تأثير مختَلفٌ عليه— لكن لا يمكن تجاهله
By Ahmed Abdel Latif: AR |
كان حجم العوائق التي تضعها حقوق الملكية الفكرية أمام نشر التقنيات منخفضة الكربون في الدول النامية من بين القضايا الأكثر إثارة للجدل في محادثات المناخ العالمية خلال السنوات الأخيرة. لم يتم التوصل إلى اتفاق حول العناصر الأساسية لهذه القضية، بل إن حتى تحديد مسار نحو حوار بناء يبدو صعبا وغير مؤكد.
بدأ هذا النقاش على الأقل منذ قمة الأرض الأولى في عام 1992 ومازال مستمرا. أسفرت هذه القمة عن خطة عمل للتنمية المستدامة عرفت باسم جدول أعمال القرن 21، والتي تناولت بشكل واسع نقل التقنيات السليمة بيئيا، بما في ذلك دور حقوق الملكية الفكرية. كما تضمن جدول أعمال القرن 21 إشارة إلى استخدام الترخيص الإجباري— وهى آلية تسمح من خلالها الحكومة لطرف ثالث بإنتاج منتج حاصل على براءة اختراع أو استغلال طريقة حاصلة على براءة اختراع دون الحصول على موافقة صاحب البراءة. نجمت هذه اللغة جزئيا عن الصعوبات التي واجهتها بعض الدول النامية في تنفيذ بروتوكول مونتريال لعام 1987 بشأن المواد المستنفدة لطبقة الأوزون. وعلى وجه الخصوص، كان من المفترض أن يتم التخلص تدريجيا من مركبات الكلوروفلوروكربون بموجب البروتوكول، لكن الممارسات التقييدية من قبل موردي التقنيات في الدول الصناعية جعلت من الصعب على شركات في دولة مثل الهند الحصول على بدائل أخرى.
ونجد حاليا، كما كان سابقا، أن مواقف الاستقطاب هى التي تميز النقاش حول حقوق الملكية الفكرية. فمن جانب، هناك من يعتقد أن حقوق الملكية الفكرية تشكل عائقا أمام نشر التقنيات منخفضة الكربون بأسعار معقولة وعلى نطاق واسع في العالم النامي. ومن جانب آخر، هناك من يعتقد أن حقوق الملكية الفكرية تلعب دورا أساسيا في تشجيع الابتكار وبالتأكيد في نشر التقنيات منخفضة الكربون.
هناك عدد من الدول النامية تتبنى وجهة النظر الأولى. حيث ترى أن تسجيل براءات الاختراع للتقنيات منخفضة الكربون لا تزال تهيمن عليها دول تابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بدرجة كبيرة. وكما هو موثق في تقرير براءات الاختراع والطاقة النظيفة، الذي صدر عام 2010 وشاركتُ في تحريره، فقد قُدمت حوالي 80 في المئة من طلبات براءات الاختراع في مجال تقنيات توليد الطاقة النظيفة من اليابان والولايات المتحدة وألمانيا وكوريا الجنوبية والمملكة المتحدة وفرنسا (مع أن هناك عدد من الاقتصادات الناشئة، مثل الصين، توضح وجود تزايد في التخصصات في بعض القطاعات الفردية). بالإضافة إلى ذلك، يشير التقرير إلى أن تسجيل براءات الاختراع في مجال تقنيات توليد الطاقة النظيفة ارتفع بمعدل سنوي بلغ 20 في المئة من عام 1997 إلى عام 2008. وهذا يعكس زيادة أعداد الملكيات لهذه التقنيات، الأمر الذي قد يجعل نشر هذه التقنيات على نطاق واسع وبأسعار معقولة أكثر تحديا. وفي الوقت نفسه، أظهر عدد من دراسات الحالات أن بعض الشركات من دول مثل الصين والهند والبرازيل يمكن أن تبقى محصورة في المراتب الدنيا من نظم الابتكار وعمليات الإنتاج لأنهم مجبرون على الحصول على التقنيات من حائزي التقنيات من الدرجة الثانية.
نتيجة لذلك، اقترحت الدول النامية مجموعة من التدابير— بعضها أثار أيضا جدلا مماثلا حول إمكانية الحصول على الأدوية— والتي من شأنها تسهيل الوصول إلى التقنيات منخفضة الكربون. وتشمل هذه التدابير التوسع في استخدام الترخيص الإجباري ومرونات أخرى في صكوك الملكية الفكرية الدولية؛ واستبعاد تقنيات تغير المناخ من براءات الاختراع في الدول النامية؛ وتدابير أخرى مثل إنشاء اتحادات لبراءات الاختراع (patent pools) . لكن سنّ بعض هذه التدابير قد يستلزم تغييرات في قواعد الملكية الفكرية العالمية، وخاصة القواعد المرتبطة باتفاقية الجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية، والتي تحدد المعايير الدنيا التي يجب على جميع أعضاء منظمة التجارة العالمية الالتزام بها.
لكن العديد من الدول الصناعية ومؤسسات القطاع الخاص عارضت بشدة هذه المقترحات، وكذلك الأسس المنطقية التي تستند إليها. حيث جادلوا بأن حقوق الملكية الفكرية لم تمنع شركات في الاقتصادات الناشئة مثل الصين والهند من أن تصبح في مقدمة اللاعبين العالميين في قطاعات معينة، مثل شركة "صن تيك" في مجال الخلايا الشمسية الكهروضوئية وشركة "سوزلون" الهندية في مجال طاقة الرياح. كما أوضحوا أيضا أن هناك دراسات حديثة تشير إلى أن عددا قليلا نسبيا من طلبات براءات الاختراع تم تقديمها حتى في أشد الدول فقرا. على سبيل المثال، وجدت دراسة أجريت عام 2013 أن طلبات براءات الاختراع المتعلقة بتقنيات الطاقة النظيفة التي قدمت في إفريقيا في الفترة ما بين 1980-2009 كانت أقل من 1٪ من إجمالي براءات الاختراع العالمية. وبالتالي خلص التقرير إلى أن براءات الاختراع لا تمثل عائقا كبيرا أمام نقل تقنيات الطاقة النظيفة إلى الدول الأفريقية.
باعتبار كل ما سبق، فإن تأثير حقوق الملكية الفكرية على التقنيات منخفضة الكربون في الدول النامية معقد ويصعب قياسه كميا على السواء. إن التأثيرات غالبا ما تختلف من تقنية إلى أخرى، ويصعب في كثير من الأحيان عزلها عن مجموعة متنوعة من العوامل الاقتصادية والمؤسسية الأخرى. كما أن التنوع الاستثنائي لتقنيات تخفيف آثار تغير المناخ والتكيف يجعل من الصعب التوصل إلى نتائج قاطعة؛ إذ ينبغي على المرء دراسة تقنيات وقطاعات ودول وحالات معينة. إن الأدلة التجريبية، المحدودة إلى حد ما، لا تزال مستجدة وقد ركزت في معظمها على تقنيات التخفيف من آثار تغير المناخ وعلى عدد قليل من الدول النامية— على الاقتصادات الناشئة على وجه الخصوص. كما أن وضع السوق ذاته يتطور بسرعة.
إن المطلوب حاليا، إلى أن تتضح الأمور أكثر، هو عمل نقاش منظم ومتدرج وبنّاء حول هذه القضايا. إذ يمكن أن يبدأ النقاش بدراسة مبادرات وتدابير عملية التي قد تشجع على نشر التقنيات منخفضة الكربون في الدول النامية. ويمكن أن ينتقل النقاش في النهاية إلى مناقشات أكثر إثارة للجدل بشأن وضع المعايير— وما إذا كانت الأدلة التجريبية تدعو إلى دراسة إجراء تغييرات محتملة للقواعد العالمية التي تحكم الملكية الفكرية، وهو إجراء يبدو بعيد الاحتمال في الوقت الراهن.
هناك تدابير فورية أخرى جديرة بالدراسة وتشمل تحسين إتاحة المعلومات المتعلقة ببراءات الاختراع للتقنيات منخفضة الكربون— وهى قضية يعمل عليها حاليا المكتب الأوروبي للبراءات. الشراكات بين القطاعين العام والخاص تبشر أيضا بالخير. على سبيل المثال، أطلقت المنظمة العالمية للملكية الفكرية (ويبو) منصة سوق تفاعلية تعرف باسم "ويبو جرين" والتي "تشجع الابتكار ونشر التقنيات الخضراء".
لقد ركز تقرير نشر مؤخرا من قبل اللجنة العالمية للاقتصاد والمناخ بوجه خاص على إنشاء اتحادات لبراءات الاختراع (patent pools) ، والتي يمكن أن تضمن الحصول على تقنيات للبيئية والقضاء على تكاليف وصعوبات الدخول في اتفاقات قانونية مع أصحاب براءات الاختراع المتعددين. ويدعو التقرير إلى تطوير اتحادات براءات الاختراع للتقنيات منخفضة الكربون— كما يدعو المؤسسات لتوفير الدعم للدول الفقيرة لضمان حصولها على هذه التقنيات. وفي سياق مماثل، اقترحت الدول النامية أن يقوم صندوق المناخ الأخضر الجديد التابع للأمم المتحدة بتغطية تكاليف الدول النامية للحصول على تقنيات منخفضة الكربون إذا كانت تكاليف الترخيص مرتفعة جدا.
أخيرا، ينبغي أن يُنظر إلى حقوق الملكية الفكرية في سياق واسع من السياسات الملائمة والمؤسسات المناسبة والموارد التي تشجيع على ابتكار تقنيات منخفضة الكربون وكذلك ضمان نشر منافعها على نطاق واسع. لكن يجب ألا يتم المغالاة في أهمية حقوق الملكية الفكرية أو التقليل من شأنها. إن الأمر المؤكد هو أن حقوق الملكية الفكرية لا يمكن تجاهلها. لكن مناقشة هذه القضايا يجب أن تتم بصورة منظمة وتدريجية. ويجب أن تركز على التدابير والمبادرات العملية. كما يجب أن تعتمد على أدلة تجريبية وحالات ملموسة. بخلاف ذلك، سيظل التوصل إلى اتفاق حول التقنيات منخفضة الكربون وحقوق الملكية الفكرية أمرا صعب التحقيق، سواء في منظمة التجارة العالمية أو اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ.