف بـ "الاستقرار الاستراتيجي " ، بمنع الولايات المتحدة من استخدام أسلحتها النووية لإجبار الصين أو روسيا على تقديم تنازلات مؤلمة . إن وو وأنيشكينا هما من نوعية دعاة الاستقرار الحقيقيين الذين وصفتهم في الجولة الأولى .

لكن حججهما تبدو منطقية فقط ضمن الإطار الضيق لافتراضاتهما ورغباتهما . إذ إن المراقبين أصحاب الافتراضات المغايرة من دعاة نزع السلاح أو من مؤيدي السيادة الوطنية سيرفضون ببساطة تلك الحجج باعتبارها غير ذي صلة بالأمر . على سبيل المثال، يعتقد الدعاة المقتنعون بضرورة نزع السلاح بعدم فعالية الردع . وأنه لا معنى لوجود اختلالات طفيفة في التوازن بين الترسانات النووية . فالقضاء على هذه الأسلحة هو كل ما يهم . أما المؤمنون بسيادة الأجناس، إن كانوا صادقين، فسوف يقرون بأن التفوق النووي هو بالتحديد الهدف من الدفاع الصاروخي الفعال . غير أن حجج وو وأنيشكينا تشوبها عدة عيوب حتى في إطار افتراضاتهما الشخصية .

لقد أصاب زميلاي في قولهما إن الصين وروسيا سوف تصبحان أكثر ترددا في خفض ترساناتهما النووية، بينما تعمل الولايات المتحدة على تحسين دفاعاتها الصاروخية . لكن ترسانة الصين صغيرة في المقام الأول وليس لدى بكين سوى خيارات قليلة لتخفيض قواتها . ويبدو أيضا أن روسيا قد استنفدت الكثير من خياراتها للحد من التسلح، وخاصة مع الأخذ في الاعتبار التفوق العسكري التقليدي الساحق للولايات المتحدة . لذا، يبدو أن الدفاعات الصاروخية الأمريكية تقدم لكل من الصين وروسيا التبرير الملائم لتجنب المناقشات حول التخفيضات النووية . لكن على أي حال، ما الفرق الذي سيحدث، وذلك من منظور دولة صغيرة غير حائزة لأسلحة نووية مثل دولتي، إذا استطاعت روسيا تدمير رومانيا 1000 أو 2000 مرة؟ لماذا يجب أن تبدو التعديلات الدقيقة للترسانات بين القوى العظمى ذات صلة بالرومانيين؟

ولا أعتقد أن تلك التخفيضات ستؤدي إلى التخلص من هذه الأسلحة يوما ما، حتى لو خفضت كل القوى النووية ترساناتها . لكن نظرا لافتراضات وو وأنيشكينا بشأن الردع، فأنا لا أفهم لماذا يفضلان نزعا كاملا للسلاح النووي . إن النزع الكامل للسلاح النووي ما لم يكن عن طريق حكومة عالمية أو ما لم يتم التخلص من جميع أنواع الأسلحة سوف يعرض روسيا والصين إلى التفوق العسكري التقليدي للولايات المتحدة، الأمر الذي يتطلب من كلا الدولتين تحويل كمية هائلة من مواردهما لتطوير قواتهما المسلحة . إذا كانت روسيا والصين تسعيان إلى الاستقرار، فليس هناك سبب يدعوهما لتأييد نزع السلاح النووي . وأى تعهدات بعكس ذلك لن تكون أكثر من مجرد دبلوماسية عامة .

وماذا عن العلاقة بين نزع السلاح ومنع الانتشار النووي؟ عرضت أنيشكينا الحجة المشهورة بأن التخفيضات النووية ضرورية إذا أريد المحافظة على نظام منع الانتشار؛ وبالتالي هناك حاجة للنظام إذا أريد منع الانتشار . هذا المنطق يبدو جذابا، لكن هناك أدلة قليلة تدعم ذلك . أولا، يبدو أن التخفيضات النووية المحدودة سيكون لها تأثير متواضع جدا على نجاح نظام منع الانتشار النووي . ثانيا، مازال من غير الواضح مدى الفضل التي يمكن أن يُنسب للنظام في وقف الانتشار في الماضي . أخيرا، الكثير من نشاطات حظر الانتشار النووي تحدث حاليا خارج النظام، وذلك غالبا نتيجة لجهود الولايات المتحدة . ولذلك من المستبعد الاحتجاج بأن كل من يعارض الانتشار يجب أن يعارض أيضا الدفاع الصاروخي للولايات المتحدة .

جادلت أنيشكينا بقوة في الجولة الثانية بأن الدفاعات الصاروخية الأمريكية تضر بالعلاقات الأمريكية الروسية . وأنا لا أجادل في حقيقة أن الدفاعات الصاروخية الأمريكية هي مصدر إزعاج للكثيرين داخل جهاز التخطيط الاستراتيجي والنووي الروسي . ومع أن النشر الحالي للدفاعات الصاروخية الأمريكية لا يمثل ضررا، فإن روسيا لديها سبب وجيه للشك في أن واشنطن تضمر نوايا خفية للتفوق . ( وأي دراسة دقيقة لسلوك الولايات المتحدة على مدى العقدين الماضيين سوف تدعم هذه الشكوك ). لكن روسيا لديها سبب وجيه لعدم الترحيب بأي انتشار عسكري أمريكي في أوروبا الوسطى والشرقية .

تدرك موسكو، مثلما تدرك الدول التي تنتشر فيها الدفاعات الصاروخية الأمريكية، أن الوجود الأمريكي يقوى التحالف عبر الأطلسي ويسمح للدول المضيفة بالتصرف تجاه روسيا بطريقة أقل لطفا . ومن خلال منظور أوسع، فإن الضمانات الأمنية الأمريكية التي يشكل الدفاع الصاروخي أحد مكوناتها إضافة إلى الجاذبية الاقتصادية للاتحاد الأوروبي تسحب دول أوروبا الوسطى والشرقية من مجال النفوذ الروسي . إن مخاوف موسكو بشأن فقدان نفوذها في أوروبا هى مخاوف مشروعة . لكن اذا أرادت روسيا تجنب هذا المسار، فسيكون من الأفضل لها القيام ببناء مجتمع حر ومزدهر داخل حدودها . فالمعارضة الشديدة للولايات المتحدة والتعدي على أوروبا الغربية لن يحقق لها سوى القليل .

الدفاع الصاروخي هو لب الموضوع

قال ليفيو هوروفيتس إن حلفاء الولايات المتحدة من الدرجة الثانية في أوروبا ليسوا قلقين بشدة بشأن قدرات أسلحة "القوى النووية الجديدة". إذ إن ما يخشونه هو الصراع بين القوى الكبرى، ولا سيما بين روسيا والولايات المتحدة. ويقر هوروفيتس بأن الدفاع الصاروخي يمكن أن يخلق توترات بين القوى العظمى، لكنه خلص إلى أن الدفاعات الصاروخية الأمريكية "تخدم مصالح حلفاء الولايات المتحدة بشكل جيد"— وذلك جزئيا بسبب أن " الدفاع الصاروخي قد يكون مجرد عرض ظاهري لخلافات كبيرة بين [روسيا والولايات المتحدة]". لكن من وجهة النظر الروسية، فإن الدفاع الصاروخي ليس بأي حال عرض لمشاكل في العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا. بل هو سبب رئيسي للمشاكل في علاقتهما.

في ديسمبر 2001، عندما أعلنت الولايات المتحدة أنها سوف تنسحب في العام التالي من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية، كان الرد الروسي صامتا نسبيا. فقد وصف فلاديمير بوتين الانسحاب بأنه قرار "خاطئ"، لكن لم يؤدِّ ذلك إلى خلق أزمة—حتى عام 2006، عندما أعلنت إدارة جورج بوش خططا لوضع عناصر نظام دفاع صاروخي في أوروبا الشرقية، بالقرب من الحدود الروسية. في هذه المرة، كان رد روسيا سلبيا للغاية. حيث هددت موسكو، على سبيل المثال، بنشر أسلحة نووية قصيرة المدى في كالينينجراد.

اعترفت واشنطن بمخاوف موسكو مع اتخاذ عدد قليل من تدابير الشفافية. لكن الولايات المتحدة رفضت في النهاية اقتراحا روسيا، عُرض لأول مرة في عام 2007، تتمكن واشنطن بموجبه من الحصول إلى معلومات مقدمة من أجهزة الرادار الروسية في جابالا بأذربيجان وأرمافير بروسيا، في مقابل الغاء خططها لوضع محطة رادار وصواريخ اعتراضية في شرق أوروبا. كما رفضت الولايات المتحدة أيضا فكرة موسكو لإنشاء مراكز مشتركة لتبادل البيانات وتقييم التهديدات. وقد أصبحت العلاقات متوترة للغاية لدرجة أن الحوارات الثنائية، بما في ذلك مفاوضات معاهدة ستارت الجديدة، كادت أن تتوقف.

وقد حدث تحسن في الوضع لبعض الوقت بعدما وضع باراك أوباما سياسة "العودة إلى الوضع الأصلي"، وأحد عناصرها الأساسية هو التخلي عن خطط نشر منشآت دفاع صاروخي في بولندا وجمهورية التشيك. لكن العلاقات بدأت تتدهور مرة أخرى في عام 2010 عندما رفضت الولايات المتحدة نهج روسيا "القطاعي" لبناء نظام دفاع صاروخي في أوروبا. حيث تتحمل روسيا، وفقا لهذه الخطة، مسؤولية التصدي ضد الصواريخ التي تطلق باتجاه أوروبا من جهة الجنوب الشرقي. وفي نوفمبر 2011، تدهور الوضع إلى درجة أن أعلن الرئيس الروسي في ذلك الحين ديمتري ميدفيديف أن موسكو ستتخذ تدابير مضادة من شأنها تمكين روسيا من تدمير نظام دفاع صاروخي أمريكي في أوروبا الشرقية.

كل هذا يدل، بالنسبة لروسيا، على أن الدفاع الصاروخي ليس قضية هامشية. بل إنه في صميم العلاقات مع الولايات المتحدة. وتعتبر موسكو الدفاع الصاروخي مغيرا محتملا لقواعد اللعبة بشأن الاستقرار الاستراتيجي والأمن الدولي. وسلوك الغرب بشأن الدفاع الصاروخي هو الاختبار الحقيقي لما اذا كانت روسيا سوف تؤخذ على محمل الجد بوصفها شريكا في الحفاظ على الأمن الأوروبي.

الثلاثة حشد. وبالنظر في المقالين الأولين لريكيانج وو، فإن الدفاع الصاروخي ليس قضية هامشية بالنسبة للصين أيضا.

إن القوة النووية الثالثة في العالم ليست ملزمة بنظام مراقبة ثنائي للأسلحة النووية، بعكس روسيا والولايات المتحدة. وتواصل الصين بناء قواتها النووية، وقد كشفت مؤخرا عن وجود صاروخ دونجفنج-41، وهوصاروخ جديد عابر للقارات قد يكون قادرا على حمل عدة مركبات إعادة الدخول يمكن توجيهها بشكل مستقل وبمدى يصل إلى الولايات المتحدة. وقد قال مؤخرا محلل عسكري صيني:"فيما تواصل [الولايات المتحدة] تعزيز نظامها الدفاعي الصاروخي، فان تطوير جيل ثالث من الأسلحة النووية القادرة على حمل عدة رؤوس سيظل هو التوجه السائد".

وعلى الرغم من أن الغرض الرسمي لنظام الدفاع الأمريكي ضد الصواريخ البالستية في آسيا هو الحماية ضد الأسلحة النووية لكوريا الشمالية، يبدو أن النظام يهدف في الواقع إلى منع الصين من الحصول على التكافؤ الاستراتيجي مع الولايات المتحدة. وهذا يعني أن إشراك الصين بشكل وثيق في عملية نزع السلاح والانتقال من إطار ثنائي الأطراف إلى إطار متعدد الأطراف للحد من التسلح ستكون إمكانية بالغة الصعوبة— حتى لو أمكن التغلب على الأزمة في العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا. لقد كان وو محقا تماما عندما قال إن "رفض واشنطن قبول قيود على دفاعها الصاروخي يجعل أهداف الإدارة [لنزع السلاح النووي] غير قابلة للتحقيق".

فكرة سيئة لكوريا الجنوبية

تخدم الدفاعات الصاروخية الأمريكية مصالح حلفاء الولايات المتحدة بشكل جيد— هذا هو ما قاله ليفيو هوروفيتس في الجولة الأولى. قد تكون حجة هوروفيتس صحيحة بالنسبة لبلده، رومانيا، وبلدان أخرى في أوروبا. لكنها ليست صحيحة بالنسبة لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، وهى بالتأكيد ليست كذلك بالنسبة لكوريا الجنوبية.

إن النهج التكيفي التدريجي في آسيا والمحيط الهادئ، الذي ناقشته تاتيانا أنيشكينا في الجولة الأولى، هو نظام دفاع صاروخي إقليمي تتصور الولايات المتحدة إنشاءه في آسيا. وسيتم إنشاء النظام من خلال مجموعتين من الحوارات الثلاثية—حيث تضم المجموعة الأولى الولايات المتحدة واليابان وأستراليا، بينما تضم الأخرى الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية. وتشكل المشاركة المحتملة لكوريا الجنوبية قلقا بالغا لدى الصين. في الواقع، تعد كوريا الجنوبية موقعا ممتازا لرادارات الدفاع الصاروخي التي تستهدف مراقبة اطلاق صواريخ كوريا الشمالية، لكن كوريا الجنوبية هي أيضا إحدى جارات الصين. لذا، فإن تركيب دفاعات صاروخية أمريكية هناك سوف يزيد من الشكوك الصينية بأن نوايا واشنطن الحقيقية هي تحييد الردع النووي لبكين.

غير أن كوريا الجنوبية مترددة في دمج نظام دفاعها الصاروخي، المعروف باسم الدفاع الجوي والصاروخي الكوري، في نظام الدفاع الصاروخي العالمي للولايات المتحدة. وقد تعهدت سيول بجعل دفاعاتها الصاروخية أكثر قابلية للتشغيل المتبادل مع دفاعات الولايات المتحدة، لكنها مازالت متمكسة حتى الآن بقرارها بعدم الانضمام إلى النهج التكيفي التدريجي في آسيا والمحيط الهادئ. إذ يرجع ذلك جزئيا إلى التوترات المتراكمة بين سيول وطوكيو حول ماضي اليابان في زمن الحرب، كما يرجع جزئيا أيضا إلى الحساسيات الصينية تجاه الدفاع الصاروخي الأمريكي. إن المصلحة العليا لكوريا الجنوبية هى الاستقرار في شبه الجزيرة الكورية؛ حيث تلعب الصين دورا رئيسيا هناك. لذا، سوف تستفز كوريا الجنوبية الصين إذا انضمت إلى برنامج الدفاع الصاروخي الباليستي الأمريكي. ومن شأن ذلك أن يمثل خيارا سيئا. ومع ذلك، تواصل الولايات المتحدة الضغط على كوريا الجنوبية للقيام بذلك.

في شهر يونيو الماضي، أوصى قائد القوات الأمريكية في كوريا الجنوبية بأن يتم نشر نظام دفاع صاروخي أمريكي معروف باسم الدفاع الصاروخي عالي الارتفاع في كوريا الجنوبية. وكانت الولايات المتحدة قد قامت قبل إصدار هذه التوصية بإجراء مسح للمواقع التي قد يتم نشر النظام فيها. غير أن نشر هذا النظام سوف يشكل تهديدا لصواريخ بكين التقليدية والنووية— وسوف يضر أيضا بالعلاقات بين الصين وكوريا الجنوبية.

وعلى أية حال، فإن الأساس المنطقي المفترض وراء الدفاع الصاروخي الأمريكي في آسيا هو التصدي لتهديدات الصواريخ الكورية الشمالية، إلا أنه لطالما تمت المبالغة في تقدير هذه التهديدات. في عام 1998، على سبيل المثال، قالت لجنة تقييم خطر الصواريخ البالستية على الولايات المتحدة إن "القوى الصاروخية البالستية الناشئة" مثل كوريا الشمالية وإيران قادرة على تطوير صواريخ بالستية عابرة للقارات "في غضون حوالي خمس سنوات من اتخاذها قرارا بالحصول على هذه القدرة". لكن بعد مرور ستة عشر عاما، فإن هذا الأمر يبدو به مبالغة شديدة. في شهر يونيو من هذا العام، قال دين ويلكينينج، عالم الفيزياء في مختبر لورانس ليفرمور الوطني،"تستنتج أنه إما أن كوريا الشمالية لم تكن لديها نية لبناء [صواريخ باليستية عابرة للقارات]، أو أن الأمر كان ينطوي على إيهام الناس بذلك. وأعتقد أن الرأي الأخير هو الصحيح".  

صحيح أن كوريا الشمالية أطلقت قمرا صناعيا بنجاح. إلا أنه يجب على بيونج يانج التغلب على عدة تحديات خطيرة قبل أن تتمكن من استخدام الصواريخ البالستية العابرة للقارات لحمل أسلحة نووية. أولا، تحتاج كوريا الشمالية لصنع محرك صاروخي أقوى من محركاتها الحالية المعتمدة على محركات سكود. ثانيا، يجب على كوريا الشمالية تطوير مركبات عائدة قابلة للتشغيل. إذ لا يمكن اختبار أداء هذه المركبات من خلال أنظمة الإطلاق الأرض أو الفضائي؛ حيث يجب أن يتم التحقق منها من خلال اختبارات طيران. ثالثا، تحتاج كوريا الشمالية لإنتاج قنبلة نووية صغيرة بما يكفي لحملها على صاروخ عابر للقارات. وهذا يعني أنه يجب على المجتمع الدولي القيام بمنع كوريا الشمالية من اختبار محركات صواريخ أكثر قوة واختبارات طيران للمركبات العائدة وتنفيذ تجارب نووية إضافية. لكن منع هذه الأنشطة لن يكون سهلا، وسيتطلب من المجتمع الدولي التعاون بشكل وثيق. وفي هذا الصدد، يمكن أن تلعب الصين دورا هاما في الجهود الدولية— لكن سوف تنخفض دوافع بكين للتعاون إذا قامت الولايات المتحدة بنشر دفاعات صاروخية رغم اعتراضات الصين.

Round 3

الاستقرار الاستراتيجي— جيد للمستفيدين منه

جادل ريكيانج وو وتاتيانا أنيشكينا باستمرار في هذه المائدة المستديرة لصالح الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي في الساحة النووية. بينما قدمت أنا عددا من الأسباب الداعية للتساؤل عن مدى قيمة الاستقرار الاستراتيجي. لكن هل أنا أختلف مع زميلىّ في هذه المائدة المستديرة لأن آرائي المتعلقة بالأسلحة النووية مختلفة جوهريا عن آرائهما؟ لا— فأنا اختلف معهما لأنني أنظر إلى الاستقرار الاستراتيجي من وجهة نظر مختلفة عن وجهة نظر وو وأنيشكينا.

يعتقد زميلاي أن التعرض لهجوم متبادل بين القوى العظمى يلغي القوة القسرية كأداة لتسوية النزاعات بين تلك القوى. فهما يجادلان بأن ذلك يمنع سباق التسلح ويقلل من خطر تصاعد التوترات وتحولها إلى نزاعات؛ وسيصبح العالم أكثر أمنا واستقرارا وسوف تستفيد جميع الدول من ذلك. كما يعتقد زميلاي أن الاستقرار الاستراتيجي بين القوى الكبرى هو خير للعالم أجمع، وينبغي على الجميع التمسك به.

إنني أتفهم بالتأكيد لماذا لا يريد وو وأنيشكينا أن تصبح دولتاهما (الصين وروسيا) معرضتين للتفوق العسكري للولايات المتحدة، ولماذا يجادلان لصالح التعرض لهجوم متبادل في المجال النووي. لكن حجتهما تصبح معيبة للغاية عندما يتم تطبيقها عالميا. فقد ينسجم "الاستقرار" بشكل جيد مع مصالح روسيا والصين، لكن ليس هناك سبب يدعو للاعتقاد بأنه ينسجم مع مصالح الجميع.

إن النظام الدولي، مهما كانت الظروف، هو نظام تنافسي للغاية. فالحكومات تعمل على تحقيق مصالحها الخاصة باستخدام جميع وسائل القوة المتاحة لديها. وقد تتعاون الدول في بعض الأحيان، لكن في الأغلب لا تتمكن الدول من تحقيق مصالحها إلا على حساب دول أخرى. في بيئة مثل هذه، يمكن أن يكون للاستقرار الاستراتيجي بين القوى العظمى عواقب غير مرغوب فيها بالنسبة للدول الأقل حظا. أي أن التعرض لهجوم متبادل بين الولايات المتحدة والصين وروسيا سوف يقلل من قدرة واشنطن على تقييد تصرفات كل من بكين وموسكو. وهذا من شأنه أن يترك العنان للصين وروسيا لتحقيق مصالحهما داخل الدول المجاورة على النحو الذي يريانه مناسبا. في حالة روسيا على الأقل، لا تشير التجربة التاريخية أن "استقرارا" أكبر سوف يؤدي إلى ما أسمته أنيشكينا "فضاء أمني مشترك في أوروبا". بل على العكس، فإنه سيسمح للدول القوية بالقيام بما ترغب في فعله بينما تقوم الدول الضعيفة بدفع الفاتورة.

لقد قام الاتحاد السوفيتي، في آخر مرة كانت فيها القوة الروسية غير مقيدة، بتوسيع مجال نفوذه الأوروبي إلى داخل الحدود الألمانية السابقة. كما فرض على الدول التابعة له نظاما سياسيا واقتصاديا فشل في إنتاج الثروة والازدهار الذي أنتجه النظام الغربي والذي فرضته الولايات المتحدة في أماكن أخرى. وأي محاولة للتهرب من الهيمنة الروسية كان يتم سحقها. لاحقا، عقب انهار الاتحاد السوفيتي، لم يكن أمام روسيا الضعيفة أي خيار سوى قبول العديد من القيود التي فرضتها الولايات المتحدة على قوتها. لكن الآن، وبعد مرور عقدين من الزمن، فإن روسيا التي استعادت قوتها مستاءة من القيود المفروضة على نفوذها وتستخدم القوة العسكرية لإخضاع أقاليم بأكملها تحت سيطرتها.

أنا لست من مؤيدي النهج الأخلاقية في السياسة الدولية— فأنا أعلم أن الأقوياء يفعلون كما يحلو لهم والضعفاء يجب عليهم تحمل المعاناة. أنا أتفهم لماذا تريد روسيا المحافظة على وصول عسكري إلى البحر الأسود وأقدر لماذا يريد الروس "استقرارا استراتيجيا". لكن ليس هناك من سبب يدعو واضعي السياسات في أوروبا الوسطى والشرقية لاستساغة احتمال إكتساب روسيا مجالا أكبر للمناورة.

لذا، فأنا ما زلت أدعي أن مصالح حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا الوسطى والشرقية سوف تعزز بواسطة نشر الدفاعات الصاروخية الأمريكية. حتى لو كانت الدفاعات الصاروخية الأمريكية غير فعالة، فإنها تعزز من الصفقات عبر الأطلسية. أي أن الهيمنة البعيدة توفر للدول الأوروبية بيئة أمنية غير خطيرة في مقابل الحق في الاحتفاظ بعدد قليل من القواعد العسكرية والمشاركة في حروب الولايات المتحدة البعيدة بعدد ضئيل من الأفراد العسكريين المحليين وبعض الامتيازات الاقتصادية القليلة.

من وجهة نظر دول أوروبا الوسطى والشرقية، فإن الجانب الأكثر أهمية في هذا النظام هو أنه يشجع الديمقراطية ويعزز النمو الاقتصادي. لذلك، فإن القوى الصغرى مثل رومانيا على استعداد لقبول فكرة احتمال إثارة الدفاع الصاروخي عدم الاستقرار الاستراتيجي. وبدون شك، سوف يكون سباق التسلح بين القوى العظمى مسببا للمشاكل. وأي أزمة متصاعدة بين هذه القوى ستكون مقلقة للغاية. لكن من المرجح أن تعود فوائد "الاستقرار" على الدول الكبرى وذلك على حساب الدول الصغرى. لذا، سوف تفعل دول أوروبا الوسطى والشرقية ما في وسعها للتأكد من أن الولايات المتحدة تحتفظ بموطئ قدم لها في القارة، ما دام سعي روسيا لبسط نفوذها لا يعد تلك الدول بنفس المزايا التي تقدمها الصفقات عبر الأطلسية.

نعم لنزع السلاح إذا جلب الاستقرار

كتب ليفيو هوروفيتس في الجولة الثانية يقول إنه لم يفهم لماذا يفضل "دعاة الاستقرار"، من أمثالي أنا و وو ريكيانج، نزعا كاملا للسلاح النووي. إن نزع السلاح، في رأيه، سوف "يعرض روسيا والصين إلى التفوق العسكري التقليدي للولايات المتحدة " (إلا إذا تم تأسيس حكومة عالمية أو تم القضاء على الأسلحة بجميع أنواعها). كما ساوى هوروفيتس أيضا بين الاستقرار الاستراتيجي وبين التدمير المؤكد المتبادل— لكنهما ليسا شيئا واحدا بأي حال. وقد يفسر إخفاق هوروفيتس في التمييز بين الاثنين عدم قدرته على فهم كيف يمكن لـ "دعاة الاستقرار" أن يفضلوا نزع السلاح.

عندما كتب هوروفيتس يقول إن التدمير المؤكد المتبادل هو "المعروف أيضا بـ"الاستقرار الاستراتيجي"، فقد فشل في الاعتراف بأن معظم المفاهيم الحديثة عن الاستقرار الاستراتيجي تشمل الكثير إلى جانب الأسلحة النووية بعيدة المدى التي تعتبر ضرورية للتدمير المؤكد المتبادل. فهى تشمل أيضا الدفاع الصاروخي والأسلحة التقليدية الدقيقة والأسلحة الفضائية والأسلحة النووية التكتيكية، وهلم جرا. إضافة إلى ذلك، فشل هوروفيتس في الاعتراف بأن الاستقرار الاستراتيجي، على حد تعبير وو، هو "وسيلة لا غنى عنها لمنع سباق التسلح النووي في وقت السلم ومنع نشوب حرب نووية أثناء الأزمات". ليس المقصود بالاستقرار الاستراتيجي هو كم عدد المرات التي يمكن أن تقوم فيها القوى النووية بتدمر بعضها البعض. ولكن يقصد به كيفية تجنب التدمير في المقام الأول. هذا بالضبط هو السبب وراء تقدير "دعاة الاستقرار" للاستقرار الاستراتيجي.

وقد يفضل "دعاة الاستقرار" أيضا نزعا كاملا للسلاح، لأنهم يدركون الأخطار الناجمة عن الأسلحة النووية. لكن نزع السلاح ليس غاية في حد ذاته بالنسبة للدّاعين إلى الأمن. فهو أمر يجب الدعوة إليه إذا ما جعل العالم أكثر استقرارا وأمانا. ومع ذلك فقبل أن يتمكن نزع السلاح من جعل العالم أكثر أمانا، لا بد من إعادة هيكلة التدابير الأمنية العالمية. إذ يجب على النظام الدولي التأكد من أن جميع الدول تتمتع بالأمن بشكل متساوي. فلن يقوم خبير في الحد من التسلح يتمتع بالحصافة—سواء كان روسيا أو صينيا أو أمريكيا— بالجدال من أجل نزع كامل للسلاح إذا أدى ذلك إلى إنخفاض الأمن.

بيئة مضطربة. جادلت أنا و وو طوال هذه المائدة المستديرة بأن نشر الدفاعات الصاروخية الأمريكية يقوض الاستقرار الاستراتيجي. إذا استمرت الولايات المتحدة في نشر مزيد من الدفاعات الصاروخية، ولم تتمكن روسيا والصين من مواجهة هذا الانتشار بطريقة تحافظ على التوازن الاستراتيجي داخل المثلث الأمريكي-الروسي-الصيني، فستكون النتيجة هى أزمة في العلاقات السياسية-العسكرية بين الدول الثلاث. وهذا لا يعني بالضرورة أن تقوم روسيا والصين بتشكيل تحالف سياسي-عسكري والاستعداد للمواجهة مع الولايات المتحدة. بل يعني أن البيئة السياسية والنفسية ستكون مضطربة.

إن ذلك سيكون سيئا بالنسبة لجميع الدول المعنية— بما في ذلك دولة هوروفيتس، رومانيا. لذا، عندما يجادل هوروفيتس بأن نشر الدفاعات الصاروخية الأمريكية تساهم في أمن حلفاء الولايات المتحدة بمعنى أنها تعزز من ضمانات واشنطن الأمنية، فإنه بذلك ينظر إلى جزء واحد فقط من الصورة. إذا نجحت الولايات المتحدة في بناء نظام دفاع صاروخي فعال بدون اشراك روسيا في الأمر، فإن بناء فضاء أمني مشترك في أوروبا سيكون صعبا للغاية. وسيتم إنشاء خطوط تقسيم جديدة. لذا يصعب فهم كيف يمكن أن يخدم ذلك مصالح دولة مثل رومانيا.

الاستقرار الاستراتيجي (لا يزال) منطقيا

استغربت قليلا مما كتبه ليفيو هوروفيتس في الجولة الثانية بأن تخفيض الترسانات النووية للقوى العظمى يشكل أهمية محدودة للدول الصغيرة غير النووية مثل دولة هوروفيتس، رومانيا. فقد كتب يقول"ما الفرق الذي سيحدث إذا استطاعت روسيا تدمير رومانيا 1000 أو 2000 مرة؟" بالتأكيد، لن يحدث ذلك فرقا على الإطلاق— لكن في حال تم تفجير قنبلة نووية في رومانيا، فسوف يحدث ذلك فرقا بدون شك. إن إحراز تقدم في نزع السلاح سوف يقلل من خطر نشوب حرب نووية عالمية، لذا فإن نزع السلاح يمثل أهمية لأى دولة لا ترغب في أن تكون ساحة حرب نووية.

قام أيضا هوروفيتس بالتشكيك في قيمة الاستقرار الاستراتيجي، حيث وصفه بأنه نهج واحد فقط لمعالجة المشاكل التي تشكلها الأسلحة النووية. لكن ليست هذه هى الكيفية التي ينظر من خلالها أشخاص مثلي أنا وتاتيانا— "دعاة الاستقرار" على حد تعبير هوروفيتس— إلى الأمور. إن دعاة الاستقرار يؤمنون بأن الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي هو وسيلة لا غنى عنها لمنع سباق التسلح النووي في وقت السلم ومنع نشوب حرب نووية أثناء الأزمات. وبلا شك، يفضل صناع السياسة تحقيق تفوق استراتيجي— والمتمثل في القدرة على تدمير أسلحة العدو النووية بالكامل في الضربة الأولى. لكن صناع السياسة، ممن لا يفضلون أن يكونوا عرضة لهجوم أو انتقام نووي، ليسوا معجبين كثيرا بالاستقرار الاستراتيجي. إلا أن منشآت القوة المستقرة تجعل من التعرض لهجوم متبادل حقيقة واقعة، وليس خيارا. وليس أمام صناع السياسة سوى التسليم بهذه الحقيقة.

لم يكن في مقدرة الولايات المتحدة أوالاتحاد السوفيتي تحقيق تفوق نووي خلال الحرب الباردة، لذلك أخذ الاستقرار الاستراتيجي شكل الدمار المتبادل المؤكد. لكن بالنسبة للعلاقات الأمريكية-الصينية اليوم، أصبحت المعايير مختلفة (ويجب أن تكون كذلك). إن الصين لم تسعَ يوما للوصول إلى التكافؤ الاستراتيجي مع الولايات المتحدة. وكانت دائما الترسانة النووية لبكين متواضعة الحجم، كما أن الأسلحة النووية الصينية لا يتم وضعها في حالة تأهب قصوى. حتى إن الترسانة النووية الصينية، في الواقع، لا تعطي بكين قدرة مؤكدة للرد على هجوم نووي. بل تعمل  الترسانة الصينية فقط على وجود حالة "شك من الضربة الأولى". وهذا يعني أن الولايات المتحدة تفتقر إلى الثقة الكاملة في أنه يمكنها تدمير كل الأسلحة النووية الصينية، في حين تفقتر الصين إلى الثقة الكاملة في أن واحدا على الأقل من رؤوسها الحربية سوف ينجو عقب أي هجوم في الوقت الراهن، هناك حالة من الشك تكفي لبقاء العلاقات الصينية-الأمريكية غير مستقرة.

وبرغم ذلك، فإن وجود نظام دفاع صاروخي أمريكي أكثر فعالية، وذلك من خلال الحد من احتمالات قدرة الصين على الرد على أي هجوم أمريكي، سيكون لديه القدرة على زعزعة استقرار العلاقات الصينية-الأمريكية بشكل خطير. لذا، فإن أفضل طريقة لمنع هذا الخطر هو أن تقبل الولايات المتحدة بوضع قيود على دفاعها الصاروخي في حين توافق الصين على إبقاء حجم ترسانتها صغيرا. لكن واشنطن ترفض قبول أي قيود—برغم تصريحاتها المتكررة باستعدادها لمناقشة مسألة الدفاع الصاروخي مع الصين.

إن أساس المشكلة هو أن بعض الاستراتيجيين الأمريكيين يرغبون في تحقيق تفوق نووي على الصين. وهذا ما يجعل إدارات الولايات المتحدة مترددة، أمام الصين، في استخدام مصطلح "التعرض لهجوم متبادل" بشكل علني. لذا، لا تستطيع الولايات المتحدة سوى أن تقدم للصين شكلا مرنا وغامضا من الاستقرار الاستراتيجي.

وبسبب المواقف السائدة في الولايات المتحدة، فمن المرجح أن تتم توسعات الدفاع الصاروخي الأمريكي بنفس سرعة التقدمات التقنية. وستكون الميزانيات هى القيد الوحيد أمام هذه التوسعات. وأخشى من وقوع أسوأ النتائج المحتملة: وهى أن تقوم الولايات المتحدة بشكل مستمر وأحادي الجانب بتنشر قدرات دفاعية صاروخية بشكل أكبر، مما يجعل الصين تقابل ذلك بتصنيع المزيد من الأسلحة النووية.



Topics: Nuclear Weapons

 

Share: [addthis tool="addthis_inline_share_toolbox_w1sw"]

RELATED POSTS

Receive Email
Updates